نأتي الآن إلى الجزء الثالث والأخير من موضوعنا، وكنا قد أنهينا مقالنا السابق، بالتساؤل التالي: هل عرف التاريخ الإنساني القديم نوعًا آخر عكس هذا النوع من الحكام والملوك؟ وكان الدافع وراء هذا التساؤل هو ما رأيناه مع النموذجان المختاران في المقال السابق وهما، الحضارة المصرية القديمة، والفيلسوف اليوناني "أفلاطون". حيث جسدت لنا هذه النماذج الدوافع أو المبررات التي تجعل من الحاكم طاغي مستبد، قاهر ظالم، لا يعترف بقانون أو دستور في البلاد، بل تصبح إرادته هي القانون الذي يحكم، ويسخر كل موارد البلاد لإشباع رغباته أو ملذاته أو متعه، ينفرد مثل هذا الحاكم بخاصية أساسية في جميع العصور وهي أنه لا يخضع للمساءلة ولا للمحاسبة.
ونعود الآن للإجابة عن التساؤل الذي أثرناه في البداية وهو، هل عرف التاريخ الإنساني القديم نوعًا آخر عكس هذا النوع – يُقصد بهذا النوع الحاكم الطاغي المستبد – من الحكام والملوك؟ وستكون إجابتنا عن هذا التساؤل من خلال نموذجان، هما "بوذا" وأحد رواد الفكر اليوناني القديم "أرسطو"، وسنستعرض من خلالهما فكرة "الديمقراطية" Democracy وهي حالة سياسية تكون فيها السيادة للمواطنين كافة، بلا تميز على أساس المولد والثروة أو القدرة. وبالتالي تتحقق معها فكرة "الحرية" Freedom وهي الفكر الموازية والناتجة عن الديمقراطية، وتعني: انعدام القيود القمعية أو الزجرية، أي هي الصفة التي تعطي لبعض الأفعال البشرية التي يقوم بها الإنسان بدون ضغط أو إكراه. والسؤال الآن، كيف كان الفكر السياسي البوذي؟
عزيزي القارئ لا نجد في البوذية دعوة لنظام سياسي مُمذهب، او فلسفة سياسية شمولية، بل هناك نظرات عمومية أقرب إلي التمني والتنبيه والإشارة، فالقصص الإرشادية، والأساطير الوعظية هي التي تحملت الفكر السياسي الهندي والبوذي. لذلك نجد أن النظام الطبقي في الهند يتخذ شكلا دينيًا، والمجتمع الهندي مقسم إلى أربع طبقات:
(1) البراهمانيون Brahmana.
(2) الكشترايا Kshatriya.
(3) الفيشايا Vaishya.
(4) الشوادر shudra.
وعندما جاءت قوانين مانو حوالي 200ق.م أكدت ذلك التقسيم، ثم جاء "بوذا" ومحا كل تلك الفروق التي كانت البراهمانية قد وضعتها بين طبقات الشعب، وكان السبب في ذلك أنه رأي أن جميع البشر سواسية، وكانت حجته في ذلك أن "الرجل والمرأة واحد في نظر الإله". فالبوذية دعوة عالمية غير خاصه بقوم، ولا بلون أو بعرق.
وهذا ما يقودنا إلى فكرة "التسامح"، حيث كان "بوذا" مثال في التسامح الديني والمناداة بأن لكل إنسان الحق بالإستبواذ (أي اعتناق العقيدة البوذية)، فالخلاص بمقدور الفقير ولاغني، وبمتناول كل لسان وإنسان. فالبوذية هي طريقة الانضباط الذاتي والنقاء العقلي وبناء على هذا فإنها متسامحة، حيال كل من الديانات الأخرى، على الرغم من الخلافات العديدة الموجودة بين البوذيين في بلاد العالم المختلفة، إلا أنهم يعترفون أحدهم بالآخر كبوذيين، وفضلا عن ذلك، فإنهم لا ينظرون إلى غير البوذيين باعتبارهم أدني منهم. أما عن معاملة "بوذا" لأصدقائه ولمن ناصبوه العداء، فهو أمر يفوق تصور الخيال، فبوذا كان يكره بشدة التعصب الديني، الثرثرة والجدل الذي لا جدوى منه. إلا أن السؤال الذي يلح علينا الآن، هل يمكننا أن نجد لدى "بوذا" قانونًا مُحددًا المعالم؟
بالتأكيد عزيزي القارئ يمكننا أن نجد عند "بوذا" قانون، ولكنه ليس كالقوانيين المتعارف عليها لدى مختلف الحضارات والحكام، إنه "قانون الحياة". حيث أستمر "بوذا" منقطعًا إلي حياة التأمل والتفكير والبحث عن الحقيقة، وفجأة تألق وجهه ابتهاجًا وهو يقول: "أخيرًا وجت مفتاح الحكمة.. إنه أول قانون للحياة.. من الخير يجب أن يأتي الخير.. ومن الشر يجب أن يأتي الشر" القانون الأول للحياة مفتاحًا للحكمة.. يستطيع أن يجيب على جميع الأسئلة التي أزعجته منذ أن أصبح راهبًا، وفي الصباح.. تبين لـ"بوذا" أنه أوشك على نهاية بحثه الطويل عن الحكمة.. وأنه الآن أصبح بوذا المستنير. والسؤال الذي يطرأ علينا الآن، هل النمط السياسي الذي وجدناه مع "بوذا"، هو ما ستنجده مع "أرسطو"؟
سنجد عزيزي القارئ أن آراء "أرسطو" السياسية تخالف آراء "أفلاطون"، فيري "أرسطو" أن الملك والأسرة أمران ضروريان للإنسان، فالعائلة كتله اجتماعية لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدونها، ولا تكون العائلة سعيدة إلا إذا كانت المرأة شريكة لزوجها وخاضعة له، وكان الأولاد خاضعين لوالديهم يكرمونهم، وليس للأولاد حقوق، إنما علي الوالد واجب تربية أولاده وتنمية ما عندهم من مواهب ومؤهلات، أما العلاقات بين السيد والخادم ، فهي علاقات الموالي بعبيدهم، أي أن السياسة عند "أرسطو" تتناول المجتمع لا الفرد لأن المجتمع هو الذي يعد للفرد الفضيلة، ويحميه، ويعلمه، ويربيه، ويساعده علي اكتساب الفضائل. ونتساءل هنا، كيف نشأت الدولة؟
لقد تأثر "أرسطو" كثيرا بنشأته عالم أحياء، وأبنًا لطبيب ماهر، ولذلك فإنه عادة ما يلجأ إلى التحليل التطوري الذي يصف مختلف الظواهر وهي في عملية التطور أو نتاجًا لعملية تطور، مثل تطور الكائنات الحية، وفي خصوص نشأة الدولة يحدثنا أرسطو بأنها انبثقت عن اتحادات أقل منها حجمًا.
