قام بالزيارة: عماد حبيب
مائة آلف مصرى يخوضون معركة من نوع خاص فى قلب الصحراء يحملون على عاتقهم تحويل حلم دولة إلى وقائع يقطع ألسنة الكارهين والمتربصين بالوطن، لا تمنعهم حرارة الشمس ولا سخونة الرمال من العمل، بل يصرون على استكمال المعركة حتى النهاية، ففى أيديهم حلم «العاصمة الإدارية الجديدة» الذى طاله من التشكيك وحملات التشويه ما لم يطل مشروعًا آخر، لكن فى أرض العاصمة يقف العمال والمهندسون بأدواتهم وكأنهم يحملون السلاح فى معركة التعمير.
جولة خاصة خضناها مابين الخرسانة و حفارات وخلاطات وعمال يملؤهم اليقين بالانجاز لنكتشف فى نهايتها أنه المصرى فعلاً خلق من أجل أن يثبت أنه لا مكان لكلمة مستحيل فى قاموسه.
من قلب الصحراء انفجرت الطاقات وانشقت الأرض لتخرج منها عمارات ومبانى العاصمة الإدارية وكأنها ترد على الجميع وتؤكد أنها ليست أكذوبة، ولا هى إهدار للمليارات، وإنما هى إنجاز جديد سيضاف إلى رصيد المشروعات الكبرى التى تبنيها مصر الآن.
قد نتحدث كثيراً عن طبيعة الإنجاز أو حجمه، أو ما أنفق عليه، لكن كل هذا مهما طال الحديث عنه لن يكشف الحقيقة مثلما تكشفها كلمات صادقة تخرج من عامل بسيط ينحت فى الصحراء قصة كفاح مصرية جديدة .
فى قلب العاصمة الجديدة سمعنا من العمال البسطاء قبل المهندسين كلمات تحمل طاقات من الأمل، فالعمال القادمون من بحرى والصعيد يرون أنفسهم جنودًا فى معركة لا تحتمل الهزيمة ولا تقبل الاستسلام، وإنما البناء هو الاختيار الوحيد.
عندما ذهبنا إلى مقر العاصمة الجديدة تأكدنا من صدق المثل المصرى «من سمع ليس كمن رأى» فعلاً سألنا العمال كيف تحولت آلاف الأفدنة التى كانت عبارة عن رمال صفراء، إلى مبان وإنشاءات وعمارات تقترب من نهايتها فكانت كلمة واحدة «الإرادة التى يثبت المصريون كل يوم أنهم أصحابها» .
٦٠ كيلو مترا، المسافة الممتدة من قلب القاهرة الكبرى، وحتى مشارف العاصمة الإدارية الجديدة، وخلال الرحلة إلى العاصمة التى يمكن وصفها بمدينة الأمل، كان التاريخ حاضرًا، وبقوة، وتحديدا تاريخ «اللى بنوا مصر»، فمحمد على، كانت من عنده البداية، حيث قدم لنا مصر الحديثة، وضعها على خارطة العالم، ليس هذا فحسب، لكنه جعلها نقطة مضيئة على الخريطة، وقوى لا يستهان بها تلعب دورا محوريا على طاولة «إدارة العالم».
قطار التاريخ الذى انطلق منذ بداية الرحلة، توقف عند محطة الخديو إسماعيل، الذى تولى حكم مصر فى العام ١٨٦٣، ليعلن قيام ثورة «معمارية» فى القاهرة الخديوية التى تحولت على يديه إلى قطعة من باريس، احتفلت منذ أيام العاصمة بمرور ١٥٠ عاما على بنائها.
الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وتحديدا اللحظة التى أعلن فيها، من ميدان المنشية فى العام ١٩٥٦ تأميم قناة السويس، محطة أخرى توقف عندها القطار، قبل أن تطأ أقدامنا المحطة الجديدة، التى وضع أساسها الرئيس السيسى منذ عدة أشهر.. محطة «العاصمة الإدارية الجديدة».
«شوية مبانى.. ومجموعة عمال.. وصحرا»..هكذا يحاول البعض تصوير المشهد فى «العاصمة الجديدة»، لكن غير أن الصورة الحقيقية على أرض الواقع تنفى تلك الصورة، جملة وتفصيلا، فحجم الإنجاز يتضح من النظرة الأولى للمكان، فما أن تطأ أقدامك أرض العاصمة ، إلا وستكون أمام ملحمة معمارية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ولهذه الملحمه اختار موقع «بيزنيس إنسايدر» الأمريكى مشروع العاصمة الإدارية الجديدة فى مصر ليكون من بين أكبر المشروعات العملاقة التى ستغير وجه كبرى مدن العالم بحلول عام ٢٠٣٠، واحتل المشروع المرتبة الثانية لأكبر المشروعات الحضرية العملاقة تحت الإنشاء.
