الجمعة 27 سبتمبر 2024

البطاقة الشخصية للعمانيين

12-2-2017 | 14:11

مازن حبيب

سيتناول الموظف المناوب، على عجل شديد، في كابينته الصغيرة، بالمنفذ البري البطاقة الشخصية للمواطن العماني، صاحب الاسم الثلاثي والقبيلة، العائد إلى بلدته كالمعتاد، بعد أسبوع عمل مضن، وخلال دقيقة سيلمحها، ويتحقق من معلومات تظهر أمام جهازه، ليعيدها إلى صاحبها، مع ملاحظة تذكيرية مهمة، وورقة تشير إلى الرقم "1" هو عدد الركاب في السيارة. لكن البطاقة التي تناولها الموظف لم تكن تحكي قصة ذلك المواطن.

تاريخ الانتهاء

هو ذات التاريخ الذي يصادف يوم عبوره، حيث يذكره الموظف بضرورة تجديد البطاقة في المرة القادمة، حتى يعبر دون إشكال، دون أن يعْلم المذكر والمذكر أن لن تكون حاجة لتجديد البطاقة، حيث بعد خروجه من المنفذ بقليل، ستصطدم شاحنة مسرعة تتدهور من مسارها بمقدمة سيارة المواطن وتنكمش مقدمتها التي ستتلاقى مع مؤخرتها كعلبة مهروسة لمشروبه "ديو" الأثير على قلبه، وينحشر الجسد والحديد معا، بفعل الصدمة المباشرة، حيث يوافق تاريخ انتهاء البطاقة تاريخ وفاته غير المقيد فيها.

تاريخ الميلاد

لم يولد بطبيعة الحال في الأول من يناير 1948، كما لم يولد معظم العمانيين في الأول من يناير من مختلف الأعوام، كما تصر تواريخ ميلادهم التقديرية المقيدة في بطاقاتهم الشخصية. ولو لم يكن اسمه الشائع (وليس الرسمي) يشير إلى اليومين اللذين يحددان وقت ميلاده لما ذكر أحد في أي من أيام الأسبوع ولد، بعد رحيل كبار رجال القرية، واحدا تلو الآخر، ممن يحفظون التاريخ ويصنعونه، كأشجار الليمون الذابلة في فنائها في مزارع منطقة الباطنة، والذين قدروا أن ولادته كانت بعد نهاية الحرب (والمقصود هنا الحرب العالمية الثانية) بثلاثة أعوام، وإن لم يكن لأي منهم ارتباط وثيق بأحداث الحرب، التي كانت تصل أخبار تحركات الحلفاء في العراق والشام وتلك القادمة من ليبيا ومصر متقطعة. ولذا لا يعرف على وجه الدقة متى ولد الرجل، ولا في أي يوم أو شهر، غير أنه حسب رواية أخرى، غير مقيدة في شهادة تقدير السن، تحتمل ميلاده في مساء صيفي الأمر الذي يضعف التقدير التلقائي لفكرة الأول من يناير، وثمار المانجو المتدلية التي شرعت الغربان في نقرها قد حان قطافها.

محل الميلاد

وتستطرد الرواية ذاتها، أن أباه قد غرس له شجرة مانجو قرب المكان الذي باغت المخاض أمه، قبل أن تهب لعونها نساء القرية، وكان ذلك في اليوم اللاحق لميلاده، احتفاء بقدومه، وتمييزا للمكان، وقد يتعرف على عمره الحقيقي، إن استطاع أحدٌ التعرف على الشجرة المعنية وتقدير عمرها، لو هي مازالت باقية، وكانت الرواية صحيحة أساسا، إذ لم يبق أحدٌ ممن يستطيع أن يثبتها أو ينفيها من أهل ذلك الزمان. والمثبت في البطاقة أن محل الميلاد "صحم"، ولكن الجميع يعلم أن المزرعة التي ولد فيها كانت في "صحار"، لكن بما أن الولد قد انتقل مع عمه إلى "صحم"، في بيت آخر وفي مزرعة أخرى، وعاش الجزء الأكبر من طفولته وبداية شبابه هناك، فقد التبس على شيخ القرية، فيما يبدو الأمر، حين تقدم بالأوراق لاستصدار الجوازات حينها، معتقدا أن محل الميلاد في مزرعة "صحم" وليس في مزرعة "صحار"، واتفق الجميع أن لا داعي للتصويب، بعد اكتشاف الالتباس، وأن البلاد كلها واحدة، ولا فرق بين مزرعة أبيه أو عمه؛ بين "صحم" أو "صحار"، ومثلما في جواز السفر، يكون في البطاقة الشخصية للعمانيين.