فالأصل التاريخي للدولة يجده "أرسطو" في الأسرة، فعندما يتحدد عدد من الأسر تتطور إلي جماعة ريفية ويتجمع عدد من الجماعات الريفية في المدينة أو الدولة، ولكن الدولة ليست مجرد تجمع آلي للأسرة والجماعات الريفية، لأن الدولة هي الغاية والغاية دائمًا سابقة علي ما تكون هي بالنسبة له غاية، ومن الآراء عن طبيعة الدولة وهما خاطئان في رأي أرسطو، الرأي الاول، يقول بأن الفرد غاية في ذاته لكنه ينكر أن تكون للدولة كشكل غاية أو أن لها حياة منفصلة خاصة بها، والرأي الثاني، هو بالعكس ويقوم في أنه لا يعطي حقيقة إلا للدولة ككل وينكر حقيقة الأجزاء أي الأفراد. و"أرسطو" كان لابد على هذه الأسس سيندد بنظرية العقد الاجتماعي الشائعة في القرن الثامن عشر وكذلك كان سيندد بالمثل بالنزعة الفردية المحدثة. وماذا عن شكل الحكومات داخل الدولة؟
تختلف الدولة عن الأسرة، في أن الدولة تؤمن مطالب الفرد وحاجاته جميعها، وتختلف الدولة عن الأسرة في طبيعة السلطة فيها أيضًا، ففي الأسرة يحكم الاب حكم السيد علي أولاده وعبيده، للأسرة، دون الالتفات إلى مصلحة العبيد الذين يملكهم، بينما ينشد الحاكم في الدولة مصلحة جميع المواطنين فيها، والحكومة او نظام الحكم في الدولة يختلف باختلاف محل السلطة وعدد القائمين عليها، ومن جهة أخري المصلحة العامة او المصلحة الخاصة، وبناءً علي هذين المبدأين يكون لدينا ثلاثة أشكال من الحكم الصحيح، تطلب فيه المصلحة العامة، وثلاثة أشكال من الحكم الفاسد، تطلب فيه مصلحة فئة دون فئة. اما الأشكال الصالحة: وهي:
(1) النظام الملكي. (2) النظام الأرستقراطي. (3) النظام الدستوري أو البوليتيا.
واما عن الأشكال الفاسدة:
(1) الطاغية. (2) النظام الأوليجاركي. (3) النظام الديماجوجي.
وماذا عن علاقة الحاكم أو الملك بالمواطنين؟ مهمة الملك حماية الشعب ومنع الظلم الذي يمكن أن يلحق به، وهدف الملك هو الفضيلة والخير، بل أن الملك يطمح أيضًا إلي الخير والشرف والفضيلة، كما أن الملك يعتمد في حراسته على المواطنين. والسؤال الآن، ماذا عن دور القانون في النظام الديمقراطي؟
لقد قرر "أرسطو" أن العرف هو المصدر الأصيل المستقل للقانون، ولذلك فقد وقف بقوة ضد طائفة السفسطائيين، وفي نظر "أرسطو" فإن الحكمة الجماعية للشعب، وهي ما يسمي عادة بالعرف، تعد أسمي من حكمة الفيلسوف الكامل، وذلك لأن أفراد الشعب مهما قل كسبهم من العلم وهم فرادي، فإنهم عندما يجتمعون يكمل بعضهم ببعض، حتى إذا أدلي كل واحد منهم بدلوه، تجمع بذلك منجم أفكار غني يصبح في النهاية أفضل وأوثق مصدر لوضع القانون.
كما أشار "أرسطو" إلى أهمية التعليم في مجال صيانة القانون؛ وذلك لأن التعليم يجب أن يصوغ الحس العام للشعب، بحيث يحترم العرف وقواعد القانون، يقول "أرسطو" في ذلك: "إن أفضل القوانين على الإطلاق تنقلب إلى لغو غير مجد، إذا ما كانت مبادئ الأخلاق والتربية لا تتواءم مع المبادئ السياسية في الدولة الديمقراطية أو الأوليجاركية، وينبغي أن يكون واضحًا أنه إذا حاد مواطن واحد عن طريق القانون، فإن الدولة نفسها عندئذ تشارك في هذا الإخلال بحكم القانون".
واخيرًا، نلاحظ بعد هذا العرض الذي اشتمل على ثلاث مقالات متتالية، أن التاريخ الفلسفي وما يحويه من أنماط وأفكار سياسية، كانت فيه الفلسفة والسياسية شريكان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وذلك من أجل انتاج نظم ونظريات سياسية تتسم بالقيم والعقلانية، يمكن تطبيقها في المجتمعات الإنسانية.