الجمعة 26 ابريل 2024

الفلسفة والسياسة.. رؤية فلسفية لسياسات الحضارات القديمة (1 – 3)

مقالات1-11-2022 | 12:37

أصل كلمة السياسة في اللغة الإنجليزية Politics مستمد من الكلمة اليونانية Polis بمعنى دولة المدينة، غير أن دولة المدينة عند قدماء اليونان كانت تتولى مهام ووظائف لا نهاية لها في تربية المواطن والإشراف على حياته الخاصة. والسؤال الذي يطرأ علينا الآن، هل يوجد علاقة بين الفلسفة والسياسة؟ وإن وُجِدت هذه العلاقة أو سلمنا بإجابة هذا التساؤل، هل يمكننا التمييز بين علم السياسة والفلسفة السياسية؟

عزيزي القارئ إجابتنا عن هذين التساؤلين ستطلب منا إلقاء نظرة خاطفة عما دار وجال به التاريخ الفلسفي فيما يخص موضوعنا، وهذا ما سنقوم به خلال إجابتنا عن التساؤل الأول حيث سنفرد له المساحة التي يستحقها لاحقًا، أما تساؤلنا الثاني، سنجد أن إجابتنا بالإيجاب؛ حيث يمكننا تمييز علم السياسة عن الفلسفة السياسية على النحو التالي:

يقوم علم السياسة الحديث بمهمة وصف الظواهر السياسية وتحليلها ومعرفة علاقاتها ببعضها. كما يهدف إلى الوصول إلى وضع قوانين عملية ثابتة في مجال السياسة والعمل السياسي. ويتناول بالدراسة والتحليل الظواهر السياسية المختلفة التي تشمل نظم الحكم كما هي قائمة فعلا في الدول المختلفة وعلاقة الدول ببعضها، أو سلطة الدولة على الفرد، وواجبات الفرد إزاء الدولة.

أما الفلسفة السياسية، تتناول المبادئ والتصورات، التي يسلم بها علماء السياسة، بالتوضيح والشرح والتحليل. وتتجه الفلسفة السياسية إلى تشخيص أمراض المجتمع السياسية ومحاولة إيجاد الحلول الكفيلة بتصحيحها ووصف علاجها باقتراح ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع والدولة.

أضف إلى ذلك عزيزي القارئ أنها تفترض وجود القيم مثل: العدالة والحرية، وتحاول تقييم الواقع في ضوء هذه القيم. حيث تتناول البحث في حقيقة السياسة وأصل نشأتها، وهل هي موجودة بالطبيعة أم بالاتفاق والعقد، وهل تستلزم العدالة المساواة المطلقة. أم تقتضي العدالة بامتياز البعض بحيث يكون التمايز والاختلاف أمرًا طبيعيًا.

نصل هنا إلى أن الفلسفة السياسية تقوم بدراسة كيفية تحقيق أكبر قدر من العدالة والحكمة في المجتمعات السياسية في محالة للارتقاء بالقيم السياسية في المجتمعات الإنسانية. وقد بدأ ذلك بوضوح منذ مطلع العصر الحديث حينما ظهرت نظرية العقد الاجتماعي علي يد فلاسفة التنوير، وترتب عليها ظهور (شروق) عصر الدمقراطية الغربية الحديثة والفصل بين سلطات الدولة. وماذا عن طبيعة العلاقة بين الفلسفة والسياسة؟

يظهر تاريخ الفلسفة، من حيث هو تاريخ نظر العقل في العقل، أهمية استثنائية. فقد غدا، دون سائر الفروع التاريخية، موضوعًا لنفسه. فقد وضعت مؤلفات وعقدت ندوات عالمية حول تاريخ الفلسفة. وابتداءً من القرن التاسع عشر، قرن تمخُض المركزية الإثنية الأوروبية، بات تاريخ الفلسفة مركزًا لصراع أنثروبولوجي. فالحضارة الأوروبية الغربية، التي قرأت نفسها حضارة عقل مطلق، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه ما لا نتردد في ان نسميه تغريب (نفي) Occidentalisation العقل اليوناني بوصفه العقل المؤسس للحظة ميلاد الفلسفة.

ولهذا نجد، الحضارات الإنسانية دوائر مغلقة، قد ينفذ بعضها إلى بعض، لكن كل حضارة تظل ذات طابع وهوية ونظرة خاصة إلى الحياة، فالحضارة "تولد، وهي تحمل معها صورة وجودها"، كما رأي أشبنجلر، لذلك فإنه "من المستحيل على فرد من أفراد ينتمون إلى إحدى الحضارات أن يفهموا حضارة أخري غير حضارتهم فهماً كاملاً ودقيقاً". وسواء نعتنا أشبنجلر بالمتشائم أم وافقناه على رؤيته الحضارية تلك، فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى القبول بمقولته السابقة لانطباقها على الفلاسفة المسلمين في فهمهم للفلسفة اليونانية، ولا سيما كتب أرسطو.

