الأحد 28 ابريل 2024

مايكل هارت.. العظماء مائة وأعظمهم محمد

جانب من الكتاب

ثقافة5-10-2022 | 22:43

د. علي عبدالوهاب مطاوع

’’تتسامى يا سيّدي فوق كلّ حرفٍ نخطّهُ؛ وكُلُّ حَرفٍ فيك مُعجزةٌ. تتسَامى  يا سيّدي فوق كُلِّ قولٍ وفعلٍ، وفوق كُلّ كَلِمٍ يُلقى أو يُحبّرُ؛ وأنتَ منْ أزْهَرَتْ في عليائك الكلمات الطيّبات، فأنتَ العظيمُ في حياتك .. وأنتَ العظيمُ في هَدْيِكَ .. وأنتَ العظيمُ في سِيرَتِكَ العطرة. تتَسَامى يا سيّد الثقلين فوق كل الهامات لأنكَ الأعظمُ أثرًا، وحياةً، وخُلُودًا في جبين الإنسانية ..‘‘، وصدق ميخائيل ويردي الشاعر السوري المسيحي حينما قال في بردته : 
   

   والمصطفى خالدٌ في النّاسِ ما بَزَغَتْ *** أُمُّ النّجُـومِ ومـمدوحٌ بكُـلّ فَـمِ
       أحْبَـبْـتُ دِيــنَـكَ لمّـا قُـلـتَ :أكـرمُـكُـمْ  *** أتْقَاكُمُ، وتَرَكـْتَ الحُكـمَ لِلْحَكَـمِ 
      وَقُــلْـتَ إنّي هُـدًى لِلعَـالَمِيـنَ ولَـمْ    *** تَلْجَأْ إلَى الْعُنْفِ، بلْ أقْنَعْتَ بالكَلِمِ  
      
      إنّها شخصية الحبيب المصطفى  التي مازالت حاضرة في حياة جُلّ المسلمين بعد ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ أنْ يعيش المسلم في رحاب سيرته العطرة، لكن أن يبحث عنها ويحتفي بحضورها في حياته غير المسلم؛ يستشرفها حياةً، وفكرًا، وإبداعًا، عطاءً إنسانيًا، فهذا أمرٌ جلل يستحقُّ أن ننثره على الدنيا بإجلال وإكبار ليعلم القاصي والداني – إنْ أصابته الغفلة قليلًا - بأنّ محمدًا (صلى الله عليه وسلّم ) إنّما هو رسولُ الإنسانيةِ كافة، تصديقًا لقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ...} سبأ - من الآية:28‏ .


   ومن هذا العطاء الإنساني، الكتاب الماتع للأمريكي مايكل هارت، "الخالدون مائة أعظمهم محمد (صلّى الله عليه وسلّم )"، والذي أحدث صدًى عالميًا بين معتقدي الديانتين : اليهودية والمسيحية على السواء. وهذا الكتاب الذي ترجمه الكاتب المصري أنيس منصور، يُعدّ من أفضل مؤلفات مايكل هارت لديه، وأكثرها إمتاعًا وثراءً، وشهرةً لدى كثيرٍ من القراء في الشرق والغرب، من الذين وجدوا فيه إنصافًا من كَاتِبه ِ- غير المسلم - للحضارة العربية والإسلامية، ونبيّ الإسلام وحضارته الزاهية الخالدة. 


      وعلى الرّغم من أنّ هذا الكتاب قد توالت طبعاته أكثر من مرّة، إلّا أنّ محمدًا رسولَ الإنسانية ( صلّى الله عليه وسلّم )، بقي في ترتيبه كما اختاره المؤلف في مقدمة الأسماء على رأس المائة، وهذا إنصاف من الكاتب الذي لم يَحِدْ عن الحقيقة التي استقرّت في قلبه بأنوارها، ولم يخش بطشَ كنيسٍ أو كنيسة. وقد أكّد مايكل هارت هذا الوفاء بشهادته الخالدة من أنّ الرسولَ محمدًا "هو الإنسانُ الوحيد في التاريخ البشري الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي"، وهذا لعمري يكفيه أن يكون في المقدمة على المائة شخصية موضوع الكتاب.   


