تحل هذا الشهر، وبالتحديد يوم 2 ديسمبر، ذكرى ميلاد الشرير الطيب، وأفضل من جسد أدوار الشر على الشاشة.. الفنان الراحل محمود المليجى، هو فنان ذو نظرة عين ثاقبة، ملامح حادة تبث الرهبة والرعب فى قلوب من يحدثه، شخصية قوية ولباقة فى الحديث تجعلك تشعر بأنك أمام فيلسوف فى أمور الحياة وطبيعتها، وبرغم براعته فى أدوار الشر إلا أن محمود المليجى كإنسان كان دمث الخلق، وطيب القلب لأبعد الحدود، فهنا تكمن العبقرية أن يخرج من شخصيته الحقيقية، ويجسد ما يبعد تماماً عن حقيقته، ويقنع الجمهور بكونه ذلك الشرير الذى لم يصل أحد لقسوته.
ولد محمود المليجى يوم 22 ديسمبر 1910 بحى المغربلين بالقاهرة، وتوفى يوم 6 يونيو 1983 بالقاهرة فى سن 73 عاماً، تميز بأدوار الشر التى برع فيها، كما لعب أدوار الطبيب، وقدم أدواراً إنسانية.
قدم المليجى أعمالاً كثيرة أمام عظماء السينما المصرية، كما لقبوه بـ«سبنسر تراسى السينما المصرية» أو «أنطونى كوين العرب» وأيضاً «مارلون براندو الشرق».
شارك فى أكثر من 750 فيلماً سينمائياً وتليفزيونياً و 320 مسرحية، وعشرات المسلسلات التليفزيونية والإذاعية، ليكون بذلك ذاكرة فنية خاصة زاخرة بالأعمال المهمة التى لا تنسى.
فى ذكرى ميلاد المليجى، تستعرض «الكواكب» أهم المحطات الفنية والإنسانية فى حياته، وكذلك تصريحات خاصة لكبار النجوم الذين تحدثوا عنه فى تصريحات خاصة لنا...
خلال فترة الدراسة الثانوية بدأ شغفه بالتمثيل، فشارك فى عدد من المسرحيات التى كشفت عن حجم موهبته، وهو ما دعا الفنانة الكبيرة فاطمة رشدى، إلى ضمه لفرقتها مقابل 4 جنيهات ونصف فى الشهر.
كان العرض مغرياً لدرجة لا توصف، حتى إن المليجى، ورغم معارضة أسرته الشديدة، قرر أن يترك الدراسة ويتفرغ للعمل بفرقة فاطمة رشدى.
بعد فترة التحق المليجى بـ«فرقة رمسيس»، التى أسسها يوسف وهبى، والتى حقق فيها نجاحاً كبيراً جعله مؤهلاً لخوض تجربة السينما، والتى بدأها بالوقوف أمام أم كلثوم فى فيلم «وداد»، لتنطلق مسيرته التى قدم خلالها عشرات الأفلام الناجحة، والتى جاء أغلبها مع وحش الشاشة، فريد شوقى.
أما عن مشهد موته فى 6 يونيو 1983 فلم يكن أقل درامية من وفاة شقيقته، حيث كان يُصور آخر مشاهده فى فيلم «أيوب»، وقبل انطلاق التصوير جلس إلى جانب عمر الشريف، وفجأة قال له: «الحياة دى غريبة جداً.. الواحد ينام ويصحى وينام»، قبل أن يضع رأسه ببطء على الطاولة، وحين وجد الشريف أن المليجى لا يجيب، أعتقد بأنه يمازحه وأنه يتقمص الدور، حتى صفق له الحضور فى الاستوديو قبل أن يكتشفوا وفاته.
كواليس رحيله الدرامية
كانت لحظة رحيله درامية تماماً كما كانت أعماله، واليوم يروى المخرج هانى لاشين، مخرج فيلم «أيوب»، آخر أعمال الراحل كواليس لحظة رحيله، يقول لاشين: «وهب محمود المليجى روحه للفن، حتى آخر كلماته وأنفاسه الأخيرة كانت داخل عمله الفنى، ولا أحب أن أسبق اسمه بلقب أستاذ، لأنها أقل من قيمة اسم محمود المليجى، فهو مثل بتهوفن لا يسبق اسمه بالموسيقار، ومحمود المليجى من أهم النجوم الذين ظهروا بالعالم بأكمله».
وعن تفاصيل اللحظات الأخيرة بحياته قال: كنا نستعد لتصوير مشهد فى فيلم أيوب، يتطلب أن يظهر خلاله بأقل من عمره 30 عاماً، وفى هذه اللحظة قال: ورونى هتصغرونى إزاي؟، وكنت أنا وعمر الشريف نجلس معه، فوجدناه يقول، غريبة الدنيا دى، الواحد بيتولد علشان ينام.. ويصحى وينام.. وينام ويصحى، ووجدناه يصدر صوتاً كأنه نائم، فضحكنا جميعاً واعتقدنا بأنه يمثل مشهد النوم، ولكنه أسند رأسه على كتفه وصمت.
