الإثنين 29 ابريل 2024

«الفجر جرح أسود».. تناول مختلف للهجرة غير الشرعية


زينب حداد

مقالات31-10-2022 | 21:00

زينب حداد

صدرتْ مؤخرًا عن دار «النسيم» للنشر والتوزيع بمصر، رواية «الفجر جرح أسود» للكاتبة الجزائرية والأستاذة الجامعية وهيبة سقاي، وهي باكورة رواياتها وليست أولى كتاباتها، فقد نشرت قبلها مجموعتين قصصيتين ورواية مترجمة من العربية إلى الإنجليزية.

تعدّ الرواية مائةً واثنتين وأربعين صفحةً، وتوزعت أحداثها على خمسةَ عشرَ فصلًا بين الجزائر وأوروبا، لحركة مجموعة من الشبان الحاصلين على شهادات عليا والعاطلين عن العمل.

موضوع  الرواية هو موضوع الهجرة غير الشرعية، وهو أصبح مستهلكًا إذ تناوبت عليه أقلام الأدباء نثرًا وشعرًا، وعالجته البحوث الاجتماعية وكذا الباحثون في الاقتصاد والسياسة، وهذا الاهتمام من شأنه أن يمثل صعوبةً أمام الكاتبة إذ يترتب عليها أن تتميّز وأن تكون لها إضافة، وبصمة خاصة.

 إن موهبة الكاتبة جعلتها تغوص في نفسية شخصياتها والانصهار فيها، حتى باتت وكأنها هي، وهذه المقاربة النفسية تبدأ من عتبة الرواية أي العنوان «الفجر جرح أسود».

 وهو ينهض نحويًا على جملة اسمية مكونة من مبتدأ، ورد اسمًا مفردًا معرفًا «الفجر»، وخبر هو مركب نعتي اسمي «جرح أسود»، وهذه المكونات تدلّ على الثبوت والاستمرار وتوكيد المعنى، الذي لن يكون به الفجر مجرد إطار زماني للأحداث، يتغيّر بحسب الدورة الفلكية، بل هو قائم ثابت لا يتزحزح ولا تتغيّر خصائصه التي ذكرت «جرح أسود».

أما بلاغيًا، فالعنوان تشبيه مؤكّد حذفت منه الأداة، مما يقوّي وجه الشبه وهو «السواد»، وبهذا تنزاح الكاتبة بالفجر عن دلالته التقليدية في الأدب، وهي التبشير بالتحول من وقت إلى وقت، ومن حالة سلبية عمومًا إلى أخرى إيجابية، لأنّ الفجر يعلن عن الضوء والنور والشروق، إلى دلالة مستَحدَثةٍ نلمسها في الاستعارة «جرح» كظاهرة بلاغية تتواشج مع التشبيه؛ للتأكيد على أن الفجر هو زمن الأوجاع القاتمة والمعاناة التي لا تنتهي، فيصبح بذلك امتدادًا لليل ويعلن عن رواية «البداياتُ فيها نهاياتٌ»، وتلك خصائص المأساة.

العنوان كشف قدرة الكاتبة على التحكم في سجلاتها اللغوية، كونها المسؤولة الوحيدة عن اختيار العنوان وليس الراوي.

الرواية تتميز بقتامة السرد، وهي رواية التفاعل والانفعال فيها أكثر مما في رواية الأحداث.

إنها  تروي حكاية الشاب «ناصر»، خريج الجامعة وابن شهيد قدم حياته في سبيل استقلال الوطن والعيش الكريم، والذي لن يحظى بالعيش الكريم وسيمثل في الرواية شريحةً متعلمة ومهمشةً.

منهم كمال الحاصل على شهادة في إدارة الأعمال، وأحمد الحاصل على شهادة في الترجمة من سنوات، وشريف خريج كلية الحقوق بتقدير جيّد، وخالد الخبير الكهربائي، وسعيد مهندس الإلكترونيك (ص ٢٧).

تقول عنهم الراوية «شباب من خيرة ما أنجبت كليات الوطن»، وستضاف إلى قائمة الشخصيات هذه، شخصية نسائية هي حنان، خريجة كلية الحقوق.

