الأحد 19 مايو 2024

صفحات من كتاب عبدالحليم حافظ (6).. خرج باكيا من منزل عبدالوهاب بعدما دس الأخير في يده ورقة بعشرين جنيهاً

6-8-2017 | 12:12

أعد الكتاب للنشر: محمد المكاوى

اضطر المعلم صديق إلي الغاء عقده مع العندليب الأسمر بعدما رفض الجمهور سماعه وهو يغني أغنياته الخاصة .. «ظالم وصافيني مرة» فقد أراد أن يفرض عليهم فكره وفنه لا أن يجري وراء النجاح السهل وترديد أغاني الكبار... اختار عبدالحليم الطريق الصعب وخلفه جيل كامل من الموسيقيين .. أحمد فؤاد حسن .. كمال الطويل.. الموجي.. علي إسماعيل.. لقد كان حليم استاذ هذا الجيل .. أستاذهم في العند.

المذيع الصعيدي «فهمي عمر» يحتفل بعيد ميلاده السابع والعشرين.. دعي إلي الحفل الصغير عدد من الاصدقاء الفنانين والفنانات والمطربين الصاعدين سيد أبو السعود وعبدالحليم شبانة!

بصراحة.. سيد.. أكل الجو.. التف حوله المعازيم بعد أن بلعوا التورتة ونفخوا الشمع وجلس «وتسلطن» ولعلع برائعته.

يا أم المنديل أصفر ليموني!

سيد صوته يمتاز بالنبرة الصريحة والندهة الفلاحي.. صوت تشعر أنه لا يوجد بينه وبين الثقافة عمار ولكنه صادق يقابلك بعبله وبغير ماكياج ودون أن يمسح عن عينيه «العماص» وهو يحمل كل سمات الريف المصري ، يمر عليك فلا يترك بك أثرا تماما كما يمر الفلاح علي جماعة الناس ويقول: سلاموا عليكم!

فيردون عليه: سلام ورحمة الله وبركاته!

وتنتهي العلاقة إلي هذا الحد بلا أبعاد ولا ذكريات ولا آثار ولا أسباب!

واحد اسمه مجدي هرب من حلقة أم المنديل أصفر ليموني وفتح باب غرفة ليغلقه ويجلس فيها فوجد شابا شاحبا قد جلس علي حافة سرير يحتضن عودا يهمس به إلي نفسه.

من أد إيه كنا هنا... من شهر فات ولا سنة

أنصت إليه .. سمعه .. أحس به .. تحدث إليه .. واقسم أن يدافع عنه في كل بقعة في الأرض!

ياحضرات القضاة.. ياحضرات المستشارين:

أنا مجدي العمروسي المحامي

إن موكلي عبدالحليم شبانة صوت جديد علي الأذن المصرية صوت تراه قبل أن تسمعه.. يرسم في كيانك الفكر ويعطيك معني صوت له شخصية يدفعك لأن تأخذ موقفا منه إما أن تحبه وإما أن تكرهه.. الصوت الذي تكرهه وتسيل عليه لعناتك .. وتكون حوله حججك.. وتبلور رأيك صوت له كيان وعمر... غير تلك الأصوات التي تمر بك فلا تترك أثرا، كمرور ذلك الفلاح بتحيته الساذجة: سلاموا عليكم!

إن عبدالحليم صوت ذكي .. إذا أحببته ونثرت عليه الورود.. وفرشت طريقه بالزهور.. احمر وجهه بخجل التواضع وإذا رميته بالطوب والزلط والحجارة.. استمر في إثارتك.. لترمي عليه الأكثر والأكثر.. إن تلك الحجارة يبني بها هو هرماً يقف في النهاية علي قمته!

باسم العدالة أناديكم أن تسمعوه.. وأن تعطوه حقه ولا ألتمس الرحمة منكم .. فدنيا الفن لا رحمة فيها!!

