الخميس 16 مايو 2024

ليلة السقوط في البحر .. إلى س. ع

12-2-2017 | 14:23

سلطان العزري - له مجموعة قصصية عنوانها "تواطؤ"، ورواية عنوانها "سفينة نوح".

  قررت أن أقضي نهاية الأسبوع لدى صاحبي عمر في المدينة الكبيرة حيث يمكنني الخروج من روتين الرتابة والملل المستشري في مدينتي الصغيرة مقارنة بتلك المدينة الكبيرة، حيث الشوارع المضاءة والمتنزهات والفنادق والمطاعم ودور العرض السينمائية، رغم أن صاحبي يقول دائما "يجب وضع علامتي تنصيص عندما تقول المدينة الكبيرة لأنها ليست كذلك"، ذهبنا للفندق العتيق في هذه (المدينة الكبيرة)، عادة، نسهر إلى وقت متأخر ثم نعود أدراجنا لشقة صاحبي عمر، تلك الشقة الصغيرة التي تتكون من غرفة وصالة ودورة مياه وسط حي مليء بالعمالة الآسيوية الرخيصة، نعود قبل بداية خيوط الفجر لنعانق أحلامنا، كل على فراش فوقه بطانة ومخدة عتيقة. عادة هكذا نقضي إجازتنا الأسبوعية.

    تلك الليلة العجيبة، تفاجأنا بغلق متنفس سهرنا المعتاد، تبين لاحقا أننا لا ندقق في أمور كثيرة تجري ليس أقلها القوانين الجديدة التي حددت بصرامة أكبر موضوع الأماكن التي يمكن أن تقدم مشروبات وعصائر روحية أو غازية فقط. تناقشت وصاحبي حول تأثير المظاهرات الأخيرة وسيادة التيار الأصولي ومس الحريات، اختلف صاحبي مع وجهة نظري مبررا بأن لكل مجتمع قوانين تناسبه وليس شرطا أن يحني القانون رأسه للشارع. كانت تلك سمة لقاءاتنا ونقاشاتنا التي تحاول أن تفسر الواقع من رؤيتها الشخصية.

    عندما أزور صاحبي يصر الأخير على أن نمتطي سيارته المزودة بإطارات كبيرة تجعلها ضخمة وتحتاج لقفزة لكي تمتطي كرسيها، في مقدمة السيارة وفوق صفيحة المحرك رُسم وجه كلب عملاق بينما تعالى عمودان طويلان من المعدن على جانبي السيارة الخلفي مع دعامات فولاذية في مقدمتها، كانت سيارة مفتوحة بدون غطاء، قابلنا كالعادة شارعين أمام مدخل الفندق أحدهما يأخذك للداخل باتجاه السوق وآخر باتجاه الخارج حيث ممرات الشارع العام، في الجانب الآخر أضاءت لوحتا مطعمين أحدهما باكستاني والآخر صيني، قررنا أن نذهب للأخير، الأخير ينقلك لعالم الصين التقليدي بألوانه الحمراء وتماثيل التنانين والأسود والموسيقى الصينية، كانت أيضا أسعاره كباقي البضاعات الصينية في متناول اليد، طلبنا تجهيز عشائنا في صناديق صغيرة لنحمله معنا عندما نغادر هذا المطعم، بدأنا بالعصائر الملونة، صفراء، حمراء، لؤلوية، أخرى فوارة، مرت ساعات، بدأنا بالارتفاع والقهقهة، ارتفعت أرواحنا وعقولنا، دخلنا عالما آخر قبل أن يغلق المكان بعد منتصف الليل، خرجنا نبحث عن ناقلتنا العملاقة، كادت سيارة سريعة أن ترفع أرواحنا أكثر عندما كادت أن تدهسنا، شتمنا سائقها وضحكنا بينما قمر حزين ينتصف السماء.

    كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، دخلنا بالسيارة العملاقة الشارع المؤدي للسوق، بعد ثلاث أو أربع انعطافات فاجأنا قطيع من الكلاب، كلاب سود وأخرى بيض وثالثة رمادية وغيرها بنية ومخططة وألوان أخرى، كانت تتجاوز العشرين كلبا تتجول في منتصف الشارع الداخل للسوق، ضغط صاحبي بوق السيارة فزادت أعداد أخرى للمجموعة أمامنا، كانت تنبح وتتقافز حول السيارة، لم تبتعد عن طريقنا، بدأت تدور حول السيارة، شتم صاحبي الكلاب وأخرج الخيزران المدسوسة في أسفل حافة كرسي السائق ولوح بها على الكلاب من الجهة التي بجانبه، كنت أضحك وأقهقه على فكرة العصا والكلاب متذكرا بافلوف وكأنه أمامي، شاهدت صاحبي يركض خلف مجموعة منها محاولا ضربها بالخيزران بينما مجموعة أخرى تنبح وهي تلحقه، تعثر وكادت تعضه بعضها، رجع صاحبي واندس في كرسيه وقد تمزقت أطراف دشداشته، صرخ في وجهي "أنت شاطر تضحك"، نزلت من جهتي واعتليت مقدمة السيارة بينما تجمعت الكلاب بنباحها حول السيارة وأمامي أسفل السيارة، رفعت إزاري وتبولت عليها، تراجعت الكلاب القريبة من مقدمة السيارة بينما ازداد نباحها، أحسست بشعور جيد، رجعت لمقعدي، ضغط صاحبي على دواسة البنزين وهجم على الكلاب أمامه، هربت، لحقها في الممرات الضيقة، كاد أن يصدم بعضها بينما ما يقارب الثلاثين كلبا آخر تنبح وتعدو خلفنا، أوقف صاحبي السيارة فجأة ثم أرجعها بسرعة ليدهس الكلاب التي تتبعنا، ضغط صاحبي أكثر على دواسة البنزين فقفزت سيارتنا الضخمة على سيارة أخرى ونطحتها لترتمي الأخيرة في منتصف الشارع خلفنا بينما الكلاب تنبح وتتراكض من حولنا، انتظرنا للحظات قبل أن ننطلق هاربين من الكلاب والممرات الضيقة وسيارة أخرى ملقاة منتصف الطريق تلك الليلة.

    فتح ثوب المكان على شارع بحري متلألئ، انعطفنا لشارع فرعي قريب من البحر، أرجعنا سيارتنا للخلف حتى كادت أن تلامس مياه البحر الهادئة، أنزلنا كرسيين مطويين وفتحناهما بينما صندوق صغير حمل صناديق العشاء أمامنا، بدأنا نضحك من قصة الكلاب والسيارة المنطوحة والمرمية في منتصف الشارع هناك، قررنا أن الكلاب خطيرة وخاصة الكلاب الليلية، كنا نهم بفتح صندوقي عشائنا الصغيرين عندما فاجأتنا مرة أخرى الأضواء تنهمر علينا من كل مكان، لم يكن ضوء القمر له علاقة بتلك الأضواء القوية والمركزة، بينما رجال ملثمون يوجهون الأسلحة علينا وصوت من مكبر الصوت يصرخ "ارفعوا أيديكم عاليا، لا تقوموا بأية حركة وإلا أطلقنا النار عليكم".

    قال صاحبي "ضاع العشاء" بينما لم أتمالك نفسي من الابتسامة "خير من عند الله"، أحاط بنا رجال الشرطة بزيهم الأزرق أو الأسود والذي لم أتبين لونه تلك اللحظة، قفز بعضهم داخل السيارة وآخرين وجهوا بنادقهم الآلية لنا، ظهر رجل بينهم وقال "من أنتم؟ ماذا تفعلون هنا؟"، بعد دقائق من الشد والجذب والتفتيش الدقيق وتقليب بطاقات هوياتنا طردنا من المكان شر طردة، أذكر أن الضابط قال "وش جايبنكم هنا كنكم مال مخدرات"، رمينا صناديقنا الصغيرة والكراسي دون أن نطويها في مؤخرة السيارة وهربنا غير محمودين من المكان، دخلنا للشارع العام مرة أخرى، أخذنا نقهقه ثانية، قررنا أن البحر خطير وخاصة بحر هذه الليلة.

    وصلنا للكورنيش بجانب الشارع، أوقفنا السيارة وأنزلنا صندوقي عشائنا فقط، اعتلينا مصطبة رخامية تطل على البحر، بين الفينة والأخرى تمر سيارة بخجل، إنه مكان مفتوح، لا كلاب ولا مداهمات، كانت أنوار المصابيح ومآذن المساجد وإضاءة المحلات المغلقة الخافتة وبعض السفن الراسية تنعكس على صفحة البحر، بدأنا في فتح صناديق عشائنا الصغيرة، مرت سيارة طويلة معتمة النوافذ ثم صرخت إطاراتها من فعل الفرامل، رجعت للخلف، توقفت عندما أصبحت في محاذاتنا، قلت لصاحبي إذا رأيت مسدسا أو ماسورة بندقية فاقفز للبحر، رفعنا أرجلنا فوق الرخام ووقفنا استعدادا لنحلق قليلا قبل أن نصل البحر، فتح باب السيارة ترجل رجل ملتح يحمل في يديه كتبا وأشياء أخرى، نادى علينا "يا إخوان، يا شباب"، تريثنا الوثبة في البحر، اقترب الملتحي، مد يده وصافحنا، كنا نحدثه واقفين فوق جدار الرخام الموازي للبحر الذي صار خلف ظهورنا، مد يديه المليئتين بالكتيبات والأشرطة وقال "خذوها، تعلموا أمور دينكم بارك الله فيكم"، انحنينا لنأخذها، هب نسيم خفيف، فقدنا توازننا، حاول صاحبي التشبث بي، أذكر أننا كنا نحلق منتشين باللحظة قبل أن نسقط في البحر.