كما أننا كثيرًا ما نلتقي بتعبيرات مثل "نظام الحكم في الإسلام" أو "نظام الحكم الإسلامي" أو الفكر السياسي الإسلامي" ... إلــخ وهي كلها تعبيرات مضللة لابد من توضيحها حتى نتجنب الخلط والاضطراب. ويعتمد التوضيح، أساسًا، على التفرقة بين "العقيدة الإسلامية" أي مجموعة المعتقدات الأساسية التي جاءت بها الديانة الإسلامية وبين فكر المسلمين أو أفكار المسلمين التي تعبر عن رأي المسلمين في شتي نواحي المعرفة والعلم.

ففي العصر اليوناني كان الفكر السياسي يدور حول قضية أساسية وهي قضية الفضيلة أو العدالة لفقدانهما في ذلك العصر، كما تركز الفكر السياسي في العصور الوسطي الإسلامية، حول قضية الخلافة أو الإمامة، وهل هي بالنص أم بالاختيار. بينما تركز البحث في العصور الوسطي المسيحية حول قضية العلاقة بين السلطتين الروحية والزمنية، أي بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، بينما ساد البحث في عصر النهضة الأوروبية حول فكرة العقد الاجتماعي. وهذا التطور في الفكر السياسي نُلاحظه عند ابن رشد (1126 – 1198م)، فعلي الرغم من التزامه بالإطار العام في مفهومه أو في تعريفه لعلم السياسة بما ورد عند كل من أفلاطون وأرسطو إلا أنه أضفي على آرائهما الكثير من خلاصة فكره الذي كان نتاج البيئة والتطور الاجتماعي والسياسي على المجتمع الذي عاش فيه.

فلقد بدأ أرسطو كتابه "في السياسة" بمقولته الشهيرة بأن الإنسان كائن سياسي، وكان يقصد بذلك أن جوهر الوجود الاجتماعي هو السياسة وأنه حينما يتفاعل شخصان – أو أكثر – فإنما ينخرطان في علاقة سياسية. وعلي الرغم من هذا نجد تأثر الفكر السياسي الإسلامي بالتراث اليوناني واضح كل الوضوح، وكان تأثرهم عظيمًا بفلسفة أفلاطون الذي كانت غايته السياسية عندهم هي تحقيق السعادة في الدنيا.

علاوة على ذلك، إذا كان لفلاسفة المشرق فضل السبق، فإن هذا لا يعني إنكار فضل فلاسفة المغرب أو أنهم كانوا مجرد امتداد لفلاسفة المشرق. إن فلاسفة المغرب لم يكونوا ناقلين، بل كانوا ناقدين ومبتكرين، ولعل المطلع على الإنتاج الفلسفي يستطيع أن يلاحظ مدي التطور والتقدم الذي أحرزته الفلسفة الإسلامية في المغرب.

فنجد ابن باجه (1085 – 1138م) يبين في مؤلفه "تدبير المتوحد" الطريق العقلي الذي يهدف من خلال تحقيق المدينة الفاضلة التي تتضمن أكبر عدد ممكن من الحكماء والفلاسفة كما أراد ابن باجه أيضاً، تقديم منهج يمكن من خلاله بناء مجتمع تصبح غايته واحده لكل من فيه.

كما وصل الفكر السياسي من ابن رشد إلى قمته بحيث أصبحت مهمته الأساسية، الكشف عن الآليات التي تحكمت في تشكيل الملامح المحددة لطبيعة التجربة الإسلامية في الحقل السياسي أولاً، ونقض الأقاويل التي طال استخدامها على سبيل تسويغ الواقع ثانيًا.

عزيزي القارئ لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الطريقة الفلسفية لدراسة السياسة على افتراض وجود ما هو مثالي، أو قيمة عُليا، ومن ثم تستخلص منها العلاقة بطبيعة الواقع، من خلال الخوض في طبيعة الدولة، ووظيفتها، وغرضها، ونُظم الحكم فيها، وطرق نشوئها وانهيارها؛ ولذلك فهي تعمل على إيجاد اتساق بين النظرية والحقيقة التاريخية والحياة السياسية.

وبناءً عليه، يتحتم علينا بيان هذه الطريقة التي تقوم بها الفلسفة لدراسة ما هو سياسي أو إن شئت قُل ما هو سلطوي. وهو ما يجعلنا نتساءل، هل يمكننا القول بـ"ضرورة السلطة" داخل المجتمع؟ إجابتنا عن هذا التساؤل، ستجعل نقوم بعمل مناقشات بين حضارات أو مجتمعات مختلفة، حتى نستطيع أن نقف على فهم صحيح، أو على أقل تقدير إجابة مرضية عن تساؤلنا. وسيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa