الأربعاء 24 ابريل 2024

على كوبري قصر النيل

مقالات29-10-2022 | 12:14

حدثت هذه القصة حين كان عمري خمس سنوات ونصف، وبما أنني قد اقتربت من سن السادسة، فقد قرر والدي أن يصطحبني معه ليبدأ في رحلة القيام بشراء مستلزمات المدرسة لأول مرة، كنت الطفلة الأولى في الأسرة، ولي أخت تصغرني بعامين بقيت مع أمي في المنزل، فلم تكن أمي تتعجل الأمر مثل أبي الذي كان يدللني، ويود أن يسعدني على قدر طاقته.

 

بعد أن انتهينا من شراء بعض هذه المستلزمات اصطحبني أبي للتنزه على كورنيش النيل بعد أن أحضر لي معه بعض الحلوى، وقفت إلى جواره لاستمتع بهذا المشهد الجميل للنيل في المساء حين انعكست على صفحته الأنوار فزينته، كنت طفلة هادئة، ومطيعة إلى أقصى حد، وربما هذا ما جعل أبي يصطحبني معه في العديد من الأماكن حتى في زياراته لبعض الأصدقاء.

 

كان أبي يحكي لي عن تفاصيل الأشياء وأنا كنت شغوفة جدًا للاستماع للمزيد، كنت أحب كل ما يقوم بسرده، ثم أسأله وأناقشه فيما يقوله أولًا بأول، فقد كان بالنسبة لي دائرة المعارف التي تمدني بالمعلومات، وتشكل شخصيتي منذ الصغر.

 

بعد الانتهاء من شراء مستلزمات المدرسة اصطحبني أبي إلى كوبري قصر النيل الذي كان في الماضي مكان خال من الصخب وكانت الناس أهدأ وألطف، ولم يكن هناك وجود لذلك الزحام الخانق الذي نراه في هذه الأيام .

 

وقفت ممسكة بيد أبي، وأنا أطل برأسي من بين الفراغات الموجودة في السور فرحة بتلك الأنوار المنعكسة على صفحة نهر النيل.

 

وفجأة وعلى غير توقع حدث هذا الموقف الغريب الذي أذكره حتى الآن بالخوف تارة، وبالتعاطف تارة أخرى وأحدث نفسي بضرورة عدم الانخداع بالمظاهر.

 

مر بجانبنا رجل يرتدي ملابس أنيقة تدل على أنه ميسور الحال سار في الطريق المعاكس لنا بضع خطوات، ثم رجع للخلف فجأة بعد أن اقترب مني قائلاً: " أنتي بنوتة جميلة اسمك إيه يا حبيبتي؟".

 

نظرت إلى أبي الذي كان يحدثني بنظرات عينيه في بعض المواقف، وقبل أن التقط إشارة منه ترشدني وتقول لي ماذا أفعل، هل أرد على الرجل، أم أبقى صامتة لاحظت الحيرة تتملكه للحظات، لقد ظن أبي في البداية أن الرجل كان يداعبني كطفلة وحسب فابتسم لي وهذا معناه أن أذكر له اسمي دون شعور بالقلق تجاهه، لكنه لم يكن ليتخيل أبدًا ما الذي سيصدر منه بعد ذلك بأي حال من الأحوال.

 

جذبني الرجل نحوه بشدة، ولف ذراعيه حول جسدي، ثم صرخ بصوت عال ليسمعه المارة البنت دي بنتي أنا يا جماعة، وهنا شعرت برجفة تسري في جسد أبي وهو يحاول تخليصي من بين يديه وهو يقول: "بنتك إزاي أنت مجنون ولا إيه".

 

تجمع المارة في محاولة لحل المشكلة والاستفسار عن تفاصيلها أكثر ليجدوا الرجل يكرر نفس كلامه البنت دي بنتي أنا ولازم أخدها ويعلو صوت أبي قائلًا: "ده راجل كداب ومجنون كمان"، كنت حينها أقف كالدمية الضعيفة بين يديه لا حيلة لي سوى البكاء، وتكرار النداء لأبي بجملة واحدة: "الحقني يا بابا".

 

كل ما أذكره أن الناس سألتني: مين فيهم يبقى باباكي لأجيبهم بثقة ممتزجة بالرجاء في الخلاص أن أبي الحقيقي هو أبي، وليس ذلك الرجل الذي يحتضنني بشدة زاعمًا أنني ابنته.

 

اطمأن الجميع بعدها لصدق روايتي، ورواية أبي، فتعاملوا بهدوء مع ذلك الرجل الغريب. استطاعوا تخليصي من بين يديه بأعجوبة، ثم حاولوا أن يشغلوه بالحديث لإعطائنا الفرصة للاختفاء والرحيل، حملني أبي على ذراعه لتسابق خطواته الزمن عائدًا بي إلى المنزل.

 

الجانب المضحك في هذه القصة أنني كلما تذمرت من بعض الأوامر التي يصدرها أبي أجد نفسي أرددها سرًا بيني وبين نفسي: "ياريتني قلت للناس يومها إن الراجل التاني ده هو بابا الحقيقي".

Dr.Randa
Dr.Radwa