الأربعاء 29 مايو 2024

بقعة

12-2-2017 | 14:12

فاطمة إحسان - شاعرة وقاصة لها مجموعة شعرية بعنوان "سكة سفر".

  لم يكن محمود منتبها إلى كون القلم مقلوبا حين ضغطه على صدر ثوبه، وهو يتذكر كلام المدير في الشهر الماضي حين طلب منه التدقيق على التفاصيل الصغيرة، ومع أن زملاءه انتبهوا إلى البقعة السوداء التي أخذت تنتشر على القماش الأبيض مثل خسوف مفاجئ، إلا أنهم لم يحركوا ساكنا. أحدهم لم يتمكن من ابتلاع ضحكته جيدا، فطفت على وجهه حمرة واضحة وهو يزم شفتيه قسرا، لئلا ينقلب سكون القاعة إلى كرنفال ساخر.

حدث ذلك في نهار الخميس الأخير من شهر مارس الماضي، في قاعة الاجتماعات بمبنى شركة الغاز، كان قلم الحبر الأسود في يده يرسم أشكالا مبهمة في الهواء، بينما هو يشرح مخططا عمل عليه لأسابيع في ذلك الاجتماع. فور انتهائه من الشرح علّق المدير بأنه كان من الممكن أن يوفر الجهد الذي بذله لعرض التفاصيل الصغيرة في التطرق لجوانب أهم من المشروع لكنه لم يوضح ماهيتها: "لا أعرف كيف يمكنك معالجة ذلك لكن عليك أن تحاول" يختتم المدير كلامه، وينتبه محمود إلى الرطوبة التي تسللت إلى جلده فيشعر بالحرج.

أمام اللوحة التي تحمل اسمه بجوار باب البيت مسبوقا بحرف الميم ونقطة، وضعته ذاكرته أمام مفترق طرق قديم، حين كان يعزف على الأكورديون في مدرسته الثانوية، في الطابور الصباحي تحديدا، يتأمل زملاءه وهم يغادرون ساحة المدرسة إلى قاعاتهم الدراسية، يتبعهم مطرقا، ساهما، متأخرا بعد انتهائه من عزف المقطوعة التي يدخلون على إيقاعها. يبدون متشابهين أكثر مما ينبغي وهم يتحدثون بصوت عالٍ ويمشون بسرعة من يخاف فوات أوانٍ ما، رغم أن الدرس آخر اهتماماتهم.

   في الوقت الذي أشار عليه معلموه بأن يلتحق بالمجال العلمي ليصبح مهندسا لامعا كما توقعوا له، كان يفكر فيما لو كان هنالك “كمان” يتعلم العزف عليه في المدرسة أو خارجها، حين فكّر في العرض المغري الذي قدمته له الشركة الدولية في العاصمة، أصرت زوجته على بقائه في مدينته لأن تكلفة السكن فيها أقل. بينما صار يفكر في فداحة كونه مهدورا مذ اضطر إلى التنازل عن المرتب المالي الذي يمنح لمن هم في درجته، لكون متطلبات الوظيفة التي يشغلها تتطلب درجة علمية أدنى من درجته.

اختطفت انتباهه أصوات معدات البناء في نصف المبنى الذي يجاور بيته، أخذ يستشعر تهديد المعدات الكثيرة الضخمة لملامح البيت التي لم تتشكل بعد. شعر بشفقة شفيفة تسري في دمه المضطرب، وبرغبة رمادية في كسر تمثال نصف الإنسان الذي يمثل وجوده، والعودة إلى وتر الكمان الذي لم يلمسه بعد. "بابا سأشارك في دورة تدريبية في الخارج!" يهتف ابنه فور رؤيته يدلف إلى البيت، وتلتمع عيناه اللوزيتان في نظرة تبرق بفضول وغبطة.

ـ متى و أين؟ كيف يحدث ذلك دون علمي؟

ـ اليوم فقط أخبرونا وماما وقعت لي على ورقة الإذن"، يقول بنبرة أهدأ من سابقتها.