   ولم يأت اختيار مايكل هارت لشخصية نبيّنا الكريم ( صلّى الله عليه وسلّم ) على رأس أعظم مائة شخص تأثيرًا في تاريخ الإنسانية من فراغ، بل من وَعْيٍ وإدراكٍ بحقيقةِ كلِّ شخصيةٍ عبر دراسةٍ منهجية وضع لها مقاييس وأُسس اختار بها شخصياته، وكان المعيار الأهمّ في مقياس هارت في اختيار شخصياته المائة كما جاء في مقدمة الكتاب :  "أنْ يكون للشخصية أثرٌ ( شخصيٌّ ) عميقٌ متجددٌ على شعبها، وعلى تاريخِ الإنسانية"، ومن هنا وقع اختياره على شخصية الرسول (صلّى الله عليه وسلّم ) الذي جاء مُختارًا في شمائله وأخلاقه، رحيمًا بالإنسانية وكل ما يدبّ على الأرض، وأهلًا لمعايير "هارت" على الوجه الأكمل وزيادة.   


     ولا عجب في هذا الاختيار من هارت، فمن المؤكد أنّ الرجل - وهو الذي وجد ضالته في دراسة التاريخ الإنساني، واتّخذه مدخلًا إلى دراسة الحضارة الإسلامية، والإسلام ورسوله المصطفى الأمين – قد استوعب كثيرًا مِمّن كُتِبَ عن الإسلام ونبيه ( صلّى الله عليه وسلّم )، "فليس هذا الكتاب إلّا واحدًا من عشرات الكتب، بل مئات الكتب التي صدرت في العالم الغربي المسيحي عن عظمة المسلمين والإسلام ونبيه"، فمن المستبعد أنّ مايكل هارت لم يطّلع على ما كتبه الفرنسي لامارتين عن رسول الإنسانية محمدٍ (صلّى الله عليه وسلّم ) ‘ من قوله الحقّ  " إذا أردنا أنْ نبحث عن إنسانٍ عظيمٍ تتحقّق فيه جميع صفات العظمة والإنسانية فلن نجد أمامنا سوى محمد الكامل ". 


     فالرجل قد اطّلع على كثير ممّا رصدته دوائر المعارف في عصره، على نحو ما كتبه  المستشرق السويسري "ماكس فان برشم" الذي يُؤكد رحمةَ الإسلام ورحمةَ نبيّه، لا بالأمة فحسب، بل العالم كله، فهو رسولُ الإنسانية كافةً، تصديقًا لقول الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ...} سبأ - من الآية:28‏، رحمةً تَسِعُ كُلَّ الناس مهما كانت الديانة، رحمةً تُؤسّسُ لثقافة الألفة لا الفُرقة، رحمةً تُؤسّسُ لثقافة التعاون لا التعاند، رحمةً تُؤسّسُ لإنسانيّةٍ تكفلُ السعادةَ للبشر جميعًا، ليقول  مقالته المشهورة :  " الحقُّ أنّ محمدًا هو فخرٌ للإنسانية جمعاء، وهو الذي جاءَها يحملُ إليها الرحمةَ المطلقة، فكان عنوانُ بعثته { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء (107) . الحقُّ الذي جاءت عليه شهادة العلامة الفرنسي القس لوازون في حقّ حبيبنا محمد ( صلّى الله عليه وسلّم )، والتي دوّنتها مع غيرها من الشهادات الخالدة في حق نبيّ الإسلام – اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء - والتي يقول فيها : " ... فمحمد – صلّى الله عليه وسلّم – بلا التباسٍ ولا نكرانٍ من النَّبيّين والصدّيقين، بل وإنّه نبيٌّ عظيمٌ جليلُ القدر والشأن، لقد أمكنه بإرادة الله – سبحانه – تكوين المِلّة الإسلامية، وإخراجها من العدم إلي الوجود ...". 


     لهذا كله وأكثر أرجع "مايكل هارت " اختياره للرسول ( صلّى الله عليه وسلّم ) على رأس قائمة الخالدين في كتابه، وإلى تميّزه ( صلّى الله عليه وسلّم ) عن الأسماء الأخرى التي وردت في قائمته، ذلك أنه قد دعا إلي الإسلام ونشره، وأصبح قائدًا سياسيًا وعسكريًا ودينيًا، وهو الذي عاش  في بدء حياته ظروفًا اجتماعية متواضعة، لا يقرأ ولا يكتب، بعيدًا عن مراكز التجارة والحضارة والثقافة والفن، في الوقت الذي جاء أكثر الذين اختارهم قد ولدوا في مراكز حضارية، ومن شعوب متحضرة سياسيًا وفكريًا، ومع ذلك أصبح (محمد) أقوى وأعمق أثرًا في قلوب الناس، وما زال أثره قويًا متجددًا بعد مُضي أربعة عشر قرنًا على وفاته. 


