الخميس 9 مايو 2024

يوميات شاعر ينطق بحكمة الدمية


جورج ضرغام

مقالات27-9-2022 | 22:00

جورج ضرغام

في حديقة الحيوانات. كانت أمي تمسك بيدي، وتريدني أن أمسك  بيد شقيقتي الكبرى. كنتُ أرفض الفكرة التي تشعرني بالملل العائلي، وأصر أن أمسك بيد دمية صغيرة اشتريتُها بمنديل حزن مزور [يشبه نقود الشعراء] من نخّاسٍ طيبٍ كان يمتلك متجرًا لبيع النساء الصغيرات!

 سأمسك بيد دميتي.. سنصل لنهاية الطريق حين نكبر معًا في حذاء اللهفة. المسافة عرجاء، فكدنا نقع.. لكنَّ يد الأشجار خلعتْ قفّاز غيرتها، وأنقذتنا من انكسار عظمة الخيال، ثم أهدتنا قرطها لنبيعه لصرخةٍ لها أذن موسيقية صغيرة، لم تكن تسمعنا.

الفرح يموت صغيرًا. الفرح يموت من الفزع، تخنقه تجاعيد الخجل من علو النافذة والنظرات!

من يغفر للوردة سذاجتها؟.. هل ما زلتُ طيبًا كخبز أبي؟.. هل تهدينا الدمية حكمتها يوم مشيبها؟.. هل تنطق يد الدمية باسم اليد التي أرضعتها من أفكار العرق الغامضة؟!

عرفتُ حكمة الدمية. أخبرتني روحها الملونة بالسر! لا يدرك هؤلاء الأطفال أنَّ تلك الخطوط  الغامضة التي يلطخون بها وجه الدمية وكفها الصغير، هي أمنيات كبرى، مكتوبة بلغة مبهمة، تترجمها الدمية بصمتٍ إلى روحها التي تصعد بتلك الأمنيات إلى السماء ليلة "الثامن عشر من يونيو" في كل عام! وهي عشية عيد ميلادي الذي اصطفته الدمية كمكافأة سخية لي. ربما لأني أطعمتُ قطة جائعة تشبهها. أو أحببتُ امرأة جائعة تشبهها. أو كتبتُ قصيدة رومانتيكية للثلاث أخوات [الدمية، القطة، المرأة التي شهقتْ في كوابيسهما!].

فاكتبوا قصائدكم للدمى.. ترعَ أطفالكم وأنتم في منفى الخيال!!

جارتي التي تجاوزتْ الأربعين من عمرها. باعتْ كل ما تملك، واشترتْ شجرة زيتون، وأتيليه لتصميم ملابس للدمى!

لم ترفض الإيمان يومًا بأنَّ النساء الجميلات في سن اليأس يوددن أن يحبلن بدمى فصيحة.. لا بأطفال تشبه الشعراء [هذا الحَبَل المعجزي كان يحتاج فقط إلى ذاكرة قهوة، وقصيدة جيدة تؤخذ على ريق المساء!]. 

كانتْ تمدُّ يدها لتمسح شعر كل دميةٍ بزيت الزيتون كتاج لقديسة العهد، وتلبسها فستانًا بلون سرها! ثم تسلمها للأطفال المختارين.. وتوصي أمهاتهم، بأن تأتي كل طفلةٍ وتكتب على جذع الشجرة التي أوصتْ أن تُدفن تحتها: اسم الدمية مقترنًا باسمها الثلاثي، فهذا أفضل لبقاء السلالة: "أول نسل العائلة شجرة عاقر.. وآخر نسلها دمية وفيّة!".

دائما ما تراودني خاطرة بأنَّ طباعة دواوين الشعر أصبحتْ فكرة سمجة للغاية.. لا تناسب العصر، وعلينا استبدالها بأساليب أكثر دهشة، كي ننهض بصناعة عاطفة لا تنتهي صلاحيتها، ونحفظ تراثنا الشعري بين أيادٍ نظيفة جدا. لم لا نصمم دمية للصغار تنطق بقصائدنا.. ونسميها: "الدمية الفصيحة"؟!

Egypt Air