يشعر محمود بالدم يتصاعد إلى رأسه، وبإنهاكٍ يجر خطواته إلى باب المطبخ ويقف هناك، ليبدو له رأس زوجته من خلف باب الثلاجة الذي يكاد يحجب جسدها السمين كله.يتوقف لحظة ليلتقط أنفاسه وهي لم تنتبه لوجوده بعد، كأنما يبدأ العالم وينتهي في كيس الطماطم الذي تحدق فيه في هذه اللحظة.

ـ كيف توقعين على إذن السفر دون علمي؟

يبدو عليها الذعر للحظة حين تُفاجأ بوجوده وبالسؤال المباغت في آنٍ معا:

ـ كان فرحا ويود إبلاغ أصدقائه بالخبر في أقرب وقت، ما المشكلة؟ ألستَ سعيدا بذلك؟ الولد متفوق وهذه فرصة جاءته من السماء!

ـ قلت لكِ بأن لا توقعي على شيء دون علمي.. أي شيء يتعلق بالولد أو غيره ولا نقاش في الموضوع، انتهى!

ـ والخلاصة الآن؟ هل سيذهب ولدك أم لا؟

يحدجها بنظرة تحدٍ: "لن يذهب أحد إلى أي مكان".

"هناك بقعة سوداء على دشداشتك بابا"! يقول ابنه وهو يدلف إلى المطبخ بينما كرة القدم تراوغ ساقيه المبقعتين بآثار كدمات خفيفة، فيما نظره يرتفع إلى عيني والده.

يتأمل محمود عيني ولده المدهوشتين، يفكر للحظات في سبب مقنع لممانعة سفره، لكنه ينفعل: دعك من دشداشتي! يتلعثم بالكلمات التي لا يعرف كيف يقولها، يعود صوته إلى حجرته الداخلية، يرتطم بالجدران اللزجة التي لا تكف عن تضييق صدره. كانت تلك واحدة من اللحظات التي يشعر فيها بأن وجوده كله يشبه بقعة ملوثة في ملاءة بيضاء، لا يتورع أحد عن رفع سبابته إليها في اشمئزاز. قال لابنه الذي ترك الكرة تفلت من بين ساقيه وتتدحرج إلى الصالة: "انتبه لدراستك ولا داعي لدورتك التدريبية هذه، ستكون هدرا للمال وحسب". كادت النظرة المكسورة في عيني ابنه تمتص ما بقي من حنانه لكنه تمالك نفسه بما يكفي لتجاهلها. توجه إلى حجرته، خلع دشداشته المبقعة، فتح دولابه الأبيض الصغير، في الدرج الذي هم بإلقاء الثوب فيه كانت هنالك أعمدة من الأثواب المبقعة الأخرى التي رفض التخلص منها؛ لكونها تذكره بلحظات فارقة، لم يدرك فيها حضوره الخارجي لفرط ما انسحب إلى الداخل.

أخرج كتابا طويلا مغلفا بجلدٍ بني سميك، وقلم حبر أسود. ألقى نظرة على الباب، ليتأكد من كونه وحيدا. من حقه أن يتصرف كمجنون لبضع لحظات من كل يوم. أغمض عينيه المرهقتين، وضع الكتاب تحت ذقنه. بدأت معزوفة “الصيف” لفيفالدي تسيل من رأسه إلى قلبه، وهو يحرك القلم على ظهر الكتاب كما لو كان عصا كمان، يعزف على الآلة التي أحبّ بلا أي قواعد أو معرفة، بينما رأس القلم المكشوف يبدأ بتشكيل بقعة صغيرة تكبر كلما سحب القلم باتجاه صدره، وهو يراقب البقعة وهي ترسم شكلها المألوف، أي علامة موسيقية تنضم إلى السلم الموسيقي المكوّم في الخزانة.

في غضون دقائق شعر بدوار خفيف، طال نظره لطخات الحبر الأسود على أثوابه المتكومة في الخزانة، أخذت اللطخات تكبر بسرعة مخيفة أمام عينيه، تستحوذ على ما بقي مما يراه، بعدها بدا كل شيء بالأزرق، ومن ثم الأحمر، إلى أن جثمت العتمة على كل شيء، وشعر بجسده يهوي إلى الأرض. حين فتح عينيه رأى زوجته وابنه يحدقان فيه بهلع، وكان الضباب الرمادي أوضح ما يراه.