الأحد 30 يونيو 2024

عودة باليرينا معتزلة

6-8-2017 | 11:07

بقلم : سحر الجعارة

كفنت "جميلة" جسدها بالنقاب، واعتبرت أن زوجها "مضمون مدى الحياة"، وأن ابنتها «عائشة» مدخلها الى الجنة، دون أن تنتبه أنها تخسر الأسرة بأكملها، وفى أحد مشاهد "لأعلى سعر" ،كان الزوج (قام بدوره أحمد فهمى) يعاتب زوجته جميلة (قامت بدورها الرائعة نيللى كريم) لأنها أهملت نفسها واستسلمت للسمنة ولم يتبق الا أن يتهمها بتبلد المشاعر والبرود الجنسى .. لكننى لم أصدق "الحوار"!.

ومع كل الحب والاحترام للشاعر الدكتور "مدحت العدل" ، كاتب السيناريو لم أر أى ملامح إهمال أو تغير فى شكل "نيللى" ، كانت "جميلة" كما هى ، ونفس السيناريو لم يقدم لنا المبرر الكافى لدخولها تحت النقاب، ولم يشبعنى اعترافها بأنها وجدت الطريق الى الله وتفرغت لابنتها ، أى "المبررات الكلامية"!.

حتى يوم أن خلعت "جميلة" النقاب فوجئت بـ "البساطة" المخلة بجسامة الفعل، ( سواء كان ارتداء النقاب أم خلعه)، وأثارنى عدم التدرج لا فى اللبس ولا فى الخلع، فهل كان "العدل" يقصد من تلك السلاسة فى القرار وعكسه توضيح مبدأ أن ( أقصى اليسار أقرب ما يكون الى أقصى اليمين)؟.. أم كان يرمى الى حالة "الجهل" التى تربط الأنوثة بالتحريم، وتجعل الإثم مرادفا للإبداع، وتحدد الجسد للغواية والشهوة، أما الروح فللعبادة والسمو الإنسانى.

"جميلة" كانت تعيش فى المسافة - المفخخة بكل الأوهام - ما بين خشبة مسرح الأوبرا، كراقصة "باليه" تحلق مثل فراشة تعانق الضوء وتنسج الأحلام وتتقن لغة الموسيقى .. وبين "زوجة" قررت أن تلغى وجودها بأكمله لتسكن خانة "حرم فلان"، وأن تختزل عالمها كله بكنفه، وتعيش مرهونة بنظرة رضا فى عينيه وهى تشاهده يصعد على جثتها ليصبح طبيبا مشهورا .. فقد اختارت أن تحنط أفكارها وطموحها وتخفى جمالها خلف النقاب!.

قطعا النقاب ليس هو الرسالة من العمل، ولا يمكن اختصار دراما اجتماعية مليئة بالأحداث والتفاصيل، والعلاقات المتشابكة فى مشهد أو اثنين، لكن اعتزال الفن والعودة إليه تطرح أكثر من علامة استفهام ربما لأنه مرتبط بالواقع.

تبدو "جميلة" فى ثوب الباليرينا الملائكى أقرب الى التطابق مع نفسها: شخصية منطلقة سعيدة، تلقائية فخورة بما تفعل، زاهدة فى الشهرة والنجومية وكأن إنسانيتها المتدفقة تتغذى بالحب ولا تنشد من الحياة سواه .. كيف قتل الروتين ومؤسسة الزواج تلك الشخصية الحية لتصبح مجرد تمثال تختلف تفاصيله عن "الموديل" ؟.

تمثال خال من الروح لا ينتظر جمهورا يصفق له، انطوائى ينزوى فى ركن مظلم ويرفع لافتة التدين ،(لاحظ أن السيناريو لم يظهرها متدينة)، وبعدما كانت تحترف أرقى أشكال الفنون الرفيعة أصبحت مثل واحة مهجورة حتى زوجها لا يزورها.

هل كان لابد أن تأتى ليلى ،(قامت بدورها زينة)، وأن تدفع بجميلة الى زاوية «الدفاع عن نفسها» .. عن زوجتها وبيتها وحضانة ابنتها، لتصبح "الخيانة" هى الدافع الوحيد لتسبح "جميلة" ضد التيار وتفتش عن ملامحها الغارقة فى دوامة الحياة اليومية .. وتصافح وجهها من جديد فى المرآة لتكتشف أنها مطموسة وأن عليها إعادة اكتشاف نفسها؟.. ربما. "لأعلى سعر" حصد فى دراما رمضان أعلى نسبة مشاهدة وأعلى صخب وجدل داخل البيوت المصرية، لأنه فضح حالة "الخرس الزوجى" ، وغياب الحوار بين الأزواج، والعلاقات الاجتماعية الهشة، والعلاقات العاطفية الباردة.

كشف الشخصيات المعلبة التى نعيشها بإرادتنا ، ورصيد الحب الذى يتناقص يوما بعد يوم، وحالات الحزن التى تتشابه مع الفرح ، والسعادة الممزوجة بالألم، و"التحقق" الغائب من أجندة المرأة ، والخيانة المفروضة على الواقع بسبب كل ما سبق.

أكثر ما أحببته فى "جميلة" انها أعادت "نيللى كريم" الى فن الباليه، وأكثر من أحببته هو الفنان "نبيل الحلفاوى" فى شخصية والد جميلة.

الموسيقار "مخلوف" الأب يعيش فى عالمه الخاص ، يسكن إحدى العوامات على النيل، بعد أن هجر زوجته ،(تجسدها سلوى محمد على) ، بسبب تسلطها وطمعها ، ومجافاتها للمشاعر .. آلة "القانون" هى كل عالمه، حوله مجموعة من المواهب الشابة، يؤمن بهم وبالطرب الأصيل حتى لو كان ضد "مهرجانات" هذا الزمان يحتفظ بإنسانيته طازجة ، محبا لكل من حوله حتى الأولاد الذين انحازوا للأم، يقف الى جوار "جميلة" ويساندها بروح الفنان القادرة على العناد .. وفى أكثر من مشهد يجد "مخلوف" نفسه فى مأزق الاختيار الصعب ما بين الفن الذى وهبه كل حياته وبين ابنته وكل ما ترتب على طلاقها وانتزاع ابنتها من أحضانها.

فى المشهد الأول يبيع "مخلوف" القانون ليدفع أول قسط من مصاريف مدرسة حفيدته، وفى الثانى يتمرد مخلوف على ضعفه الذى دفعه لأن يختزل "تلميذة موهوبة" ليبيع لحنا لفنانة مهرجانات .. حتى لو كان الثمن كفيلا بدفع القسط الثانى من المصاريف.

إنها أكثر شخصيات العمل إتقانا على مستوى الكتابة والأداء، أو ربما كانت - بالنسبة لى- شخصية مثالية لا تحيد عن مواقفها، ولا تتبدل مبادئها بتغير مصالحها.

كانت تكفى نظرة وضحكة بين الأب وابنته لأشعر بأن العالم الملىء بالحقد والكراهية قد اختفى، وابتلع الصمت الأسئلة.. لكن أسئلتى حول "نقاب جميلة" مازالت مستمرة .