بقلم: أحمد النجمى
لايحمل الرقم “٢٦” دلالة لفظية أو عددية فخيمة إذا اقترن بذكرى رحيل واحد من المشهورين، لا تهتم بالذكرى- فى هذه الحالة - مجلة سيارة، ولا تقام لها ندوات، ولا تخصص لها برامج فى الفضائيات وعلى هذا مرت ذكرى يوسف إدريس - عميد فن القصة القصيرة العربية - التى تحمل رقم ٢٦ الأسبوع الماضى (أول أغسطس ١٩٩١) دون أن يلتفت إليها أحد.. غير أن مسألة تتصل بالحاضر الثقافى دعتنى إلى التوقف أمامها ليس فقط إجلالا لصاحبها - الذى يستحق كل الإجلال - وإنما لأن كلمة السر فى هذه المسألة - أو هذه القصة بتعبير أدق - لاتزال حية نابضة، إن لم تكن أكثر حيوية وأقوى نبضاً فى أيامنا الحالية..! قصة جائزة مجلة (حوار)
ربما لايعرف الكثيرون من القراء الشباب شيئاً عن مجلة )حوار( هذه.. إنها مجلة ثقافية أصدرها الشاعر والمثقف فلسطينى الأصل “توفيق صايغ” فى بيروت بين عامى ١٩٦٢ و ١٩٦٧.. وكانت تصدر ٦ مرات سنوياً، أى كل شهرين، وقد توقفت هذه المجلة الثقافية - ونكرر “الثقافية” - فى ١٩٦٧، بعد حملة ضدها من المثقفين .. فلماذا كانت هذه الحملة؟
لقد شاع عن (حوار) فى العامين الأخيرين تحديداً من حياتها القصيرة أنها (منصة ثقافية) للمخابرات المركزية الأمريكية (CIA) وبعد أن تحولت هذه الأقاويل إلى حملة حقيقية ضد المجلة وكل ما له علاقة بها .. جرى إغلاقها، بل اضطر توفيق صايغ إلى ترك لبنان كله والهجرة إلى الولايات المتحدة، التى توفى بها بعد ٤ سنوات فى العام ١٩٧١مات صايغ وهو مستقل للمصعد الذى كان يركبه ليصعد إلى شقته لتنتهى بوفاته أية إمكانية لعودة «حوار».
ويسأل سائل : وما علاقة كل هذا بيوسف إدريس؟!
قبل إغلاق «حوار» بسنة واحدة، أى فى العام ١٩٦٦، خصصت «حوار» جائزتها ليوسف إدريس، بوصفه أعظم كتاب القصة القصيرة، فى البداية قبل يوسف إدريس الجائزة ثم عاد ليغير موقفه ويرفضها، بعد أن اتضح له أن تمويلها إنما يأتى من خلال “المنظمة العالمية لحرية الثقافة” التى تتبع فى الحقيقة “حلف الناتو”، الخلاصة أن «حوار» كانت واحدة من ثمار عمل المخابرات المركزية الأمريكية فى العالم العربى، رفض إدريس الجائزة.. وعوضه الزعيم خالد الذكر “جمال عبدالناصر” بمنحه مبلغ الجائزة من القاهرة.. عرفاناً بموقفه!
ولم يكن هذا الموقف من يوسف إدريس بمستغرب ، بل جاء متوافقا مع ثوابته الفكرية والوطنية، لقد كان إدريس - فى الحقيقة - آخر قاص مصرى أو عربى يمكنه أن يقبل جائرة ملوثة بأموال المخابرات الأمريكية..!