سيكون للشخصيات الرجالية تجربة موحدة يستقطبها ناصر، لذلك سيعمد الراوي إلى بناء هذه الشخصية صعدًا عبر رواية الأحداث، ويكتشفها القارئ من حيث الخصائص الفيزيولوجية، والانتماء الاجتماعي والطبع والمزاج تدريجيًا؛ ليتبين فعلًا أنه نموذج لشريحة ناضلت اجتماعيًا حتى ترتقي بوضعها، لكنها ستصطدم بفئة أخرى من دعاة النضال والانتهازيين الذين سيتحكمون في مصائر الناس دون وجه حقّ، إذ سيتخذ بعضهم المتاجرة بالبشر وسيلة لربح الأموال.

ويمثل هذه الفئة في الرواية شخصية عيسى الضابط المتقاعد سمسار قوارب الموت، وجاء على لسان فاطمة «أم ناصر» «يا أكذوبة من أكاذيب زمن الثورة.. منذ فجر الاستقلال وأنتم عاقدون العزمَ على تدمير الطاقات الشابة من النخبة المثقفة».

هذه الوضعية الاجتماعية المتأزمة ستمثل ما قبل الرواية، لأنّ الحكاية المرويةَ ستنطلق من رغبة الشخصيات في الانعتاق «واقفٌ هو على حافة الجرف الصخريّ يتأمّل البحر الأزرق المترامي»، وهذه الرغبة ستكون بمثابة اللحظة المفصلية التي ستتحكم في نموّ الرواية في اتجاهين: اتجاه الماضي الذي تعود فيه الشخصية إلى مسافة ما قبل الرواية، لتنتقي ما يخدم سيرها في اتجاه الحاضر/المستقبل، ثم تنمو الحكاية في خطّ البحث عن حلّ للمشكل وكل شخصية ستعيش مغامرة البحث بشكل فردي.

فناصر وأصدقاؤه سيختارون قارب الموت، لكنّ كلاّ سيتجه في طريق بعد ذلك، أما حنان فستجد حلًا لوضعها الاجتماعي في صفقة زواج بمحام ثريّ، وأما فاطمة أمّ ناصر فسيكون سبيلها إلى إنقاذ ابنتها من الإعاقة العضوية لاجئة في ذلك إلى  الوساطة، محرك الشخصيات بشكل فرديّ والدليل على فساد الحكم في الجزائر، وتهميش رأس المال البشري، وعجز المؤسسات عن إدارة شؤون الناس وتفريغ الوطن من كفاءاته، فيكثر الانتهازيون والاستغلاليون، وتحتدّ الطبقية وتنحلّ القيم، فيتحلل النسيج الاجتماعي نفسه، بل وتهيمن المافيا وأساليبها الإجرامية ، وفي وضع كهذا يتساوى الموت والحياة، لذلك كانت خاتمة الطريق بعد ستّ سنوات «زمن ديمومة الأحداث» درامية بالنسبة إلى كل الشخصيات ما عدا كمال.

نهاية اختزنها عنوان الرواية كما بينا أعلاه، ونهاية حتمية بحكم الجمود، الذي أرتهن إرادة التغيير وتحول العقلية الاستعمارية من قوى القمع الخارجية إلى قوى داخلية، وكأنّ قدر شعوب الدول النامية أن تنغلق أمامها أبواب المستقبل فتعيش تاريخها ليلًا أبديًا.

السارد في هذه الرواية يسرد حكاية غيره، ويتخذ موقعًا خارجيًا يكون من خلاله ملاحظًا يتابع حركة الشخصيات، وأوكلت إليه الكاتبة وظيفة هندسة العالم القصصي وتتبّع الشخصيات، فهو من هذا المنطلق تتساوى معرفته بمعرفة المتلقّي.

 لكنّ القارئ سيكتشف أنّ الراوي يخترق ذهن الشخصية، ويعيش انفعالاتها وينقل مواقفها، بل ويستشرف مستقبلها وهو يسرد بضمير الغائب، كما في قوله «همهمات الرياح يحسها موسيقى جنائزية تعزفها فرقة هياكل موتى تفوح منها رائحة العفن  ص8» وهي ذكريات مشحونة بالألم ورائحة الموت لا غير.

Dr.Randa
Dr.Radwa