      وقد وضع مايكل هارت الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم ) في تلك المكانة المتميّزة لأنه (صلّى الله عليه وسلّم )، "استطاع ولأول مرّة في التاريخ، أنْ يوحّد بين القبائل العربية المتناحرة، وأن يملأهم  بالإيمان، وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلي الإله الواحد ..."  وكأن مايكل هارت ينظر هنا إلي ما جاء في خطبة الوداع التي أقرّ فيها النبي المعلم : { أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب ... }، مؤكدًا هارت  أنّ  " العرب الذين آمنوا بالله وكتابه ورسوله تمكّنوا من أنْ يقيموا إمبراطورية واسعة ممتدة من حدود الهند حتى المحيط الأطلسي، لتكون أعظم إمبراطورية أُقيمت في التاريخ حتى اليوم، بعد أن ترك الإسلام أثره العميق في حياة المؤمنين به ".  


     تصل مقارنة هارت إلى القرآن الكريم معجزة الرسول (صلّى الله عليه وسلّم ) الخالدة بما تركه عيسى عليه السلام، واصفًا القرآن الكريم  في هذا السياق الموضوعي بقوله : "والقرآن الكريم نزل على الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم ) كاملًا، وسُجّلت آياته وهو ما يزال حيًا، وكان تسجيلًا في منتهى الدقة، فلم يتغيّر منه حرف واحد .. وليس في المسيحية شيءٌ مثل ذلك. فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يُشبه القرآن الكريم . الذي كان أثره على الناس بالغ العمق، ولذلك كان أثر محمد ( صلّى الله عليه وسلّم ) على الإسلام أكثر وأعمق من الأثر الذي تركه عيسى عليه السلام على الديانة المسيحية". 


     إنّ من يقرأ ( الخالدون مائة أعظمهم محمد ) بكل موضوعية ووعي إيماني بعظمة سيّد الخلق ( صلّى الله عليه وسلّم ) يتأكد له أنّ الله قد جمع لهذا الرجل - غير المسلم مايكل هارت – من رؤية الحقّ والنور المحمّدي؛ مَنْ شرفت به الدنيا وعمرت به الحياة، من خلال صفحات قليلة تُعدّ على أصابع اليد، لكنها عظيمة جليلة أوْقَدَتْ في دواخل الإنسانية وحيواتها دفءَ المحبّة المحمّدية، وأذاقتنا نشوة الوصول إلي طريق هديه، وهو مَن هو ؟ إنه بشهادة  مايكل هارت  في أول كلمة يقولها في كتابه عن  العظيم محمد – والحقّ ما شهد به ... - الإنسانُ الوحيدُ في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي، ليختم كلامه عن سيّد الخلق ( صلّى الله عليه وسلّم ) بهذه الحقيقة الدامغة  وهذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أُومِنُ بأنّ محمدًا – صلّى الله عليه وسلّم – هو أعظم الشخصيات أثرًا في تاريخ الإنسانية كلها !. موضحًا أنّ استعراض التاريخ الإنساني يكشف أنّ هناك بعض الأحداث الكثيرة فيه كان من الممكن أنْ تقع بشخصيات أخرى غير الشخصيات التي ارتبطت بها، إلّا في حالة انتشار الإسلام، ووحدة العرب، فمن المستحيل أنْ يُقال ذلك عن البدو، وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطوريّتهم الواسعة، دون أنْ يكون هناك النبي محمد ( صلّى الله عليه وسلّم )، فلم يعرف العالم كله رجلًا بهذه العظمة قبل ذلك. وما كان من الممكن أن تتحقق كلُّ هذه الانتصارات الباهرة – التي ما يزال أثرها بليغًا في تاريخ الإنسانية حتى يومنا هذا – بغير زعامته، وهدايته، وإيمان الجميع به ( صلّى الله عليه وسلّم )..


    وقد قال الرجل صِدْقًا وحقًا، فلم يجامل، ولم يُمار أحدًا، ولم يسعَ لمجدٍ أو مكانةٍ بهذا الكتاب، إنّه نبيّ الإسلام الذي تغلغلت محبّته في قلوب كثير من المفكرين، والكتّاب، والشعراء مِمّن جاء على غير الملّة، حتى قال( ميشيل أمين): 
      يا سائلي أيّ المذاهب مذهبي  *** إنّي مسيحيٌّ وإنّي مُسلمُ

Dr.Randa
Dr.Radwa