الأحد 12 مايو 2024

فن صناعة العملاء

5-8-2017 | 13:51

بقلم – أحمد رفعت

الكثيرون يتذكرون المشهد الشهير المتكرر فى العديد من الأعمال الدرامية والسينمائية حيث يقوم جهاز مخابرات العدو فى سعيه لتجنيد أحدهم إلى طلب معلومات منه لإرسالها إلى إحدى منظمات السلام أو لإحدى وكالات الأنباء الدولية. والهدف كما يقولون للفريسة إنهم يبتغون وقف الحرب فى الشرق الأوسط وأن هذا لا يتم إلا بمعلومات وفيرة ودقيقه!

 

هذه الصورة النمطية مع صور أخرى لتجنيد العملاء صحيحة مائة فى المائة، بما فى ذلك طبعا ما يتم بعد ذلك من الالتقاء بالعميل وتأمين اللقاءات حتى لا يتم رصدها من أعين ضباط جهاز المخابرات الآخر ثم تدريب العميل تدريبات شاقة يكون أغلبها حول التهرب من المراقبة واستخدام أدوات التجسس التى كانت حتى وقت قريب تتكون من الحبر السرى وأجهزة الإرسال المتطورة أو ترك رسائل ومعلومات فى عدد من الأماكن العامة أو تسليمهم باليد أو بالاتصال واستخدام شفرة معينة لا يفهمها إلا من يديرون العملية !

ولكن ورغم أن الصورة السابقة صحيحة كما قلنا إلا أنها تراجعت الآن لحساب أشكال أخرى من التجنيد، لم تكن تخطر على بال أحد..وقبل أن ننشر طرق ووسائل ذلك نعود إلى الوراء قليلا لنؤكد أن الموضوع قديم يسبق طبعا تطور أشكال الحروب وصولا للجيل الرابع منها..

ففى عام ١٩٧٤ شكل الكونجرس الأمريكى لجنة لبحث أداء وكالة الاستخبارات الأمريكية فى الثلاثين عاما الماضية، والتى أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية وهل أدت واجبها فى الحرب الباردة لنشر النموذج الأمريكى والثقافة الأمريكية !! فى دول وشعوب العالم.. ترأس اللجنة السيناتور سيرش، والذى جاءت إفادات ضباط وقيادات المخابرات الأمريكية على نحو يؤكد أن عددا من أهم دور النشر فى الدول الحليفة والصديقة للولايات المتحدة أسست بدعم وإشراف كاملين من المخابرات الأمريكية وأن الصحف التى تصدر عنها وما أصدرته من كتب يؤكد على الفكرة الأساسية لذلك!

مرت ٥ سنوات كاملة على لجنة الكونجرس وفجأه يستيقظ العالم على الثورة الإيرانية وسيطرة المعارضة بقيادة الخمينى على الأوضاع فى إيران، وأصبحت الثورة على عداء مع الولايات المتحدة منذ اللحظة الأولى، خصوصا أن شاه إيران أحد أهم وأقوى حلفاء أمريكا فى العالم حتى إن الولايات المتحدة سعت لتقوية الجيش الإيرانى بحيث تكون له القدرة على التصدى للاتحاد السوفيتى وقتها أن حاول التحرك عسكريا ضدها!

وبتصاعد الأزمة قام الطلبة الإيرانيون باقتحام السفارة الأمريكية فى طهران واحتلوها واستولوا على ما بها من مستدات ووثائق..وهو الاحتلال الذى استمر أربعمائة يوم كاملة فشلت محاولات عسكرية أمريكية للإفراج عن الرهائن، لكن كان الاحتلال الطويل للسفارة فرصه للطلبة الإيرانيين للاطلاع على الوثائق السرية، حيث فتحوا كل خزائن السفارة وأخرجوها وترجموها ليكتشفوا سرا مذهلا ظل مخفيا سنوات طويلة وهو أن أهم وأكبر دار نشر فى إيران يصدرعنها أهم الصحف الإيرانية وهى دار « كيهان « للنشر كلها منذ نشأتها تتبع بالكامل وكالة المخابرات الأمريكية !

ظل السؤال وهو مشروع طبعا : إن كانت الولايات المتحدة تفعل ذلك مع أهم وأكبر حلفائها، فماذا يمكن أن تفعل مع أعدائها وخصومها أو المختلفين معها أو من يرفض هيمنتها أو من يرفض التبعية لها ويشق طريق التنمية بعيدا عنها؟

المثالان السابقان يكشفان كم العدد الذى تعاون مع أخطر أجهزة المخابرات دون أن يدرى وأن نشر النماذج الثقافية ونمط الحياة والتأثير على نمط الحياة المحلى والثقافة الموروثة الأصيلة هدف ثابت ودائم لأجهزة المخابرات!