الأرقام تقول إن مساحة العاصمة الإدارية تبلغ ١٦٨ ألف فدان، ويتضمن المشروع منطقتى تجمع، محمد بن زايد الشمالى ومركز المؤتمرات، ومدينة المعارض، والحى الحكومى والحى السكنى والمدينة الطبية والمدينة الرياضية والحديقة المركزية والمدينة الذكية، كما تبلغ مساحة حديقة العاصمة ٨ كيلومترات، ويستهدف المشروع جذب حوالى ٧ ملايين نسمة فى مرحلته الأولى فقط، التى تقام على مساحة ١٠آلاف فدان.
كما تبلغ مساحة المدينة الترفيهية فى المشروع أكبر ٣.٥ مرة من يونيفيرسال ستوديوز وتستهدف العاصمة الإدارية فى المرحلة الأولى جذب ٧ ملايين نسمة والتى تقام على مساحة ١٠ آلاف فدان وتبلغ تكلفة المرافق فى الحى السكنى والحكومة ١٠ مليارات جنيه، ومن المتوقع أن يصل حجم مبيعات المرحلة الأولى إلى ٥٠ مليار جنيه. وهذا انجاز لا يتوقف عنده أحد من الكرهين ... لكن هذه عادتهم .
الأهم ان الحى الحكومى يشمل ١٨ مبنى وزاريا ومبنى للبرلمان والذى يضم قاعة تسع ١٠٠٠ نائب وعددا كبيرا من المكاتب للنواب ومبنى لمؤسسة الرئاسة ومبنى لمجلس الوزراء وتم إسناد كل وزراة إلى شركة من الشركات التى تقوم بتنفيذ المشروع، بالإضافة إلى مشاركة شركة صينية فى تنفيذ مشروع حى الوزارت وتعتبر الشركة الصينية من أكبر شركات المقاولات على مستوى العالم، حيث قامت بتنفيذ العديد من ناطحات السحاب فى عدد من الدول الكبرى وإنشاء أكثر من ٩٠٪ من ناطحات السحاب فى الصين.
ويجرى تنفيذ مطار بالمشروع على مساحة ١٦ كيلو مترا ، وجارى التنفيذ لمشروع القطار الكهربائى الذى يربط العاصمة الإدارية بمدنية العاشر من رمضان وبلبيس، ويتم تنفيذ ٢٥ ألف وحدة سكنية فى الحى السكنى تترواح مساحتها ما بين ١١٠ إلى ١٨٠مترا تم إنجاز ١٧ ألف وحدة حتى الآن وتشمل منطقة الوزارات ٣٢٨ فيلا و١٥٧ تاون هاوس.
«إحنا فى مهمة وطنية».. جملة بالتأكيد ستجد لها صدى فى أذانك فى كل محادثة مع أى شخص يعمل داخل المدينة الجديدة، سواء كان عاملا، أو مهندسا، أو إداريا، فالجميع يدركون أنهم يفعلون شيئا للتاريخ، وليس مجرد العمل فى مشروع إنشائى ضخم، سيمر مرور الكرام، بعد الانتهاء من احتفالية افتتاحه والتقاط الصور التذكارية. بجانبه
درجات الحرارة المرتفعة، والموجات الحارة التى تضرب مصر فى الآونة الأخيرة، لم يكن لها آثر على سير العمل فى مشروعات العاصمة الإدارية، فـ»خلية نحل» تعمل فى العاصمة ، لا تتوقف لالتقاط الأنفاس، والتأكد - فى أحيان أخرى- أن الأمور تسير على ما يرام.
«بابتسامة عريضة ووجه تخفيه طبقات من التراب».. قابلنا فى مدخل الحى السكنى التابع للعاصمة الإدارية الجديدة، رجلا ستينيا، عم «حسن» سائق عربة نقل، وكمن كان ينتظر الحديث، قال بفخر حملته كلماته المتدفقة: «إحنا هنا فى حالة حرب مصر بتخوضها، ولا زم نثبت للعالم كله أن مصر تسطيع تبنى نفسها واننا رجالة وقد المهمة ، والمكان فرصة عمل جيدة للشباب ولينا إحنا، أنا شاركت فى عبور ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وحاليا أشارك فى عبور تانى وهو بناء العاصمة الإدارية الجديدة، أنا من البحيرة بسافر بلدى كل ١٥ يوما مرة كل اليومية خميس وجمعة، والأجور مجزية هنا، وفى كل أجازة بأنزل فيها البلد بأحكى للناس على اللى إحنا بنعمله هنا، أنا مقيم فى المشروع أنا وزملائى وكلنا بنساعد بعض وإحنا فرحانين إننا بنعمر ونشيد فى الصحراء».
الكلمات المبهجة التى أطلقها «عم حسن» فى وجوهنا، لم تكن الأخيرة، فالرحلة داخل الحى السكنى للعاصمة الإدارية الجديدة، التقينا خلالها بشاب لم يتعد عمره الـ١٧ عاما، يدفع أمامه عربة عليها «عرقسوس وعصير برتقال»، وفور اقترابنا منه، أمسك سريعا بخيط الحكى، وقال: «أنا اسمى أسامة، من مدينة العاشر من رمضان، وأنا جيت هنا علشان أكل عيش ومش بكسب بس فلوس حلوة من بيع المشروبات للعمال والمهندسين كمان بكسب لأنى برطب عليهم فى الحر، أنا بسافر كل يوم علشان أجيب العصير والثلج، والكل هنا فى الموقع بيتعامل معايا، الصغير والكبير. وبيعاملونى زى ابنهم بداية من مدير المشروع اللى بيسلم على وهو بيمر وبيشرف على العمل لحد أصغر عامل، وبأكل وبشرب مع العمال، على فكرة محدش كان يتوقع أن المكان ده تكون فيه حياة».
دينامو المشروع
وسط مجموعة من المهندسين، يقف المهندس عمرو عبدالسميع، المدير التنفيذى للمشروع،يتابع العمل ويرصد الانجاز يتحدث مع العمال ويوجه النقد لأشياء لم يتم الانتهاء منها، يقضى ساعات عمله وسط المواقع الإنشائية، ولا يعرف الطريق إلى مكتبه الموجود فى حى الوزارات، إلا فيما ندر، الأمر الذى جعله معروفا وسط العمال والمهندسين يطلقون عليه بـ«دينامو المشروع»، فطوال ساعات العمل الممتدة من السادسة صباحا، وحتى نهاية اليوم تجده، يقف مع المهندسين والعمال ويتنقل فى الموقع يشجع العمال ويحفزهم ويتابع تفاصيل العمل كل صغيرة وكبيرة .
دقائق صغيرة تمكنا من اقتناصها من المهندس عمرو عبدالسميع، قال فيها: «إحنا فى مهمة وطنية مينفعش نتخاذل لحظة، يعنى ينفع العسكرى اللى بيحارب يترك سلاحه ويقعد طبعا لا، وإحنا كدة برضه مينفعش نقعد فى مكتب، إحنا مش أقل من الجيل اللى شارك فى بناء السد العالى، المتعة الوحيدة اللى بأحس بيها وأنا بشوف كل يوم حاجة جديدة بتظهر وتكبر فى الموقع، وأنا بشوف الفرحة على وش كل عامل فى المشروع، أنا هنا من بداية ما كان فكرة، يعنى المشروع ده ابنى وفرحتى بتكبر لما، وبشوفه يكبر قدامي، العاصمة الإدارية ده مشروع مصر ، ورسالتى للشباب تعالوا شوفوا مصر وهى بتتقدم».
تركنا الموقع الإنشائى، وحملتنا أقدامنا إلى موقع آخر، لنلتقى، أحمد حداد، الذى يتولى مهمة تقطيع أسياخ الحديد، وفى دقائق اقتنصها لينال قسطا من الراحة، قبل أن يعود لممارسة عمله تحت لهيب الشمس الحارقة، قال: «أنا من البحيرة، شغال فى إحدى الشركات الخاصة وسافرت معهم مشاريع كتير بس الإحساس بالعمل هنا مختلف تماما عن كل مرة بنشتغل فيها فى أى مشروع، أنا هنا بقوم بواجب وطنى بشتغل ورأسى مرفوعة بعمل حاجة لمصر ويمكن ابنى اللى لسه مولود من شهرين يكون ليه نصيب هنا فى يوم من الأيام يسكن أو يشتغل، إحنا هنا بنشتغل علشان ولادنا يكون ليهم بكرة أحسن، أنا بشتغل يوميا حوالى ١٠ ساعات، بس وسط زملائى مش بحس بالوقت، وفى آخر اليوم تجمعنا حجرة صغيرة نقعد نحكى كل اللى دار معانا اليوم كله، أما الأكل والشرب متوفر فى الموقع، فيه ناس بتعدى علينا تبيع، بصراحة أحنا فرحانيين من القلب علشان الشغل هنا والمقابل المادى هنا أفضل من أى مكان تانى».
