عندما تطالع الأخبار في أي وسيلة إعلامية أو وسائط السوشيال ميديا ستجد نوعية من الأخبار تطاردك يوميا وكلها تتعلق بالولايات المتحدة وبمعنى أدق تدخلات واشنطن في شؤون الشعوب والدول الأخرى، تتحكم في هذه الأخبار دائمًا نبرة التعالي والصلف فكلها تتعلق بالرسالة السامية للسياسة الأمريكية في توجيه أمم العالم إلى طريق الحرية والاستقرار والأمن.
فلا مانع أن تجد خبرًا تقرأ فيه أن بعض نواب الكونجرس الأمريكي يعدون بيانًا من آلاف الكلمات وموجه لدولة لا يعلم عنها أعضاء الكونجرس أي شيء سوى ما يعلمه اللوبي أو جماعات الضغط التي تحركهم وهذا التحريك لأسباب انتخابية والدعم المالي المقدم لهذه الحملات . سيدور دائما بيان أعضاء الكونجرس حول موضوعهم المحبب وهو حقوق الإنسان، أي حقوق وأي إنسان لا أحد يعلم، سيحتوي البيان على "كليشيهات " معتادة، حق التظاهر أو الفوضى والإفراج عن السجناء، أي سجناء بدون معرفة لماذا تم توقيع عقاب قانوني عليهم،
لا يهم أي تفصيلات المهم صدور البيان الذي يظهر أن الولايات المتحدة وأعضاء الكونجرس الموقر حريصون على حقوق الإنسان والحريات في هذه الدولة والعالم أجمع، الحقيقة أن تعدد المؤسسات داخل واشنطن لا يترك الساحة خالية للكونجرس وأعضائه في صناعة أخبار الحريات وحقوق الإنسان.
يقفز البيت الأبيض من خلال تعليقات المتحدث أو المتحدثة باسمه ومستشار الأمن القومي إلى نفس الساحة لكن البيت الأبيض ومتحدثيه ومستشاريه يفضلون موضوعات الاستقرار والأمن فالمجتمع الدولي بالنسبة للجالسين في البيت الأبيض والمتحدثين باسمه هو ساحة من القتال والجنون وكل المسئولين في هذا المجتمع الدولي لا يجيدون إدارة دولهم ويجب عليهم تلقي الأوامر من السادة في واشنطن عن كيفية تحقيق السلام في دولهم والعالم رغم أن أي حرب أو أزمة دولية في هذا العالم ستجد واشنطن محركًا رئيسيًا لها خاصة في وجود تيار العولمة على كرسي الحكم في البيت الأبيض.
تقدم وزارة الخارجية الأمريكية أسلوبًا مختلفًا فهي تعتمد على صكوك الغفران أو التقارير التي تصدرها بشكل دوري فهي توزع هذه الصكوك حسب حجم المصالح فتمنح هذه الدولة صك الطيبة إذ توافقت قرارتها مع المصالح الأمريكية وتشيطنها إذ خرجت عن دوائر المصالح الأمريكية وقررت الدولة اتخاذ قرار يتمتع بالاستقلالية.
أمام هذا الحرص الجارف من الاهتمام بالحريات والحقوق الذي تبديه واشنطن تجاه العالم أجمع سيكون من المنطقي توقع أن الداخل الأمريكي هو الأكثر حرية واستقرارًا وأمنًا وتطبيقًا للحقوق الإنسانية التي تطارد بها الولايات المتحدة المجتمع الدولي لكن على بعد كيلومترات من عاصمة الأمريكية واشنطن جرت واقعة لم تتكلم عنها البيانات وكلمات المتحدثين وصكوك الغفران ولم تهتم آلة الدعاية الأمريكية الرئيسية بالواقعة هذه الآلة التي تطارد بصفاقة دول العالم لأتفه الأسباب وتمارس عليها وصاية سخيفة، الواقعة ببساطة أن هناك صحفيًا أمريكيًا اختفي من منزله بالقرب من العاصمة واشنطن ولم يظهر منذ شهور.
