لم يعد الأمر يحتمل السكوت بعد أن تقطعت حبائل الصبر وتحولت الأخطاء الطبية في المستشفيات الخاصة إلى مصائب كارثية .
فما من يوم يمر إلا ونقرأ في أبواب الحوادث عن كوارث وقضايا يحررها أهالي ضحايا تلك المستشفيات التي أصبحت أيسر وأسهل الطرق للثراء الفاحش، وبأقل التكاليف لأصحابها.. وليذهب المرضى إلى الجحيم!
المثير في الأمر أن معظم الضحايا لم يكونوا مصابين بمرض عضال، أو يخضعوا لجراحات خطيرة ، إنما أغلبهم دخلوا على أقدامهم وخرجوا على ظهورهم نتيجة أخطاء ساذجة ارتكبها أشخاص لا يعلمون عن الطب شيئا اللهم إلا رخصة ولقبا حصلوا عليهما بالفلوس أو الدروس الخصوصية، دون أن يتعلموا شيئا عن المهنة!
لقد انتشرت في مصر ظاهرة المستشفيات الخاصة والمراكز الطبية المتخصصة في جراحات اليوم الواحد والتجميل والسمنة والرشاقة والحقن المجهري ، وهي تخصصات تروج للنصب باسم الطب فتحولت إلى “سبوبة” تدر على أصحاب تلك المستشفيات أموالا طائلة ، والأمر لا يتطلب سوى مبنى مؤثث ومكيف ومجموعة من الأطباء حديثي التخرج وطاقم تمريض “على أد الإيد “ واسم طبيب مشهور أو استشاري، وحملات إعلانية مكثفة في فضائيات بئر السلم، دون أدنى رقابة، أما مالك المستشفى فغالبا ما يكون تاجرا لا علاقة له بالطب وأحيانا يكون ممرضا أو “تومارجيا” فتح الله عليه ..مجرد “سبوبة طرية” والسلام!
لاشك أن حادثة وفاة الراقصة “غزل” الأسبوع الماضي نتيجة خطأ طبي وإهمال ارتكبه أطباء بأحد المستشفيات الخاصة بمنطقة حدائق الأهرام، وكانت حديث مواقع التواصل الاجتماعي هي التي أعادت فتح ملف الإهمال الكارثي في المستشفيات الخاصة .. “غزل “ دخلت المستشفى نتيجة تعرضها للإجهاض ووفاة الجنين في بطنها ، حالة عادية يتعامل معها أطباء النساء كل يوم بسهولة كما قال لي شقيقي استشاري النساء والتوليد، ونادرا ما تتطور الحالة وتصل إلى حد الوفاة ، إذا كان هناك إهمال من قبل الأطباء أو عدم توافر الإمكانات داخل غرفة العمليات وأهمها أكياس الدم وأدوية إيقاف النزيف إن حدث، وأغلب الظن أن المستشفى الذي توفيت فيه الراقصة كان يفتقر لكلا العنصرين بكل أسف، هذا المستشفى يملكه مجموعة من الأشقاء وهم بالمناسبة مهندسون اشتغلوا في مجال المقاولات ولا علاقة لهم بالطب ، مجرد استثمار والسلام وأتصور أنهم يعتمدون على الأطباء حديثي التخرج عديمي الخبرة!