اقتنع «مجدي العمروسي» بموهبة عبدالحليم.. أحس بها وتوقع لها كل النجاح.. فترك مكتبه وقضاياه .. الطلاق والنفقة والرضاع وإثبات البنوة وراح يدافع عنه واقتنع عبدالحليم بعقلية مجدي، بفكره الناضج وعقله المتزن، فترك له كثيرا من أموره يتصرف فيها دون أن يعقب عليها!

مجدي.. يحمل في عينيه نفس الشعاع الذي كان ينبعث من حدقتي المفكر الأديب كامل الشناوي.. يكسب صداقتك في لحظة.. ويهدم جدران التكلف ويرفض بظرف تلك الألقاب التي نمنحها للآخرين احتراما ونغلفها بألفاظ التأدب «سيادتك.. حضرتك.. معاليك» فنبني حائط الفرقة والابتعاد .. شيء ما تجده بداخلك يضعه هو في نفسك دون أن تشعر - ومهما كان فارق السن والمنصب والثراء بينكما- شيء يجعلك تناديه من أول لقاء.

- يامجدي:

إن تلك البساطة التي «يعديك» بها هي صمام الأمن الذي يتخذه لنفسه منك.. فأنت حين تجد أمامك الطريق سهلا ميسراً لا تحمل معك تلك الأسلحة التي تسير بها في الغابات وتنفض عن أكتافك حرصك.. وتحفزك ورغباتك في العدوان!

وانتهت ليلة عيد الميلاد التي ولدت فيها صداقة المطرب والمحامي!

عاد الرجل بسيارته إلي الإسكندرية .. إلي أن طافت اللافتات تعلن عن حفل منوعات غنائي راقص ضاحك علي المسرح القومي بالإسكندرية.. وكان ضمن المشتركين في الحفل راقصة مصر الأولي تحية كاريوكا.. والمطرب عبدالحليم حافظ.. وارتفع ستار المسرح القومي وغني الفتي أحدث ألحان الملحن المتطور علي إسماعيل:

يامغرمين ... ياعاشقين

مين زيى مين... يامغرمين

علي إسماعيل.. وضع في هذه المقطوعة إيقاعا يسبق أوانه كثيرا.. ولم يلاحظ - بل وفات عليه - أن المستمع الذي يتذوق هذا النغم باق علي ولادته عشرون سنة إلا تسعة أشهر!

وبناء علي إلحاح الجماهير أسدل الستار علي المطرب!

ورفضت تحية كاريوكا.. أن تظهر علي المسرح أمام هذا الجمهور الجاهل المتوحش.. ورفض المتعهد رد ثمن التذاكر للمتفرجين.. واستقل سيارة أجرة ومعه حقيبة بها الإيراد كله وهرب إلي القاهرة.. وانتظر جانب من الجمهور المطرب الصاعد الذي عكنن عليهم ليلتهم أمام الباب الخلفي المخصص لخروج الفنانين ليأخذوا حقهم منه .. واضطر عبدالحليم أن يضع تحت أنفه شارباً اقترضه من غرفة الماكياج.. وأن يندس وسط الجماهير مضللا الجموع التي تنتظره للانتقام.. بكلمة يرددها بلسانه:

- هو فين ابن الكلب ده؟

وهرب..

فتلقاه مجدي بين أحضانه.. وسار به علي كورنيش الإسكندرية يهدئ من أعصابه.. حتي سأله عبدالحليم:

- متي أغني علي هذا المسرح ويصفق لي الناس؟!

فرد عليه مجدي بثقة:

- بعد سنة .. أي 12 شهراً.. أي 365 يوما.

وعلم عبدالوهاب بنبأ فشل المطرب الصاعد فأرسل يستدعيه. وقابله.. فبدأ في مواساته بكلمات جنائزية يسود فيها أسماء العظماء الذين استقبلهم الناس أسوأ استقبال في بداية حياتهم.. بدأ بأرسطو.. وتولستوي..