الاسم

لم يكن اسمه الحقيقي ذلك المذكور في البطاقة. فقد ولد مساء يوم خميس قبيل دخول ليلة جمعة. فأراد له أبوه اسما مركبا، فصار يدعى "خميس جمعة"، لكن عمه الذي تولى رعايته، بعد وفاة أبيه مباشرة، ورحيل أمه من بعده بعد عام من الكمد، أراد له اسما آخر كان يتمنى أن يمنحه أحد أبنائه الذين لم يرزق بأحد منهم، لعقم يقال في زوجته، وليس مستبعدا أن يكون العقم فيه، إذ لم يتزوج العم بعد وفاة زوجته لاحقا بأي من النساء (بمن فيهن زوجة أخيه التي كانت لا تزال حية) ويجرب حظه في النسل بغيرها، غير أنه من الأسهل أن تثبت صفة في ميت، من أن يثبت عيب على حي، إذ لا فرصة لدحض ذلك العيب عن الميت، وكان من المستبعد أن تشكك في ذات رجل فقد لتوه زوجته، وبما أن الجميع قد صاروا في عداد الموتى، فقد انتهت الاحتمالات عند هذا الحد. ولم يكن السبب– سبب عدم زواج العم مجددا- معلنا، غير أنه بعد سلسلة الوفيات المتتابعة لأرحامه، عكف على زرع وحصد ثمار مزرعته ومزرعة أخيه بين البلدتين وتربية أغنامه وابن أخيه، الذي أصبح برعايته يسمى باسم والد العم المحروم، وجد الابن اليتيم، رسميا في الجواز ذي اللون الأحمر، ولاحقا في البطاقة الشخصية للعمانيين، ولم يعد لاسمه الأول خميس جمعة ذكرٌ إلا حينا على مضض حين يذكر فيتذكر في سالفة تنتمي إلى ماض ليس بعائد.

العنوان

"صحم" كانت العنوان الرسمي الدائم للفترة الأولى من حياته في بيت العم فحسب وبقيت كذلك في البطاقة، وقد أصبح لاحقا لا يقضي إلا القليل من الوقت فيها، بعد أن صار يقتسمه مضطرا بينها و"صحار"، إذ كان يمضي جل أيام شبابه في العمل بورشة ميكانيكية لصيانة المركبات الحكومية بالإمارات ستة أيام في الأسبوع.

فصيلة الدم

كانت فصيلته (أو موجب)، لكن لون الدم الغامق الذي كان متشربا لجسده المتهشم، ولم يكن ينزفه، قد أدهش طبيب الطوارئ المناوب وفريقه، وشكك في ماهيته، حينما كانوا يهمون في إمداده بصفائح دم مطابقة بالتي مقيدة في البطاقة. إذ كان ينزف دما بلون فاتح وهو مغطى بلون دم غامق، إلى أن تبين لهم لاحقا، بعد فحص مختبري اضطروا إلى إجرائه لتأكيد الفصيلة، أن اللون الغامق، الذي لم يكن أيضا من دماء سائق الشاحنة، كان لون شراب الفواكه المركز "الشربتْ" الذي اختلط بدمائه بفعل ارتطام الزجاجات وانسكابها، إثر اصطدام الشاحنة بسيارته. وكان قد تعود ألا يعود إلى القرية، إلا حاملا في يديه زجاجات "الشربتْ" مساء كل خميس ليشرب في الأفراح والتجمعات على مدى السنين.