الجمعة 26 ابريل 2024

ما بين أحلف بسماها وبترابها و«سلِّمْ عا الشهدا اللِّي معاك»

مقالات9-10-2022 | 10:57

مشدودي القامة نقف في ثباتٍ كما نقول في القوات المسلحة (انتباه من حديد)، هكذا كنتُ ودفعتي في ميدان كلية الضباط الاحتياط منتصف الثمانينات قبيل أن يأذن المشير أبو غزالة ببدء طابور العرض العسكري، وتصدح في الأجواء فرقة الموسيقا العسكرية بأحلى ما نحب (أحلف بسماها وبترابها/ الله أكبر/ ماشيين بإيدنا سلاح) وغيرها من الأغاني الوطنية التي تلهب حماسنا، وتعيد إلى واجهة الذكريات مشاعر يومية لم تفارقنا طوال فترة صراعنا العربي الإسرائيلي وشكّلتْ وجدان ووعْي هذا الشعب المهيب.

لحظة ولوحةٌ لا تفارق مخيلتي، وصدى الألحان ما زال يتردد في الأسماع، وكأنني لا تقوى روحي على نسيانها مثلما لم أنس منذ الستينات أغنيةً كانت لماهر العطار كلمات البديع سيد حجاب (ياما زقزق القمري على ورق اللمون/ علشان بلدنا يا وله وجمال بلدنا يا وله/ كله يهون/ شيّلني شيّلْ يا جدع على كل كتف أشيل جبل/ عمر الكتاف ما هتنخلع) الله الله حينما يكون الفن داعماً للتنمية مواكباً لأحلامنا ورغم جمال اللحن المفرح لإبراهيم رجب ودوام إذاعتها حتى بعد وفاة عبد الناصر إلا أن هناك من لمَّح إلى أن المقصود بجمال بلدنا هو عبد الناصر فتم منعها حتى تولّى مبارك الحكم فأذيعت وغيرها من أغاني الستينات.

لحظة ولوحةٌ لا تفارق مخيلتي، وصدى الألحان ما زال يتردد في الأسماع، وكأنني لا تقوى روحي على نسيانها، وتساؤلٌ دوماً يُلحُّ كلما تجوّلتُ في أزقَّة الذاكرة وحاراتها.. ما الذي في هذه الأغنيات وغيرها ما يجعلها حاضرةً في الوعي الشعبيّ ؟! أهي الكلمة واللحن والصوت أم أنّ هناك شيئاً ما ضمِن لها هذا الثبات رغم قلة إذاعتها؟!

ورغم تعدُّد الأغنيات التي تم تدشينها لتلائم مرحلة السلام مثل (كان قلبي معاك/ طول ما أنت هناك) لسيد مكاوي أو ما تلى ذلك مثل أوبريت (اخترناه) غناء أبرز المطربين أو (يا معلِّي راية الحرية) هاني شاكر.. فلماذا ظلت أغنيات الصراع حاضرةً إلى اليوم؟!

لعل في فراسة هذا الشعب ما يجعله يستطيع أن يميز ما بين الافتعال وبين الصدق، أو ما بين مَنْ يغني له وبين مَنْ يغني عليه فتحتفظ ذاكرته بما استشعر صدقه ووافق طموحه وأحلامه ولعل الدماء التي خضّبتْ سيناء المباركة لن تجف، وهذا الثأر لن يسقط حقنا في الأخذ به وإن طال الزمن.

إن الأغنيات التي واكبت حرب الاستنزاف مثل (عدّى النهار) أو أثناء حرب أكتوبر العظيم (بسم الله/ على الربابة/ النجمة قالت للقمر/عبرنا الهزيمة/ عاش اللي قال)، والتي كان فارسُ كلمات معظمها عبد الرحيم منصور، ومبدعُ ألحانها القدير بليغ حمدي كأنها نُقشتْ على صفحات القلوب، وتأبى فراقها حيث كان الفن مرآة حقيقية لآمال هذا الشعب وتطلعاته.

وتمضي سنواتٌ عجافٌ على الأغنية الوطنية حتى يستفيق الشعب على صراعٍ جديدٍ لم يتخيل أكثر المتشائمين أن يكون بهذه الضراوة وهذه الخسة وهذه الخيانة حينما استهدف رصاص الإرهاب خيرة شباب الأمة، ليكون الفن حاضراً في هذا المشهد يضمِّد الجراح ويلهب العزائم وتأتي أغنية (سلم عا الشهدا اللي معاك/ سلم على كل اللي هناك/ عمرك كان تمن الحرية/ لكن بلدك مش ناسياك) التي واكبت حادثة الفرافرة، ورغم البداية المبكية التي تناسب صوت شيرين المشبوب بالشجن في مطلع الأغنية (سلم عا الشهدا اللي معاك/ سلم على كل اللي هناك) لعلكم سمعتم هذه الجملة المفعمة بالوجع وشدة الحسرة عند وداع نساء الريف لفقيد لحظة خروجه من المسجد إلى المقابر.. جملة تنخلع لها القلوب، ولا تملك العيون التجلُّد لتذكِّر أصحاب المواجع بمفقوديهم وتنبش جراحاتهم، ورغم الوجع إلا أن الختام يفيض عزماً وتصميماً (وحياتك في وراك أخواتك ارتاح أنت وحقك جاي) .

وتأتي أغنية (ابن الشهيد) للطفل سيف مجدي لتمزج بين البساطة والعمق بشكل منقطع النظير في الكلمات وخفوت اللحن واختيار ذلك الصوت الذي يتفجّر لوعةً حيث يتصدر صوت الطفل كأنه لسان كل طفلٍ فقد أباه في مواجهة الإرهاب البغيض (أحب اعرّفْ الجميع وأديكوا نبذة عن حياته/ ليّا الشرف والدي الشهيد اللي افتخر بإنجازاته.. وأحب أفكّركم جميعاً لو نسيتوا/ اللي اتحرم منّه أهل بيته) هل هناك وجعٌ أكثر من ذلك؟.. وهل استطعتم أن تتجلّدوا وتحرموا أعينكم حُرْقةَ الدمع؟!

Dr.Randa
Dr.Radwa