إن “غزل “ لم تكن الضحية الأولى ولن تكون الأخيرة لكوارث المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة التي تتعامل مع المرضى بمنتهى الاستخفاف بل والاستهبال ، واسمحوا لي أن أقص عليكم مأساة عشتها عن قرب مع أحد المراكز الطبية التي تخصصت في علاج الحالات الحرجة أو العناية المركزة، حين تعرضت إحدى قريباتي لغيبوبة سكر وارتفاع شديد في الضغط، الأمر الذي كان يستوجب إدخالها فورا غرفة عناية مركزة ، ولأن العثور على مكان بغرف العناية المركزة في مستشفيات وزارة الصحة أو الجامعية أو التعليمية شبه مستحيل فقد أشار علينا المسعف بإدخالها مستشفى خاصا في شارع بورسعيد بالقرب من منطقة الزاوية الحمراء ، المستشفى مكون من ٥ طوابق ، منظره من الخارج لا يبشر بخير ، ومن الداخل أيضا ، أما غرف العناية المركزة التي حصلت على ترخيص من وزارة الصحة ، فهي عبارة عن غرف واسعة تم تقسيمها لأماكن متعددة بمساحة متر في مترين تفصلها عن بعضها ستائر من القماش وبها جهازا تكييف وجهازا تنفس صناعي يتبادلهما المرضى ، أما طاقم التمريض فهو مكون من طالبات مدرسة التمريض التي تقبل الحاصلات على الإعدادية ، وطبيب يعمل على مدى ٢٤ ساعة !
وعندما سألنا عن تكلفة الليلة الواحدة في هذه المقبرة أجابوا بأنها تتراوح بين ٣ إلى ٥ آلاف جنيه !
للأسف اضطررنا لإدخالها هذا المركز ــ الذي مازال يعمل حتى الآن ــ على مضض حتى نجحنا في توفير مكان آخر!
حالة أخرى لطالبة جامعية كانت تشكو من السمنة وأرادت التخلص منها فذهبت إلى مستشفى صدع رءوسنا بإعلاناته المكثفة وأسعاره الخاصة ، الغريب أن صاحب المستشفى هو نفسه جراح السمنة!
المهم ..حدد لها الطبيب موعد إجراء الجراحة في إجازة منتصف العام، فالأمر لا يحتاج إلا بضعة أيام تعود بعدها لممارسة حياتها الطبيعية ، وبالفعل دخلت المسكينة المستشفى ، وخضعت للجراحة ، وفي اليوم التالي بدأت حالتها تتدهور بشكل غريب حتى دخلت في غيبوبة ثم توفيت وسط فاجعة رهيبة لأهلها! وعندما تساءلوا عن سبب وفاتها أجابهم الجراح الذي تعود على وفاة مرضاه داخل مستشفاه: أنا مش مغسل وضامن الجنة والأعمار بيد الله !
.. نعم الأعمار بيد الله ولكن الإهمال بأيدينا نحن !
إهمال المستشفيات الخاصة فاق الحدود، ومستوى بعض الأطباء ينذر بالخطر مع كل الاحترام للدكتورة المناضلة منى مينا وكيل نقابة الأطباء التي تتهم الإعلام بتشويه سمعة أطبائنا، وهو اتهام ظالم ،فالإعلام الذي اعتاد أن يلقي الضوء على براعة ومهارة أطبائنا في مصر والخارج مطالب أيضا بدق أجراس الخطر ضد أي إهمال أو تقصير، مطالب بفضح “سناتر الدروس الخصوصية” لطلاب الطب في جامعتي عين شمس وقصر العيني ، تلك “السناتر” يمتلكها ويديرها أساتذة بهاتين الكليتين وأصبح التدريس فيهما إجباريا حتى ينجح الطلاب بينما صارت مدرجات الكليتين خاوية على عروشها وبات مستوى وجودة خريجيها في خطر! تلك السناتر معروفة سواء تلك التي تقع في شارعي عباس العقاد أو مكرم عبيد لطلاب طب عين شمس ، أو في شارع المنيل لطلاب قصر العيني !
نحن أمام حالات من الإهمال المنتشر في القطاع الطبي والتي يذهب ضحيتها المئات وربما الآلاف من المصريين كل عام، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في اشتراطات منح تراخيص المستشفيات وغلق أبواب التسيب والفساد فى هذا الملف الخطير فضلا عن تشديد الرقابة عليها، وكذلك الاهتمام بجودة خريجي كليات الطب بعد أن تدنى مستواهم بشكل لافت..ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد !