السبت 20 ابريل 2024

علماء مصريون عظماء وقصص نجاحهم الملهمة (23)

مقالات21-11-2022 | 21:20

الدكتور عبد الحليم منتصر عالم النبات وتاريخ العلوم (1908-1992)

فى الستينيات من القرن الفائت، عندما كنا طلابًا بالسنة الأولى والثانية بكلية العلوم، كنا نسمع عن أساتذة برعوا في تخصصاتهم، ولكن أضافوا إليها اهتمام جديد هو تاريخ العلوم عن العرب المسلمين، وكانوا قلائل هم من يدرسون هذا المقرر، اشتهر منهم في ذلك الوقت د.عبد الحليم منتصر، والدكتور خلف الله الدويني، كان الأول أستاذًا لعلم النبات، والثاني استاذًا في علم الحيوان.

وحديثنا اليوم عن أستاذ علم النبات د.عبد الحليم منتصر، الذي ولد في 4 سبتمبر عام 1908 في قرية الغوابيين بالقرب من فارسكور بمحافظة دمياط، في أسرة ثرية لها العزوة والأرض، ونشأ في بيت من بيوت العلم والأدب، وقضى طفولته بين الطبيعة الخلابة التي انعكست عليه فأحبها ونما حبها معه في صباه وشبابه.

 وبعد أن أتَّم دراسته الثانوية في مدرسة المنصورة الثانوية، ومدرسة الجيزة الثانوية، التحق بكلية العلوم بالجامعة المصرية، ليتخرج فيها عام 1931 متخصصا في علم النبات وكان يدّرس له في ذلك الوقت عالم النبات الشهير أوليفر.

تابع عبد الحليم منتصر دراسته العالية في علم النبات ليحصل على درجة الماجستير في عام 19،33 برسالة عنوانها " النتح والثغور في النباتات الصحراوية"، ثم أوفد في بعثة إلى إنجلترا وسويسرا ليستزيد من العلم فى مجال تخصصه، حيث تتلمذ على يد العالم سالزبوري، ليحصل على درجة دكتوراه الفلسفة في علم النبات عام 1935 وكان عنوان رسالته "التربة المصرية"، حيث يعود بعدها إلى مصر ويعين مدرسًا بكلية العلوم، ثم أستاذا مساعدا، حيث تلقفته جامعة إبراهيم باشا (عين شمس حاليا) ليعين أستاذًا لعلم النبات بكلية العلوم عند إنشائها عام 1950 ثم عميدًا لها عام 1954.

واصل الدكتور منتصر بحوثه في علم النبات، وأنشأ مدرسة علمية رائدة في البيئة النباتية تخرج فيها العشرات تحت إشرافه، وحصلوا على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم النبات.

وقد تناولت بحوثه دراسات حول البيئة النباتية في مصر، وبخاصة البيئة الصحراوية وعلاقة النبات بالتربة والعلاقة بين الكائنات الدقيقة والنباتات الراقية، كما درس بيئة بحيرة المنزلة، وعلاقة التربة والنبات فى مريوط، العلاقة بين عوامل التربة ونمو الجذور، أثر الكائنات المجهرية فى التربة على نمو النبات، تغذية النبات فى أرض غير مستصلحة، المقاومة الأحيائية لبعض الأمراض النباتية. وكانت النتيجة نشر مؤلفا ضخما عن نباتات مصر.

يعتبر الدكتور منتصر بحق رائد علم البيئة النباتية فى مصر، ومن طلبته في هذا المجال علماء بارزون وأساتذة كبار في الجامعات المصرية والعربية، طالما اختلفوا إلى مجلسه وأخذوا عنه ونهلوا من علمه.

ومن مؤلفاته: حياة النبات، الوراثة والجنس، أصول علم النبات، صحارى مصر. ومن ترجماته: تشريح النبات، بيئة النبات.

هو رائدا من رواد النهضة العلمية في مصر، شارك فى نشر الثقافة العلمية باللغة العربية، وقاد دعوة لتعريب العلم وتدريس العلوم فى الجامعات باللغة العربية وظل ينشر هذه الدعوة في دأب وإصرار على مدى أكثر من أربعين عاما، وفى مطلع الثلاثينيات أنشأ جمعية أنصار اللغة العربية بكلية العلوم، التي أصدرت مجلة رسالة العلم فى عام 1934 التي جذبت العديد من المفكرين وأساتذة الجامعة للكتابة في أعدادها، وترأس هو تحريرها لعدة عقود وكان يكتب مقالها الافتتاحى متناولًا موضوعات على جانب كبير من الأهمية منها على سبيل المثال: ثورة العلم، تنظيم البحث العلمى فى مصر، العلم فى خدمة الاقتصاد القومى، البحث العلمى ومشروعات الإصلاح، التخطيط العلمى للوطن العربى، الجامعات بين البحث العلمى والتعليم، السباق الدولى فى البحث العلمى، الموارد العلمية فى البلاد العربية، تطور الفكر العلمى ومسايرة اللغة العربية، التعبئة العلمية، بعض اتجاهات البحث العلمى.

