أعشق شد الرحال والسفر، واستكشاف المدن والبشر، قد يأخذني كتاب في رحلة تظل عالقة في ذهني وتبقي تفاصيلها في عقلي وما أدراك، لو تمكنت من السفر إليها، وشاهدت أهلها وتفاعلت مع ثقافتها، الأمر هنا مختلف تمامًا، خاصة إذا مرت عقود من الزمن على ما قرأت، وعندما تكون وجهتك للسفر إحدى بلاد الشرق المغلفة بحالة من الغموض والسحر، والرغبة في الاستكشاف، تلك كانت رحلتي إلى بلاد فارس خلال العام 2013.
كانت الزيارة إلى طهران لاستكشاف فرص التعاون السياحي بين الجانبين المصري والإيراني، ومن بين الوفد المصري مجموعة من الزملاء الصحفيين، المتخصصين في ملف السياحة والسفر، كنت من بينهم، وخلال الرحلة تم ترتيب مجموعة من الزيارات للمقاصد السياحية، في طهران ما بين القصور الامبراطورية التي تحولت إلى متاحف، وبعض المطاعم التي تقدم الأطعمة المشوية.
ذاكرتي كانت تحتفظ ببعض المعلومات عن إيران ما قبل ثورة الخميني، وأخرى في مرحلة تالية للثورة، وبالتالي كان كل شيء يمر من أمام نظري يخضع للمقارنة.
في اليوم التالي لي من الوصول كنا نبحث عن مكان لتناول الطعام خارج جدران الفندق، وبالفعل ذهبنا إلى مكان في وسط طهران، وكوني مدخنًا للشيشة، دائما ما كنت أتساءل هل يقدم المطعم الشيشة؟! لكن لم أكن أتوقع أن تكون الإجابة نعم! كان لدي اعتقاد كبير أن الثورة الإسلامية تمكنت من فرض قيم اجتماعية منطلقة من أيديولوجية دينية على ذلك المجتمع، وتمكنت مثلا من منع الاختلاط بين الرجل والمرأة، بشكل كامل، وفرضت "الشادور" (الزي التقليدي للمرأة)، لكن الأمر هنا كان يخضع للعقل الجمعي للمجتمع، يمكنك أن تفرض ما تريد وتضعه في مواد قانونية، لكن كل شخص سوف يتصرف وفق إرادته الشخصية، وسوف يتحايل على ما فرض عليه من جانب السلطة.
كان لدي شغف كبير في الحديث إلى الشباب المجاورين إلى جلستنا بالمطعم، وبالفعل تحدثت إلى بعضهم من الشباب والنساء، وتعرف بعض الحضور منهم إلينا بشكل طبيعي، وكان لديهم شغف كبير بمعرفة مصر وأبرز المقاصد السياحية فيها، وبالفعل زارت مجموعة سياحية إيرانية مدينة الأقصر، خلال العام 2013، وفي أثناء الحديث إلى الشباب كان اللافت لي طبيعة ملابسهم الغربية، الفارق الوحيد غطاء الرأس الذي ترتديه الفتيات والذي ينزلق في أغلب الوقت من فوق الرأس، وهو ملزم بحكم القانون لهن وعدم ارتداء غطاء الرأس يعرضهن للمساءلة من جانب الشرطة، لكن من تحدثت إليها حول ذلك كانت إجابتها تشير إلى عدم قناعتها لكنها مضطرة لذلك حتى لا تتعرض للمساءلة.
وغالبية الشباب الإيراني يتطلع للهجرة إلى الخارج، بعضهم بحثا عن فرص أفضل للعمل والحرية الاجتماعية، التي يحظون بها بعيدا عن القيود التي تفرضها الدولة عليهم، كان رغبة المواطن الإيراني ما قبل الثورة التخلص من جحيم السفاك (الجهاز الأمني خلال حقبة حكم الشاه)، الحياة في ظل ديمقراطية تشبه النموذج الغربي، لكن تطور الأحداث قدم له نموذجًا آخر، تختلف معه شريحة ليست صغيرة من المجتمع، لا تزال تبحث عن النموذج الغربي من الديمقراطية والحرية الاجتماعية.
وفي يوم تالٍ من الرحلة تلقينا دعوة للعشاء في أحد مطاعم العاصمة طهران، وهنا أيضا كانت مفاجأة آخرى في انتظاري بحكم ما طالعت عن تلك المدينة التي شهدت تحولات اجتماعية كبرى، حتى أن الموسيقى كانت من الأمور المكروهة بعد ثورة 1979، فقد استمعنا خلال تناول العشاء إلى فرقة موسيقية، تعزف أغنية أنت عمري لكوكب الشرق أم كلثوم، وكان الحضور من رواد المطعم يتمايلون طربا مع الموسيقي الشرقية، بالرغم من عدم فهم الحضور لكلمات الأغنية العربية، فيما انتهى المغني من أدائها و قام بتحيتنا عندما علم أننا مصريين، ثم قام بأداء بعض الأغاني للفنان عمرو دياب.
انتهينا من العشاء قبل موعد الإغلاق وعلى ما أتذكر لم يتجاوز 11 مساء، لأن هناك موعدًا محددًا لإغلاق المطاعم، وبالرغم من فرض قيود اجتماعية وثقافية على المجتمع الإيراني، إلا أنك تجد هناك من يعشق الموسيقى والفن التشكيلي، ولديه أحلام للسفر والهجرة لتحقيق ذاته بعيدا عن تلك القيود.
تملك طهران مقومات طبيعية من جبال ومساحات خضراء تؤهلها لتكون مقصدًا سياحيًا مهمًا، لكن القيود الاجتماعية والثقافية المفروضة عليها إلى جانب حالة التجاذب السياسي والعزلة الدولية، تقف حائلا بينها وبين النشاط السياحي بالمفهوم التقليدي، حيث تعتمد إيران على حركة السياحة الدينية الوافدة إليها.
وعلى الرغم من حالة العداء بين نظام الثورة الإسلامية، ونظام الشاه، إلا أن الحكومة الإيرانية تمكنت من الحفاظ على القصور وجعلت منها متاحف تروي تاريخ الدولة، ومن بين تلك المتاحف كان لنا زيارة لمتحف يضم مقتنيات الامبراطورة فوزية، من تيجان وأكسسوار كان قد تم تصميمه لها خصيصا من جانب أعظم فناني أوروبا آنذاك ..
وللحديث بقية ..