الثلاثاء 21 مايو 2024

لماذا كتب كرم النجار مسلسل محمد رسول الله؟

فن5-10-2022 | 22:10

جرجس شكري

 

 انحاز كرم النجار مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً  لفن المسرح في مطلع الستينيات من القرن الماضي  وقدم عددا كبيراً من العروض المسرحية في سنوات الدراسة قبل أن يخرج إلى عالم الاحتراف، ولا أظن أنه بدأ فجأة في الجامعة فلابد أن تكون هناك خبرات سابقة اكتسبها من قبل في سنوات الدراسة الأولى، وكانت البداية بالمسرح مثل أبناء جيله في ستينيات القرن الماضي وهذا أمر طبيعي في تلك الحقبة، لكنه لم يشتبك مع الواقع المسرحي في ذلك الوقت، و رغم تميزه، وإن كان قدم بعض النصوص المسرحية التى أثارت الإهتمام، إلا أنه ابتعد عن القضايا العديدة المثارة حول المسرح والتى أثارها المسرحيون في تلك الحقبة، سواء ارتباط المسرح بالسياسة وقضايا المجتمع بقوة، وأيضاً قضايا الشكل المسرحي وهوية المسرح المصري، وأكتفى بالانحياز لفن الدراما، أي إلى حرفية الكتابة، ولذلك ذهبت أقدامه إلى الدراما التليفزيونية مؤلفاً وكاتباً للسيناريو، بل وعمل في بداية حياته دراماتورج في مسرح البالون ومسرح الطليعة، ورغم تميزه في المسرح من خلال النصوص القليلة التى كتبها ورغم الجدل الذي أ

ثاره من خلال عملين في السينما إلا أنه  كاتب تليفزيوني بامتياز. 

 

 كرم النجار واحد من  رواد الكتابة للدراما التليفزيونية إذ بدأ مبكراً بعد افتتاح التليفزيون  بأربع سنوات حيث بدأ البث الأول للتليفزيون المصري عام 1960 أي أنه بدأ تقريبا العمل مع نشأة التليفزيون وقدم مجموعة من السهرات التليفزيونية وصلت إلى ١٩تمثيلية  منها "ظلال ، الببغاء، أصيلة، غموض، فراغ" وكلها من إخراج احمد طنطاوي، ولعبت الفنانة سميحة أيوب دور البطولة في تمثيلية "غموض" أما تمثيلية "أصيلة" التى كتبها كرم النجار للتليفزيون عن مسرحية  الكاتب الإسباني فردريكو جارثيا لوركا "بيت برناردا ألبا" لعبت دو البطولة فيها  الفنانة  أمينة رزق مع إحسان القلعاوي، وكتب أيضا سهرة تليفزيونية في فترة مبكرة من حياته عن المناضل محمد كريم حاكم الإسكندرية الذي قاوم الفرنسيين وظل صامداً في دفاعه عن المدينة حتى أعدمه الغزاة، ولعب دور البطولة الفنان كرم مطاوع وبعد سنوات قدم معالجة مسرحية  لهذه الشخصية، ، كما كتب السناريو والحوار لقصة كتبها أسامة أنورعكاشة عنوانها "الراجل " وقدمها للتليفزيون تحت عنوان "الإنسان والجبل" من بطولة محمود ياسين، بالإضافة إلى تمثيليتين "الحفرة وعجيبة" وكلاهما أثارا جدلاً  نقدياً كبيراً  وقدم سهرات أخرى مثل "بؤرة نور" بطولة فاروق الفيشاوي وإخراج علية  ياسين، وأيضاً "أحلام فقرا ولكن أغنياء" والتى حصلت على جائزة مهرجان الإذاعة والتليفزيون في دورته الأولى بالإضافة إلى سهرة "السينما الجميلة" وحصلت أيضا على جائزة من نفس المهرجان، ومن السهرات المتميزة التى قدمها أيضاً "ثمن الخوف" والتى قال عنها جميل راتب "عندما قرأت نص هذا العمل سعدت جدا للرؤية التى يطرحها هذا الكاتب  وللتناول الجديد الذي سأقدمه علي الشاشة الصغيرة من خلال دور الميكانيكي  المثقف الواعي وابن البلد أيضا، ذلك رغم أنني قدمت العديد من الأدوار في المسرح الفرنسي والمصري في السينما والتليفزيون إلا أنني لم اقدم دوراً من هذه النوعية من قبل" وظنى أن هذه النظرة السريعة على عناوين السهرات الدرامية وأبطالها تشير أيضاً إلى الخبرة التى اكتسبها كرم النجار من عمله مع مجموعة كبيرة من نجوم ورواد التمثيل في مطلع حياته، بل وتشير إلى دوره الريادي في تأسيس هذه الفن الوليد، وظنى أن مشاركته في هذه الفترة بكل زخمها واقبال الجمهورعلي هذا الفن الوليد، و في السهرات التليفزيونية تناول كرم النجار ليس فقط قضايا المجتمع بل وخفايا النفس البشرية التى كانت شغله الشاغل في كل أعماله، وقضايا أخـرى مثل الحق والعدل والمحبة والتسامح، مؤكداً انحيازه إلى المذهب التعبيري الذي أطلق صيحة تدعو إلى تصالح البشر وإلى قيم اجتماعية جديدة تقوم على المحبة، وأيضاَ مسرحيات تحاول معالجة قضايا استغلال العمال وسيطرة رأس المال على الفرد وتحكم الآلة في حياة الإنسان، وقد نقل كرم النجار هذه الأفكار من المسرح إلى الدراما التليفزيونية. 