اضطلع الدكتور منتصر بالإشراف على عدد كبير من الكتب السنوية ومجموعات المحاضرات والدراسات التي تنشرها الجمعيات والهيئات العلمية والاتحاد العلمى المصرى والعربي، بما يقدر بأكثر من ثلاثين مجلدًا ضخمًا، وقام بنشر عدد من الكتب العلمية المبسطة والمقالات العديدة فى الصحف والمجلات فى مصر وفى كثير من البلاد العربية. كما نشرت له دراسات عديدة فى سلسلة اقرأ وتراث الإنسانية والثقافة والرسالة والعلوم وغيرها مما يجاوز بضع مئات، وبأسلوب يتسم بالعمق والرصانة ويعكس ثقافة واسعة وقريحة وقادة.

عنى د. منتصر عناية كبيرة بتاريخ العلوم وأسهم مع أستاذه الدكتور مصطفى نظيف فى إنشاء الجمعية المصرية لتاريخ العلوم، وإصدار مجلتها المشهورة التى حوت الكثير من المقالات عن علماء العرب والتراث العلمى العربى، حيث ظهر نتيجة لذلك أول كتاب يعتُّد به لتدريس سنوات البكالوريوس بالجامعة المصرية فى تاريخ العلوم عند العرب وقام بتدريسه عدة سنوات من منطلق واع مستنير جيث كان يرى فى دراسة تاريخ العلماء  العرب وأمجادهم فى العصور الذهبية للنهضة العلمية الإسلامية حافز على بناء حاضر مجيد ومستقبل زاهر يعيد للأمة العربية سابق مجدها وعظمتها، وكان أن حاضر وأذاع العديد من الأحاديث والمحاضرات فى المجلات والصحف المختلفة والإذاعة، كما شارك فى وضع دليل ببليوجرافى لأعمال هؤلء العلماء. ومن بين الكتب التى تزيد على الثلاثين كتابا التى ألفها أو ترجمها أو راجعها يأتى: كتاب العلم فى حياتنا اليومية وهو جزآن وكتاب قادة العلم فى العصر الحديث أيضا جزآن، و تاريخ العلم عند العرب، فجر الحياة، العلم الإغريقى، العلم وأصل الكائنات، الكشف والفتح، العلم والإنسان الحديث، الحياة على مر العصور، أصل الأنواع ( جزآن)،  العلم المصنوع من حولنا، الجنس البشرى يتطور.

في عام 1958، أنتخب عضوا فى مجمع اللغة العربية، حيث أشرف وشارك فى ترجمة خمسةَ عشَر ألَف مصطلٍح علمٍّى إبان عضويته فى لجان العلوم الطبيعية بالمجمع من فيزيقا ورياضياٍت وكيمياٍء وچيولوچيا وأحياء وطب فضلا عن عضويته فى لجنة ألفاظ الحضارة ولجنة المعجم الكبير ولجنة تيسير الكتابة ولجنة إحياء التراث العربى ـ كما اشترك فى ترجمة الالاف من المصطلحات العلمية إبان عمله أمينا عاما للاتحاد العلمى المصرى والعربى وشارك أيضا فى وضع قاموس يضم نحو خمسة وثلاثين ألف مصطلح أصدرته هيئة التدريب الفنى للقوات المسلحة.

 أما عن إسهاماته فى أعمال مجلس المجمع ومؤتمراته، فقد قام بتحقيق كتاب الشفاء لابن سينا، وتحدث عن مشاكل المصطلحات العلمية والطريقة العلمية لحلها، التفكير العلمى الإسلامى، العلم وغزو الفضاء، والحاجة إلى معجم علمى عربى، تطوير الفكر العلمى ومسايرة اللغة العربية له. ولم يكتفى بذلك فقد امتد نشاطه إلى الساحة العربية، فاختارته الكويت فى أوائل الستينيات لتأسيس جامعتها ووضع لَبِنَتَها الأولى وأرساء قواعدها وعاد للوطن عام 1964،  كما دعته المملكة العربية السعودية كمستشارا لشؤون الجامعات بها عام 1975 ومضى بها بضع سنوات ليعود إلى المجمع ليواصل رسالته العلمية واللغوية، وإلى جامعة عين شمس ليعمل أستاذا متفرغا بكلية العلوم بها.

أختير د.منتصر عضوا بجمعية البيئة النباتية البريطانية وجمعية علم البيئة النباتية الأمريكية، وجمعية تقدم العلوم الأمريكية والجمعية الدولية لعلم البيئة الصحراوية بالهند.

كما كان عضوًا بالمجمع العلمى المصرى ورئيس سابق وعضو بالأكاديمية المصرية للعلوم والجمعية النباتية المصرية، ونقيبًا للمهن العلمية لعدة سنين، ورئيسا لجمعية خريجى كليات العلوم، وأمينا عاما للاتحاد العلمى المصرى والعربى وللمؤتمرات والدورات العلمية التي ينظمها الاتحاد، كما شغل منصب الأستاذية بمعهد الدراسات الإسلامية وبمعهد الدراسات العربية. وفى 1987 نال الدكتور منتصر جائزة الدولة التقديرية وكان قد سبق أن نال جائزة التفوق العلمى عن كتابه "حياة النبات" عام1938.

تلكم صفحات ناصعة من حياة الدكتور عبد الحليم منتصر، الذي كان أحد علماء مصر الأفذاذ، وشارك بجدية فى بناء النهضة العلمية والثقافية فى مصر على مدى  60 عاما، كما كان فارسًا من فرسان اللغة العربية وحماتها طالما شهدنا بعمق فكره وأصالة علمه وطلاقة لسانه وبيانه.