تركنا الشاب «أحمد» لمباشرة عمله، لنلتقىالمهندس أحمد، أحد الشباب المنتشرين فى الموقع، ، تبدو علامات الحر على وجه ولكنه رغم ذلك لا يكل ولا يمل من التخرك والمتابعة: «العمل هنا ممتد ليل نهار، ولا يمكن لأحد أن يصدق ما وصلنا إليه، فهو إنجاز تاريخى فهناك إنشاءات غير مسبوقة فى أى مكان بالمنطقة العربية والشرق الأوسط، فالجميع فى حالة سباق مع الزمن وأنجزنا جزءا كبيرا من العمل فى فترة قصيرة جدا «.
بجوار المهندس الشاب، يقف محمد يحي، القادم من إحدى محافظات الجنوب، ويعمل فنى كهرباء فى المشروع، يلتقط طرف الحديث : «نقيم هنا فى المشروع وبعض العمال من المحافظات القريبة من المشروع يسافر يوميا، أما المقيمون فى المشروع فلهم أسلوب حياة مختلف، فقد جمعتنا العاصمة الإدارية الجديدة على الأمل فى الغد لنا نحن وأسرنا وأبناءنا، فنحن هنا أسرة واحدة ، ويمكن نقول إننا بنبى الأمل لمصر وفخور فى وسط أبنائى أنى أعمل هنا، والمقابل المادى الذى نحصل عليه عال مقارنة بأى مشروع آخر، فالإدارة هنا تراعى الجوانب الإنسانية فى الأجور».
على أطراف الحى السكنى يوجد خيمة، فور اقترابنا منها اتضح أنها عبارة عن «عصارة قصب»، يديرها شاب يدعى أيمن، لم يتجاوز بعد حاجز الثلاثين عاما، والذى قال: «أتيت إلى هنا لأننى أعلم أنه سوف يكون لنا فى هذا المكان مصدر رزق، فى البداية ترددت أن أدفع كل ما أملك لكى أشترى عصارة القصب، ولكن بعدما حضرت إلى العاصمة الإدارية ورأيت بعينى أنها عبارة عن خلية نحل قررت شراء العصارة وبدأت فى عمل المشروع، وتربطنى علاقةجيدة مع كل الموجودين فى الموقع، وعن طريقكم أرسل رسالة للشباب المصاب بالإحباط مصر بكرة أحلى وياريت الكل يعمل، وأتمنى ألا أترك العاصمة الإدارية أبدا، حيث إننى قررت شراء محل فى المكان لأكمل حياتى هنا.
عقل المدينة
الرحلة داخل العاصمة الإدارية الجديدة، لم تكن لتكمتل دون لقاء المهندس محمد عبدالمقصود، رئيس جهاز العاصمة الإدارية، فهو الرجل الذى يصفه الجميع هناك بأنه «عقل المدينة»، حيث يتملك كافة المعلومات عن المدينة، والمشروعات التى تتم على أرضها، كما يتابع - أولا بأول- معدلات الإنجاز فى كافة المشروعات، حيث قال: هناك أكثر من عشرين شركة مقاولات مصرية وأجنبية تعمل فى الموقع وأكثر من ٨٠ مقاولا يعملون من الباطن يواصلون الليل بالنهار ويوجد أكثر من ١٠٠ ألف عامل داخل المشروع من جميع محافظات الجمهورية، جميعهم يعملون بكل طاقتهم لإنجاز المشروع، كما أنهم يدركون جيدا أن ما يقدمونه الآن مهمة قومية سوف تساهم فى نقل مصر إلى الأمام، فعدد كبير من العاملين فى المشروع هم تحت الأربعين عاما شبكة الطرق تم إنجاز ٩٠٪ منها والمرافق تم إنجاز ٦٠٪ منها.
عبد المقصود يشير إلى أنه : يوجد عدد كبير من العمال من محافظات بعيدة عن القاهرة ومعظمهم من محافظات الصعيد أسيوط وسوهاج والمنيا وقنا وأسوان والوادى الجديد، وهؤلاء مقيمون فى المشروع، وهناك أيضا عمال من محافظات الوجه البحرى البحيرة والشرقية والقليوبية، ولهذا يمكن القول أن مصر كلها تشارك فى العبور للمستقبل كما سبق وأن شاركت فى عبور ٧٣، ورغم أن العاملين فى المشروع من محافظات مختلفة كما سبق وأن أشرت، إلا أن وجودهم داخل المشروع حولهم إلى أسرة واحدة لا تستطيع أن تفرق بينهم.