 

كانت بداية كرم النجار مع هذا الفن الوليد  بالسهرات التليفزيونية، وهذا أمر طبيعي في تلك الفترة، ناهيك عن أن المسلسل التليفزيونى لم يكن من الضروري أن يكون ثلاثين حلقة، كانت الحلقات  تصل إلى عشرة أحياناً، أو سباعية، وظنى أن السهرات كانت فرصة جيدة للتدريب على الكتابة رغم أنها تحتاج إلى بناء درامي محكم ووجدت رواجاً كبيراً بين الجمهور الذي اعتاد مشاهدة العرض المسرحي في ليلة واحدة أو سهرة فاستبدله بسهرة درامية في البيت لذلك وجد كرم النجار أنها القالب المناسب لأفكاره قبل أن يخوض أول تجربة في الحلقات المسلسلة  وكانت أحد أسباب شهرته من خلال  مسلسل "محمد رسول الله" الذي تم عرضه عام 1968 عن مسرحية  لتوفيق الحكيم  تحمل نفس العنوان حيث تم تكليف كرم النجار بكتابته وهو أول جزء في مجموعة المسلسلات التى حملت نفس الاسم، وكان هذا المسلسل دون شك نقطة تحول في حياته وتجربة مثيرة، وفي ذلك الوقت كان قد قدم مجموعة من السهرات التليفزيونية بالإضافة إلى العروض المسرحية في الجامعة وخارج أسوارها أيضاً كمحترف، وظنى أن طالب كلية الحقوق الذي درس القانون والشريعة وعمل كعضو الإدارة العامة للمباحث الجنائية، بالإضافة إلى إيمانه العميق بقيم المحبة والتسامح وانحيازه للقضايا الإنسانية في أعماله، لم يكن غريباً عليه أن يكتب سناريو وحوار مسلسل عنوانه "محمد رسول الله" ويحكي كرم النجار عن ظروف كتابة هذا المسلسل قائلاً : كلفني رئيس البرامج فى التليفزيون في ذلك الوقت الإعلامي القدير سعد لبيب بكتابة هذا العمل بسبب انتقادى لظهور المسلمين بشكل تقليدي في الأعمال الدينية التي أخرجها أحمد طنطاوى، ولكن كيف وهو يعلم أننى مسيحي الديانة؟  نعم  ليس لدى شعور بالخوف من حساسية الموقف، وأيضاً وجدت دعماً منه ومن الممثلين وخاصة  الفنان جلال الشرقاوى، وذكر بعد سنوات طويلة في حوار تليفزيوني أنه حين طلب منه سعد لبيب  كتابة المسلسل  كانت مفاجأة ولم يستطع الرد وقال أنه يريد مهلة كي يسأل والده، ويصف الموقف أو هذا اللقاء فيما بعد  في قالب السيناريو والحوار قائلاً :

 

المكان : مبنى ماسبيرو 

الزمان: سنة..1968 العام التالي للنكسة. 

أستاذ سعد لبيب : أستاذ كرم.. احنا بنكلفك بكتابة سيناريو وحوار لمسلسل محمد رسول الله.. عن كتاب الأستاذ ــ توفيق الحكيم. 

كرم:( في ذهول من فرط الدهشة) أنا؟ أنا مسيحي يا أستاذ سعد  

أ. سعد: العقاد كتب عبقرية المسيح. 

كرم: وأين أنا من العملاق عباس محمود العقاد؟

أ. سعد: كلما أمعنت في العلم.. وكلما بحثت في ديانات وفلسفات من حولك.. اقتربت من أن تكون كاتبا مميزا.

كرم:( في ضحك وحيرة) ولماذا أنا يا أستاذ سعد؟ 

أ. سعد: قال لي الأستاذ أحمد طنطاوي المخرج( التليفزيوني الشهير) إنك درست الشريعة الإسلامية لمدة أربع سنوات في كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وإنك حصلت على تقدير عال في مادة(أصول الفقه الإسلامي)، هذا فضلا عن أنك ساعدته في إعادة كتابة سيناريو مسلسل( دعوة الحق) وإنه أعجب بأسلوب فهمك للإسلام. 

