كرة القدم سادت وطغت وصارت منذ زمن أكبر من مجرد لعبة تتناقلها الأقدام، فهى الآن سياسة واقتصاد وعلم وإعلام وإعلان وجماهيرية ساحقة، ووسيلة انتماء وأداة إلهاء ونوعا من الهروب من مكدرات الحياة، فأمام تجارب الفشل المتكررة لا يجد الإنسان أمامه أفضل منها فرصة لتمنحه نشوة الانتصار والفرح ولو بأقدام الآخرين.
بل إن فرقها صارت بمثابة كيانات بديلة قادرة على استيعاب طاقات بشرية ربما لا يستطيع الفرد تحقيقها بواقعه الجاد، فهو فيها قادر على اختيار من يمثله ومعارضته وإسقاطه بأريحية، وفيها يحيا تجربة تبادل السلطة بشكل آلى وسلس، أما فى مبارياتها فله أن يطلق العنان لكل طاقاته المكبوتة من غضب وفرح وحزن و..و...
ومن ثم، فنقد طغيانها، وإن كان بحسب مفهومى، واجب أخلاقى فإنه لن يُحدث أثراً حالاً، وإن كان يمكنه بالتراكم صنع ما يشبه مكابح السيارات لتعود رياضة مُمتعة تُهذب وتُسعد وتفرغ ما لدى الفرد من مخزونات عاطفية بشكل يمكنه من ممارسة حياته الجادة على نحو منتج وصحيح، فمن غير المقبول أن تصبح هى عماد الحياة ومحورها.
وتوظيف كرة القدم خارج سياقها المقبول يؤدى لمضار حالية ومستقبلية، لكن تركها تعمل بحدود الإمتاع وإيناع الانتماء، فلا شك مفيد، فما نراه مثلاً من تشابكات وقضايا بساحتها المحلية لا يمكن النظر له من زاوية واحدة ضيقة ومحدودة، فشغل الجماهير لا يمكن أن يكون هدفاً بذاته، فالكرة هكذا تتحول لأداة تعبث بالطاقات وتفرق وتمزق.
المفارقة هنا أن التمييز بين الفرقاء المتصارعين يبدو بكثير من الأحيان نوعاً من الاختيار بين سيئ وأسوأ، بين فساد وقح وآخر ناعم، وهذا يعكس مشهداً بغيضاً يدعو لإعادة ترتيب الأوضاع من النقطة صفر.
أيضاً ما يحدث لفرقنا الشعبية من إفقار بعدما اختلطت المفاهيم وتبدلت الأدوار، فالشركات والمؤسسات التى يفترض أن تدعم وتساند تحولت لند ومنافس، يحتاج لنظرة مغايرة سريعة وإلا فهبوطها وربما زوالها قادم.. قادم، وحينها سيحدث فراغ يصعب شغله.
فمخطئ من يتصور أن هبوط أو فناء تلك الأندية سيزيل التعصب، فهو على العكس سيزيد الاحتقان وينمى الإحساس بالتفرقة، فالإسماعيلى والمصرى مثلاً ليسَت مجرد فرق لكرة القدم، فمن ينظر لظروف نشأتهما أيام الاحتلال الإنجليزى وطبيعة دورهما بزمن التهجير الذى تلى هزيمة 67 سيدرك المعنى الذى قصده على أبوجريشة حينما صرح بأن الإسماعيلى أمن قومى.
ومن ثم فالرهان على فيتامينات الكومى وأبوعلى ومصيلحى لضمان بقاؤهم واستمرارهم مخاطرة يصعب ديمومتها، فماذا بعد هؤلاء؟! أيضا الحديث المعاد عن تنمية الموارد لا يمكن استساغته فى ظل المضروب عليهم من قيود قانونية وممارسات احتكارية وتمايزات غير عادلة.
فالأمر يحتاج عن جد إذا كان هناك إرادة حقيقية للحفاظ عليها لنوع مختلف من الرؤيا، إما بإعادة الشركات والمؤسسات لدورها الطبيعى كمعلن ومساند وليس كمنافس أو بدعمها بشكل مباشر من الكيانات الإقتصادية الواقعة بنطاقها الجغرافى انطلاقا من دورها المجتمعى المأمول.
كذلك الحديث عن نظافة المال الداعم لكرة القدم ينبغى عدم إفلاته أو الاستهانة به، فالمنافسة الشرسة والمغالاة بأسعار اللاعبين والأجهزة الفنية يثير عن جد الشبهات، فلربما تسرب مال فاسد أو غير نظيف ليلبى حاجات كروية جماهيرية أو ليمنع فرقاً شعبية من السقوط.
جميلة كرة القدم عندم تكون مصدراً لعواطف شجية ساخنة، لكن عندما تصبح بابا للتعصب والفرقا والتمزق فذاك قبيح لا سيما فى لحظة نحن أحوج فيها ما نكون لرتق الشمل والتوقف عن إقصاء الغير لمجرد الخلاف بالرأى.