الخميس 16 مايو 2024

مكياج

12-2-2017 | 13:52

هدى حمد - لها بضع روايات ومجموعات قصصية منها "نميمة مالحة"، "ليس بالضبط كما أريد"،"الإشارة برتقالية الآن".

  في الأسبوع الأول من زواجها فقدت رضية علبة المكياج الثمينة التي اشترتها خالتها لها بحرص من أحد المراكز التجارية في مسقط، كما فقدت ما تفقده الفتيات عادة في أول ليلة زواج.

   أوصتها أختها حسنية أن تلبس قميص النوم الحريري الأسود القصير في ليلتها الأولى، ذلك الذي يكشف بوضوح عن بياض جسدها وتضاريسه البارزة، لكن حياءها منعها من ذلك، وهي التي تعتمر جلبابا فضفاضا منذ أن كانت في الصف السادس الابتدائي، وتسدل خمارا على وجهها.

    فضلت رضية في ليلتها الأولى أن تلبس ثوبها القطني بني اللون، قصير الأكمام.. وفي لحظة ارتباكها العارمة ورجفة أعصابها ووسواسها من شيء لا تعرفه، تسلّل إليها خليل بخفة من دون كلام زائد أو ملاطفة، ثم ما لبث أن اغتسل، وانشغل عنها بمكالمة هاتفية في بلكونة الفندق.. بينما بقيت رضية على سريرها مغلقة العينين من دون نوم.

    في صباح اليوم التالي اتصلت بها أختها حسنية، فكان السؤال الأول عن الليلة الحمراء والقميص الأسود. بكت رضية وقالت لها إنه انشغل عنها. غضبت حسنية وعنفتها بقوة لأنها لم تلبس قميص النوم الحريري الأسود.

   عندما جاء خليل لخطبتها لم يرغب حتى بالنظرة الشرعية، وترك الأمور تسير وفقا لترتيبات والدته. كانت رضية سعيدة وراضية. لم تكن أحلامها تتجاوز أن تجد رجلا يعرف ربه.

   حسنية كانت امرأة جريئة. جريئة لدرجة أنها قبلت خطيبها قبل الزواج في فمه. أفشت حسنية بذلك السر الخطير لرضية عندما خطبها خليل. وضعت رضية يديها على وجهها واستغفرت الله مرارا وتكرارا، همست حسنية وهي تلكز رضية غامزة: "تعرفي أن القبلة الحرام تلك كانت ولا تزال ألذ ما حصل بيننا!!"، ثم انفجرت ضاحكة.

   ضغطت رضية على حبات المسبحة بين أصابعها واستغفرت الله مرارا وتكرارا.. "أنا لا أريد أكثر من رجل يعرف ربه".

   صلت رضية صلاة الاستخارة، فكان أن رأت فيما يرى النائم رجلا يسجد بخشوع. شعرت بارتياح هائل لمجرد رؤيته في الحلم، ثم ما لبثت أن أبصرت طلاء أحمر اللون على أطراف السجادة. صحت فزعة من نومها. قال الأب: "لا تفوتُ هذا الرجل صلاة في المسجد"، قالت الأم: "يُعيل عائلته منذ وفاة والده". قالت رضية: "وماذا أريد أكثر من ذلك؟".

    يتحجج خليل بأعذار كثيرة ليخرج ليلا. مرة لأن أمه مريضة، ومرة لأن سيارة صاحبه معطلة، ومرة لأن رئيسه في العمل طلبه فجأة، ولا يعود إلا فجرا. يتوضأ ويصلي، ومن ثمّ يتناول رضية بين يديه وساقيه كمن يتناول وجبة سريعة، وينام.

   بعد أسبوعين من الزواج عادا إلى الشقة التي استأجرها بالقرب من بيت أهله، قالت رضية في نفسها: "ستستقر الأمور الآن"، لكن الأمور ساءت أكثر فأكثر. أصبحت والدته وأخوته الحجة الجاهزة كل يوم.

   وقفت رضية أمام المرآة، لتجرب القميص الحريري الأسود القصير. تغلبت على حيائها هذه المرّة، فلاحظت انحناءات جسدها وتموجاته الجذابة داخل القميص، ارتبكت وهي تمرر أصابع يديها لأول مرّة على كتفيها نزولا إلى صدرها، وكأنها تتحسس طعم رغباتها التي تُهدئها كل يوم بالصلاة والصبر. دخل خليل على غفلة منها، في لحظة التجريب تلك، في لحظة تلامسها الحميم مع جسدها. نظر إليها من رأسها إلى أخمص قدميها، لم يتفاجأ بجسدها كما تفاجأت به هي، وكأنه مرّ على تمثال، أو قطعة أثاث جديدة أضيفت إلى الشقة في ساعات غيابه الطويلة.

   سرت رجفة باردة في جسدها، أكلها الحياء والندم وهي تهرع إلى دورة المياه لتبدل ملابسها. فيما انشغل عنها خليل بمكالمة هاتفية خافتة للغاية.

    في الليلة التي زارت فيها بيت أهلها، تركها وغادر، لم تسألها أمها عن التفاصيل، بينما التصقت بها أختها حسنية وأرادت أن تعرف ماذا فعل القميص الأسود الحريري، بكت في صدر أختها، ثم حكت لها: "إنه رجل مسحور. أو أني امرأة محسودة. مرّة أراه معي ومرّات ليس معي. مرّة أنا زوجته اللصيقة، ومرّات كثيرة  أنا على الرف".