 

بالفعل بعد هذا اللقاء المثير والغريب  عاد كرم النجار  إلى المحلة ليسأل الأب الذي سأله  بدوره سؤالاً صعباً مغزاه هل تستطيع القيام بهذا العمل دون أخطاء ؟ فاجأب أنه يستطيع. وكان هذا العمل نقطة تحول في حياته ليس فقط لأنه قدم  نموذجا للوحدة الوطنية بل لأنه قدم نموذجًا للكاتب الذي ينتمي إلى موهبته وإلى مهنة الكتابة، وفي مناسبات عديدة فيما بعد تحدث كرم النجار كثيراً عن طفولته في المحلة الكبرى، عن أسرته التى لم تمنعه من المشاركة مع أقرانه من المسلمين في احتفالات شهر رمضان، حيث كان يحمل فانوسه مثلهم ويشاركهم في تزيين الشوارع ويفرح معهم في أيام العيد  وهم أيضاً يشاركونه في الأعياد المسيحية، وحكى أيضاً عن ليلة الرؤية  التى تسبق شهر رمضان حين تخرج الناس في مجموعات كبيرة  يسمونه كوكب الرؤية يطوف مدينة المحلة وخلفه الأطفال والكبار، جميع من في المدينة من مسلمين وأقباط ، وكان كل صاحب حرفة يضع نموذجا يجسد حرفته على عربة كارو ويطوف المدينة مشاركا في الموكب وهو يحتفل باستقبال الشهر الكريم حيث تفتح وعيه على هذه الاحتفالات التى رسّخت بداخله مفهوم الوحدة الوطنية ليقول بعد ذلك أن شهر رمضان بالنسبة له مناسبة قومية وليست دينية، وبعد سنوات حين زاد التعصب وانتشر دعاة الفتنة بين المصريين في فترة سوداء من حياة هذا الوطن قال: لم أتربَّ على التعصب، وما نراه هذه الأيام، الغرض منه تكسير الفكرة الراسخة عن أن المصريين يعيشوا حياة واحدة، وما نعيشه هو مرحلة إرهاب، يُعتدَى على المسلمين والمسيحيين بغرض خلق فرقة  بينهم !

 

في هذا المسلسل  الذي شارك  فيه بالتمثيل نجوم المسرح المصري في ذلك الوقت، حمدي غيث، عبدالله غيث، نجيب سرور، زوزو حمدى الحكيم، زوزو نبيل  وأيضا الفنان الشاب محمود يسن، و المأخوذ عن مسرحية لتوفيق الحكيم أخرجه أحمد طنطاوى وهو أحد المتميزين  الذين قدموا الدراما الدينية على الشاشة الصغيرة، وهو أيضاً من يعترف له كرم النجار بالفضل في دخوله عالم الدراما التليفزيونية، و الذي يحكي بعد ذلك باعتزاز عن موافقة الأزهر على كل الحلقات دون تعديل بل وأشاد الأزهر بالمادة المكتوبة. وظنى أن  عوامل عديدة ساعدت كرم النجار على  كتابة  هذا المسلسل منها الخبرة  التى اكتسبها من عمله في الوعد الحق مع المخرج أحمد طنطاوى ودراسته للشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، وخبرته في المسرح والدراما التليفزيونية  التى عرضت للمحة منها في السطور السابقة، ولكن الأهم  هو نشأته التى تحدث عنها  في مجتمع لا يعرف التعصب أو نبذ الأخر، مجتمع يقوم في بنيته الأسلسية على قيم التسامح وقبول الآخر، فهذا الكاتب كرم وديع بولس النجار مواليد مدينة المحلة 1940 ، الحقبة الليبرالية  التى كان فيها الانحياز للهوية المصرية  من البديهيات قبل أن تغزو المجتمع المصري أفكار التطرف والتعصب.  

 

 وفي كل الأنواع الدرامية جاءت شخصيات كرم النجار، عميقة ومركبة، تحمل هموم الواقع، وأسئلة المجتمع لكنها لا تخلو من أبعاد نفسية وفي أحيان كثيرة تحمل ملامح فلسفية، شخصيات تنحازللتعبير عن المشاعر الذاتية  في تناقضاتها وصراعتها، فالمواطن كرم النجار كان يعنيه الإنسان في المقام الأول، حتى وإن ناقش قضايا المجتمع بوضوح فيما بعد إلا أن قضايا العدل والحرية، الخوف، القلق التى تؤرق الإنسان كانت أساسية في أعماله وكان يرى أن الفنان ليس مؤرخا، إنما هو الباحث عن القيم النبيلة عبر العصور.