وفي نهاية حديثه.. وضع يده في جيبه ودس في يد عبدالحليم عشرين جنيها!

وتمزقت الوريقات في يده..

وتمرد الأمل في ضلوعه..

وتأكد الفشل في صدره.

انهار عبدالحليم.. كان أهون عليه أن يأخذ عشرين جلدة علي ظهره بدلا من أن يأخذ عشرين جنيها في يده..

أحيانا تكون الشفقة أقسي علي النفس.. من القسوة ذاتها:

إن هجومك علي إنسان وقسوتك عليه.. يعني أنه قوي.. أنه قادر علي تحمل هذا الهجوم القاسي.. عطفك عليه ورقتك معه.. تعني أنه هزيل.. ضعيف متهالك .. أنه أقل من أن تقف أمامه.. ورفض عبدالحليم تلك الشفقة.. رفضها لأنها دليل الضعف والهزيمة.. وتمزقت الوريقات العشرون في يده وألقي بها علي بساط الموسيقار.. وخرج يبكي.

وعام فوق بحر الدموع.. فوصل إلي راية النجاح.. وارتفع سعره وتحدث عنه نقاد مصر - وكتب عنه - عمي وعمك وعم الصحافة المصرية جليل البنداري.. ومنحه لقب «جسر التنهدات».

وجاء رجل بورسعيدي إلي مجدي العمروسي يشكو له صديقه عبدالحليم أنه لم ينفذ وعدا بالغناء علي مسرح «نورماندي» وهرع العمروسي يستفسر من الصديق عن صحة الموضوع.. قال عبدالحليم:

- الرجل سألني.. زمان.. كنت أيامها في وضع يسمح لي بالغناء علي هذا المسرح.. الآن.. الاسم تغير.. والسن تقدمت .. والوزن تضخم. ولا شيء يبقي علي حاله!

- هل وقعت معه عقدا؟

- لا .. كل ما في الأمر أنه سألني.. تغني هناك .. قلت: آه!

- كلمة «آه».. التي قلتها أخطر من التوقيع علي «شيك» تعلم ألا تنطقها. وإلا التزمت بها.. هناك كلمات بديلة.. استعملها في أوقات الزنقة.. والإحراج.. قل.. «نفكر».. قل «نبحث الموضوع».. قل بعدين.. قل .. «إن شاء الله» فكلها كلمات تحمل معني التردد.. ولا تعطي معني قاطعا.. إن احترامك لكلمة قلتها هو احترامك لنفسك ولقمتك ووزنك.. أنت الآن مربوط من لسانك. قيمة جديدة لابد أن تنغرس فيك وتثبت.. فالاسم تغير.. والسن تقدمت. والوزن تضخم ولا شيء يبقي علي حاله يا عبدالحليم!

فقال العندليب وهو يبتسم:

- معك حق!

وصعد علي خشبة سينما «نورماندي» يغني علي مسرح لا يلائم حجمه وفاء لكلمة : آه!

وبعدها ...........

ارتفع ستار المسرح القومي بالإسكندرية ليغني بعد سنة أو بعد 12 شهرا.. أو بعد 365 يوما.. أغنيته القديمة:

يا مغرمين.. يا عاشقين..

مين زيي مين.. يا مغرمين..

وصفق الناس.. صفقوا .. صفقوا.. وكتبوا بكفوفهم الملتهبة.. أحلي نجاح في حياة عبدالحليم حافظ!

انتظروه بعد العرض علي الباب الخلفي المخصص لخروج الفنانين ليأخذوا توقيعه علي أوتوجرافاتهم.. واضطر أن يختفي وأن يضع تحت أنفه شاربا.. اقترضه من غرفة المكياج.. وأن يندس وسط الجماهير مضللا الجماهير التي تريد أن تلتهمه بالقبلات بكلمة يرددها وهو يشير إلي أحد الموسيقيين:

أحلق شنبي.. إن ما كان ده عبدالحليم حافظ!

الأسبوع المقبل الفصل السابع