كان يمكن اعتبار واقعة اختفاء الصحفي الشهير جايمس جوردن ميك الذي يعمل كصحفي استقصائي في مجالات الأمن القومي الأمريكي واقعة جنائية أو أنه قرر الاختفاء بإرادته الحرة لكن آخر أعمال الصحفي ومنتج الأفلام الوثائقية كانت التحقيق في التدخلات الأمريكية في الأزمة الروسية الأوكرانية حيث كان يعد تحقيقًا عن هذه التدخلات وآخر ماكتبه على موقع تويتر تغريدة بها كلمة واحدة، حقائق.
بعد هذه التغريدة فوجئ سكان أرالنجتون بولاية فريجنيا بسيارات مدرعة من المخصصة لمواجهة العمليات الإرهابية ومئات من عناصر المباحث الفيدرالية المدججين بالسلاح يحاصرون منزل جايمس جوردون ميك ثم يقتحمونه ويستولون على كل ما فيه ثم يصطحبون جوردون ميك ليذهبوا به إلى جهة مجهولة، أمام هذا المشهد العنيف كان المتوقع أن تصدر المباحث الفيدرالية بيانًا حول سبب ما حدث أو التهم الموجهة إليه لكن كل ما صدر عن المباحث الفيدرالية بعد إلحاح ذوي الصحفي وأصدقائه أن ما حدث لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأمريكي أما أين يوجد جوردن ميك أو طبيعة الإجراءات القانونية التي ستتخذ ضده فهي أمور لم تهتم بها الدولة الأمريكية وأجهزتها الأمنية ولم تفصح عنها.
يمكن الآن عندما تكتب اسم جوردون ميك على محركات البحث ستجد سؤالا حائرًا منذ شهور وهو أين ذهب جايمس جوردون ميك؟ وبالتأكيد هو سؤال بلا إجابة ولا تهتم به وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية التي تكتب الافتتاحيات المطولة عن تعرض ناشط سياسي أو صحفي للضيق من معاملة دولته له حتي لو كان هذا الناشط في جزر الواق الواق أما منظمات حقوق الإنسان التي تقيم في واشنطن وتسير على درب توجهات تيار المعولمين فهي لم تسمع أو تري موضوع اعتقال جوردون ميك وبالتأكيد لن تهتم وسائل الإعلام الرئيسية والمنظمات الحقوقية بجوردون ميك واعتقاله لأنه حدث في الداخل الأمريكي.
قد يتصور البعض أن ما حدث مع جوردون ميك استثناءً على قاعدة الحريات الأمريكية لكن الحقيقة أن ما حدث مع جوردون ميك أقل الاستثناءات وحشية في التعامل الأمريكي مع الصحفيين، فميك لم يلق مصير زميله جاري ويب الذي وجد منتحرًا داخل منزله برصاصتين في رأسه !!
كانت آخر أعمال ويب الصحفية جمعه معلومات عن علاقة المخابرات الأمريكية بإمبراطور المخدرات الكولومبي بابلو اسكوبار وكيف كان بابلو اسكوبار عميلا للمخابرات الأمريكية ويدير تجارة مخدرات بمليارات الدولارات ويهرب الأطنان منها داخل الولايات المتحدة تحت إشراف جهاز المخابرات الأمريكي من أجل تمويل عملياتها دخل أمريكا اللاتينية وعندما خرج اسكوبار عن يد مشغليه وأراد أن يعمل بمفرده تم قتله وتصفيته.
إذا أردنا تتبع تاريخ الإدارات الأمريكية مع الصحفيين في الداخل الأمريكي فنحن سنحتاج إلى مجلدات ندون فيها الحوادث الغامضة التي أنهت حياة صحفيين أمريكيين أو منعهم من ممارسة عملهم وتصفيتهم معنويًا عن طريق اتهامهم بالكذب.
حتي أيقونة العمل الصحفي الأمريكي وهي فضيحة وترجيت التي استقال بعدها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بسبب تجسس عناصر من المخابرات الأمريكية على مقرات منافسه من الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية ونشرت وقائعها صحيفة الواشنطن بوست عندما تكشفت الحقائق كاملة حول ما حدث لم يكن عملا مرتبطا بالحريات والدفاع عن القيم.