الآن يحق أن نسأل: إن كان ذلك هو ما تم الكشف عنه من ٤٣ عاما كاملة وقد تأسس قبلها بعشرات السنين فماذا عن تطور عمل أجهزة المخابرات اليوم وخصوصا تجنيد الأفراد؟

الإجابة بكل تأكيد أن الأمر تطور واختلف تماما.. ليس مطلوبا الآن احتياج الشخص المستهدف للتجنيد أن يكون فى حاجه للمال.. إذ يكفى مثلا احتياجه للشهرة.. وقد لا تكون فى بعض الحالات الحاجة للشهرة مطلوبة إذ يكفى شعور الشخص المستهدف بالاضطهاد الوظيفى أو المعنوى وأنه لم يأخد نصيبه فى الشهرة أو فى فرص النجاح كما يرى أن غيره حصل عليها.. وقد يكون ذلك الإحساس فى كافة المجالات فمن الجائز أن يكون فى الفن والتمثيل أو الأدب والرواية أو التقديم التليفزيونى أو فى الصعود الجامعى وإنجاز رسائل الماجستير والدكتوراه!

هنا وفى اللحظة المناسبة سيظهر المنقذ..الذى يقدم يد العون لصاحب الموهبة الجبارة الذى لم يكتشف أو لم يحصل على ما يستحق حتى الآن.. هنا سيظهر منتج للبرنامج المطلوب ومعه عقود إعلاناته كاملة..أو يظهر عرض بدور ما فى عمل سينمائى «عالمى» أو تظهر الدعوة للكتابة فى مجلة أو جريدة عالمية وشهيرة أو يقدم عرضا بالسفر للحصول على الدكتوراه من جامعه عريقة بمنحة مجانية بما فيها الإقامة والسفر!

كل ما سبق هو الخطوة الأولى وهى بريئة تماما لا تلفت نظر أحد بينما الخطوة التى تليها هى إشباع الرغبة الخاصة لكل فريسة..فمن يريد المال سيجده ومن يريد الشهرة بعد اشتياق سيجد رائحتها عن بعد ومن يريد تعويض الفرصة التى فاتته للحصول على الشهادة فوق العليا سيجدها وكل ذلك أيضا عادى جدا ولا شىء فيه ولا يلفت نظر أحد!

الآن الفريسة جاهزة للخطوة الثالثة.. فربما كان العمل الفنى السينمائى العالمى يضم ممثلا صهيونيا أو إنتاجا صهيونيا خالصا.. سيكون التراجع صعبا بعد ما جرى فى الخطوتين السابقتين وسيسير الهدف إلى نهاية الشوط على أن يعتذر فيما بعد بحجة أنه لم يكن يعلم بينما عينه على أعمال سينمائية أخرى! بينما سيعرف الكاتب الآخر أن عرض الكتابة مشروط بعدم الترويج للنظم «الديكتاتورية» وسيفهم تدريجيا أن بلده مصنفة كذلك لكنه لن يستطيع التراجع ويترك فرصة مهمة للكتابة فى أشهر صحف العالم بينما الخطوة القادمه أن يهاجم هو بنفسه حكومة بلده ويتهمها بأسوأ وأسخف الاتهامات فسيقولون له عن مدى تأثير مقاله السابق وسيشجعونه فى هذا الاتجاه ليبدو بطلا شعبيا بينما سيساند من ذهب للدراسة أى تحرك جماهيرى ضد الدولة فى الشارع فأصحاب المنحة أصدروا ضد حكومة بلاده بيانا لا يستطيع هو إلا أن يؤيده ويقدم لأصحاب النعمة كل فروض الولاء!

الخطوه الرابعة ستكون تكريم من هنا لهذا وتكريم للآخر من هناك.. وكلها منظمات وجمعيات دولية تابعة لأجهزة مخابرات لكنها بدأت فى صناعة النجومية لهؤلاء.. لاستخدام النجومية فيما بعد ضد بلادهم وجيوشهم, فهذا يكتب ضد جيش بلاده وهذا يقدم حلقة تليفزيونية يسخر فيها من جيش بلاده وذاك يساند بالكتابة على شبكات التواصل ضد جيش بلاده! ولما كان هؤلاء أصبحوا من نجوم المجتمع وشخصيات عامه يحشدون الرأى العام فى الاتجاه الخاطئ وسيصدم الكثيرون فى سلوكهم ومواقفهم بينما الشهرة والمال والأضواء غير المستحقة ولا المنتظرة تحاصرهم من كل مكان إلا أنهم صاروا عملاء وبغير رجعة!

    الاكثر قراءة

    Dr.Radwa
    Egypt Air