وإذا كانت هذه الواقعة معروفة لدى الأجيال المخضرمة من المثقفين المصريين والعرب، وغير معروفة عند قطاع من الشباب.. فإن قصة أخرى مرتبطة بمجلة «حوار» أيضا لايعرفها إلا عدد أقل ..! إنها قصة المثقف والناقد الراحل «د. غالى شكرى» مع هذه المجلة.. فقد أرسل شكرى رسالة إلى توفيق صايغ فى نفس التوقيت تقريبا الذى رفض فيه يوسف إدريس جائزة مجلة «حوار”، جاء فى هذه الرسالة ضمن ما جاء : “.. يالضيعة العمر، فبعد كل الشقاء والحرمان وأسوار المعتقلات أرانى فى لحظة واحدة أكلت خبزى وأكل أولادى معى من الكتابة فى مجلة يمولها الاستعمار.” وبعد أن كشفت النيويورك تايمز الأمريكية فى أحد تقاريرها الصحفية عن “علاقة خاصة” بين هذه المجلة وبين الـ (CI A)، وبعد ما حدث فى عام ١٩٦٦ من انكشاف أمر مجلة «حوار» عقب موقفى يوسف إدريس وغالى شكرى، أخذت أسرار هذه المجلة تنتشر فى المجالس الثقافية فى القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد.. ومما عرف أن المترجم العالمى الشهير دنيس جونسون دافيز كانت له علاقة مباشرة باختيار «توفيق صايغ» لرئاسة تحرير المجلة، يقال إنه لم يكن يتفهم - أقصد دنيس جونسون - علاقة هذه المجلة ومنظمة حرية الثقافة التى تمولها بالمخابرات الأمريكية، ويقال كذلك إنه كان يعلم..!
من المهم هنا أيضا القول إن علاقة يوسف إدريس بالزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر لم تكن مثالية! قصص يوسف إدريس فى مطلع الستينيات، كانت - لمن احترف قراءة الأدب وتفكيك النصوص وقراءة ما وراءها وما بين سطورها - تمثل نزوعا إلى الديمقراطية واتهاما للعصر الناصرى بالدكتاتورية .. على الرغم من هذا، تحول يوسف إدريس - الذى نتفق معه أو نختلف فى الأفكار - إلى رأس حربة ضد هذه الجائزة ذات التمويل الاستخباراتى الملوث .. وكافأه جمال عبدالناصر ...!
قصة إدريس وشكرى مع مجلة «حوار» وتوفيق صايغ، هى فى حقيقتها محاولة اصطياد لمثقف معتبر - أو اثنين من المثقفين المعتبرين فى مصر - لصالح المخابرات الأمريكية .. صحيح أن يوسف إدريس وغالى شكرى قد خرجا من هذا الفخ مرفوعى الرأس، بل ازدادت مكانة يوسف إدريس - تحديداً - رسوخا .. لكن تبقى الوسيلة واضحة : مجلة ثقافية ، تمويلها من منظمة ثقافية عالمية غير مشهورة، ووراء هذه المنظمة تقف المخابرات الأمريكية..!
وفى أيامنا الحاضرة تتسع هذه الظاهرة، وتزداد شراسة محاولات المخابرات الأمريكية- والإسرائيلية وغيرها أيضا - ! فى اصطياد المثقفين فى مصر والعالم العربى بجوائز مالية ضخمة، وتكريمات وهمية، ومحاولات مستمرة للتضخيم من ذواتهم، وإذا كانت المخابرات المركزية قبل أكثر من خمسين عاما قد سعت لاصطياد قامة عالية كيوسف إدريس، فإن مانحى الجوائز فى أمريكا وأوربا - وبعض مانحيها هنا فى مصر - يسعون إلى اصطياد عشرات الأسماء من صغار الأدباء، تارة باسم الجوائز الأدبية، وتارة باسم جوائز حقوق الإنسان، ليجد شاب عمره لم يتجاوز الثلاثين نفسه بطلا للحرية، وهو فى الحقيقة مجرد صيد للمخابرات الأمريكية أو غيرها.. وكلما سمعنا أن (س( أو )ص( من المبدعين الشبان حصل على جائزة أمريكية أو أوربية فى الأدب.. تحسسنا قلوبنا خوفاً.. لاسيما تلك الجوائز مجهولة التاريخ..! المحاولات الآن أكثر وأخطر بكثير من عصر يوسف إدريس!.. والهدف من هذه المحاولات ليس صنع جواسيس أو استقطاب مخربين، المثقفون - إذا سقطوا فى مصيدة أجهزة استخبارات معادية - صاروا أدوات لتخريب المجتمع وهدمه من الداخل، وقد رأينا نماذج منهم فى شرق أوربا عقب سقوط الاتحاد السوفيتى فى مطلع التسعينيات.. المثقفون - فى بعض الأحيان - يكونون هدفاً ثميناً للأعداء..!