كان مسرب المعلومات للصحفي بالواشنطن بوست بوب ودورد هو مارك فيلت الرجل الثاني في المباحث الفيدرالية ولم يكن سبب النشر أو التسريب الخوف على الحريات الأمريكية بل صراع الأجهزة الأمنية الأمريكية فقد انحاز نيكسون إلى المخابرات ضد المباحث الفيدرالية بعد وفاة مؤسس المباحث الفيدرالية أدجار هوفر الذي ترأس الجهاز لمدة 43 عامًاــ لا حديث هنا عن تداول السلطة الذي تصدع رؤوسنا به وسائل الإعلام الأمريكية ــ قرر نيكسون أن يرأس الجهاز أحد رجاله لتصفية ارث أدجارهوفر الرهيب والوثائق التي يملكها هوفر على كل الرؤساء والسياسيين الأمريكيين وهي بالتأكيد وثائق عند نشرها ستكشف حقائق مشينة عن طبيعة الحكم في الولايات المتحدة وحتي هذه اللحظة ماتزال هذه الوثائق مجهولة المكان ولم يستطع نيكسون ورجاله الوصول إليها وقتها.
أطاح نيكسون بمارك فليت رجل أدجار هوفر وتلميذه المخلص من مركز القرار في الجهاز وولي رجله باتريك جراي رئاسة المباحث الفيدرالية من أجل هدف واحد تمزيق المباحث الفيدرالية وكل ما صنعه هوفر الذي كان يرتعد منه نيكسون وهنا قرر فليت والمجموعة الموالية لمؤسس الجهاز هوفر الإطاحة بنيكسون عن طريق تسريب هذه المعلومات حول إصدار نيكسون الأوامر للمخابرات بالتجسس على منافسه.
لم يكن الأمر هنا له علاقة بالدفاع عن الحرية أو نبالة الدفاع عن قيم كان صراعا على حكم بين أجهزة أمنية ودوائر سياسية عندها جشع تجاه مزيد من النفوذ والسيطرة على كل مفاصل الدولة وتم استخدام الصحافة الأمريكية في هذا الصراع وتولت الآلة الدعائية المدربة الترويج أمام العالم أن ما حدث كان قمة الحرية في كشف الحقيقة ولكنها كانت لعبة دعائية عكسية لطمس الحقائق وإخفاء الوجه القبيح والقاسي لطبيعة نظام الحكم الأمريكي.
رغم كل الحقائق، هناك من يري أن النظام السياسي الأمريكي مع هذه التجاوزات هو نظام سياسي مستقر وله قواعد ثابتة في الشارع الأمريكي لكن منذ يناير 2020 ووصول الموجة الثالثة من المعولمين الأكثر شراسة إلى الحكم في البيت الأبيض بعد إدارتي كلينتون وأوباما نجد أن هذه الرؤية حول الاستقرار ضبابية فكيف لطبقة سياسية منتخبة ممثلة في أعضاء الكونجرس تتلقي أكثر من عشرين ألف تهديد بالقتل والاعتداء خلال العام الماضي أو يتم اقتحام قصر الشخصية الثالثة في سلم الحكم الأمريكي نانسي بلوسي والاعتداء على زوجها وكانت هي المقصودة وقبل هذا اقتحام الكونجرس من آلاف الأمريكيين متهمين تيار العولمة بتزوير الانتخابات الرئاسية والاستيلاء على الحكم هذا غير الحوادث الإرهابية شبه اليومية ضد مقرات الدولة الأمريكية من تنظيمات يسارية ويمينية متطرفة ولا تذكر عنها آلة الدعاية الأمريكية شيئًا لتقترب الصورة من حرب أهلية غير معلن عنها في الداخل الأمريكي.
حتي هذه اللحظة مازال هناك من يخشي البيانات والمتحدثين وصكوك الغفران الأمريكية وتيار العولمة الحاكم فيها الذي يجمع حوله ويرعي عصابات الفاشيست ومجانين اليسار لكن الحقيقة تقول إن الولايات المتحدة كيان أصبح ممزقًا من الداخل ويرفض الاعتراف في عناد بانتهاء وضعه الدولي المميز لصالح عالم متعدد الأقطاب، عندما ننظر إلى حقيقة الداخل الأمريكي وتحولات القوي على مستوي الوضع الدولي فهذه النظرة تفرض على الجميع القيام بحسابات واتخاذ قرارات فارقة من أجل المستقبل.