   استنتجت حسنية وجود امرأة أخرى في حياة خليل، فطلبت منها أن تنظر في هاتف زوجها. رفضت رضية أن تفعل ذلك وبشدة.

   في هاتف خليل كان هنالك رقم غير مخزن بـاسم. ترك عدة مكالمات فائتة، وفي صندوق الرسائل عثرت رضية على ثلاث مسجات أرسلها الرقم مجهول الهوية. المسج الأخير "اشتقت لك"، المسج قبل الأخير تصادف إرساله في ليلة زواجها بخليل: "يا خوفي أن زوجتك تاخذك مني"، المسج الأول كان قبل الزواج بأيام: "أنا ما أتحمل حد غيري في حياتك". فتحت الرسائل المرسلة فكان أن قرأت المسج الذي أرسله خليل ليلة العرس: "أوعدك محد يقدر ياخذني منك".

   كاد أن يغمى عليها. شعرت أنها ستموت. ستجن. ما قالته أختها حسنية كان حقيقيا. داخت الأسئلة في رأسها، "هنالك امرأة أخرى. لكن لماذا تزوجني إذا كانت هنالك امرأة أخرى. هل أجبرته أمه على ذلك!!".

    أعادت الهاتف إلى مكانه، أكملت نوبة بكائها في دورة المياه. مكانها السري المخصص للبكاء، ولم تجرؤ على الاتصال بالرقم المجهول الذي حفظته عن ظهر قلب.

    يأكلان ويشربان معا، يذهب إلى عمله، ويعود متأخرا يتناول وجباته سريعا، الأحاديث بينهما مقتضبة وتافهة وبلا معنى في غالب الأحيان. تجمعهما المواضيع العامة، وتغيب المواضيع الخاصة، فمحاولاتها تبوء دائما بالفشل. لم تجرؤ طوال الثلاثة أشهر التي جمعتها به أن تسأله عن ثلاثة أشياء كانت تقف بصعوبة في حلقها، وتقاوم بصعوبة ابتلاعها إلى داخل قلبها.. الأول يتعلق بسريرهما البارد من دون أسباب واضحة، الأمر الآخر يتعلق بالرقم غير المحفوظ الذي يراسله ويتصل به بشراهة- قالت حسنية الرقم الذي نتواصل معه ولا نخزنه يعني أننا نخشى أن يكتشفه أحد غيرنا، لذا نفضل أن نحفظه في قلوبنا- الأمر الثالث كان يتعلق بعلبة المكياج التي اختفت في غرفة الفندق، ولم تجدها إلى يومها هذا. رغم أنّ حسنية حلت لها المشكلة الثالثة بسهولة، عندما أهدتها علبة مكياج جديدة.

    لحظة دخول خليل إلى الاستحمام كانت هي اللحظة الحاسمة لتفتيش هاتفه المحمول. المسج الجديد الذي عثرت عليه رضية كان يحمل جملة قصيرة، ومحددة.. "موعدنا الليلة في السيح". انتفض قلبها، "كيف يقبل خليل لنفسه علاقة غير شرعية، وهو الرجل الذي تعلق قلبه بالمسجد! لكن لماذا لم يتزوج بالمرأة الأخرى إذا كان قلبه معلقاً بها إلى هذه الدرجة!!".

    في كل يوم كانت تُغير ملابسها، تُغير تسريحة شعرها، غيرت ذوقها قطعة قطعة، كما نصحتها حسنية التي تعيش زواجا حميما منذ أربع سنوات. لكن كل شيء لم يكن يجدي نفعا مع خليل الممتلئ بامرأة أخرى. قالت رضية لحسنية عدّة مرّات وبأساليب مختلفة: "لا يعتني بي. لا يسأل عني. لستُ زوجته إلا في السرير. ثمة ما هو ناقص بيننا، ولا أستطيع أن أجد له تفسيرا"، ثم ما تلبث أن تُغير الموضوع: "لا تهمني هذه الأشياء، ولا أفكر فيها. أريد إعادته إلى الطريق القويم وحسب"، ضحكت حسنية حتى كادت أن تقع عن الكرسي الذي احتمل ثقلها، مستلذة بأكاذيب أختها وتبريراتها اليومية، وهي تسأل عن وصفة تُقرب الزوج من زوجته.

   في غياب خليل تتخيل رضية كيف يحضن المرأة الأخرى، ويقبلها ويُسمعها الكلام الذي تريد سماعه. تذكرت ما قالته حسنية عن القُبلة الحرام ولذتها. نفضت رأسها واستغفرت الله، ثم صلت طويلا.

   في تلك الليلة خرجت رضية من دورة المياه بخفة من دون أن تُحدث صوتا. تركت قطرات الماء تتدحرج بخفة من شعرها ووجهها ويديها، بينما الفوطة الصفراء تستر صدرها وأعلى ركبتيها. اقتربت منه، بينما كان وجهه مواجها لمرآة التسريحة، وظهره في اتجاهها مباشرة.

   مدت رضية أطراف أصابعها لتستقر تماما على كتفيه.. إلا أنها ما لبثت أن استردت أصابعها، وكأن مسا كهربائيا أصابها وسرى في أعصابها.

   تراجعت بخطواتها إلى الوراء، قبضت صراخها بيديها، ولم تفلت منها إلا أنفاسها المتعالية.. كان خليل منشغلا بوضع الروج الفاقع على شفتيه..