وتابع: «اكتشفنا بعد برهة أن هذا الصوت كان حشرجة الموت، وقد صعدت روحه إلى بارئها، فأنهى حياته فى عمله الذى أعطاه عمره كله، فقد كانت لديه قدرة تقمص لم أرها فى حياتى، رحمه الله وتقبله فى عباده الصالحين
بدلة رقص.. وملاية لف
حين قدم الراحل محمود المليجى فيلم «الأرض»، الذى جسد خلاله شخصية فلاح بسيط بعيد كل البعد عن أدوار الشر، لم يكن أحد يتخيل أن من عاش يقنع جمهوره بأنه شرير حتى النخاع، سيقنع نفس الجمهور بأنه يحمل هذا القدر من الطيبة والمحبة، لكن هل كان أحد يتخيل أن هذا النجم الكبير من الممكن أن يرتدى يوماً بدلة رقص وملاية لف؟.
فى بداية مشواره الفنى أُسند إليه دور جسد خلاله شخصية قارئة ودع غجرية، وراقصة، وذلك حين انضم ككومبارس إلى فرقة رمسيس المسرحية، التى دشنها يوسف وهبى، وذلك قبل أن ينضم إلى فرقة فاطمة رشدى، عام 1930 كممثل له دور ثابت براتب شهرى 4 جنيهات ونصف لتبدأ مسيرته الفنية التى شهدت كثيراً من الأعمال المميزة والمهمة.
تحدث أيضاً عنه النجم أحمد بدير وقال: «كان لى عظيم الشرف أن عملت معه، ولكن على من يعمل معه ألا ينظر إلى عينيه، فمن ينظر فى عينيه سينسى ما يجب عليه قوله، وهذا من قوة أدائه وتعبيره بعينيه القويتين، فكنت أخاف منه، ويحضرنى أنى شاركت معه فى رباعية مكونة من 4 حلقات، ولكنى كنت أنسى جمل حوارى عندما أنظر إليه».
وتابع: «هو من عباقرة التمثيل بمصر ومن شدة حبى له، جسدت دوره فى مسلسل أبوضحكة جنان الذى روى قصة حياة إسماعيل ياسين، وقام ببطولته أشرف عبدالباقى، وقمت بتأدية شخصيته، لكنى لم أقلده بل استحضرت روحه وقوة نظرته وتأثيره، وعلى الرغم من أنه كان يُلقب بشرير السينما المصرية، إلا أنه من أطيب ما يكون».
وأضاف: «يحضرنى أيضاً موقف أثناء مشاركتى معه مسرحية اسمها مبروك، وكان دورى يقتصر على كونى جرسون يقدم المشروبات للضيوف بحفل يقيمه هو بالقصر، ولا أنطق بأى كلمة سوى كلمة (تفضلوا)، وذات يوم ذهبت إليه وقلت له يا أستاذ محمود، أريد أن أقول ولو جملة واحدة، فوافق على الفور دون تردد، رغم أنه لم يكن يعرف حتى اسمى حينها».
واستكمل: «وأثناء العرض قبل أن ينطق جملته صمت، ونظر لى، ولكنى من شدة الخوف انعقد لسانى وظللنا على هذا الوضع لدقائق ولا أحد يفهم ما الأمر سوى أنا وهو، وصمم ألا ينطق جملته حتى أتحدث أنا، وبالفعل نطقت أخيراً، وبكيت واهتز المسرح تصفيقاً بسبب هذا المشهد، وبعد انتهاء العرض أثنى على ثناءً شديداً وطلب منى أن أكرر نفس المشهد يومياً».
كما تحدث عنه معنا الراحل الفنان الكبير عزت العلايلى قبيل رحيله، والذى شاركه أكثر من عمل وأبرزها فيلم «الأرض» ليروى لنا المواقف الطريفة التى جمعتهما، وأيضاً ليكشف لنا كواليس تصوير المشهد الأصعب فى الفيلم وهو «سحل» المليجى على الأرض.
وقال العلايلي: «محمود المليجى كان من أطيب الناس وهو متسامح جداً، لدرجة أننا قمنا بتأليف نشيد باسمه، أنا وصلاح السعدنى وحمدى أحمد ومجموعتنا بأكملها أثناء عملنا بالفيلم، كان نشيداً كوميدياً نرحب به من خلال كلماته، لا أتذكر الكلمات إلا أننى أتذكر أنه كان مضحكاً وأسعده كثيراً، وكان الراحل يتمتع بخفة ظل كبيرة، إلا أنه كان به عيب واحد، وهو أنه كان شرهاً فى التدخين بشكل مبالغ فيه، وكثيراً كنا نقول له كفى يا عم محمود، ولكنه لم يستمع لنا».
واستكمل: «لم يكن له أى علاقة بالشر الذى يظهر على الشاشة حتى نظرة عينيه المرعبة هذه كانت حانية للغاية فى الواقع، وهذا يوضح لنا أنه فنان أصيل يستطيع التقمص ببراعة، كما أنه قدم تجارب مسرحية مهمة للغاية، وعمل مع أكبر قامات الفن، فتجربته الفنية غنية وثرية جداً وكان فى قمة التواضع برغم قيمته الكبيرة».
وواصل العلايلى كلامه: «فيلم الأرض علامة من علامات السينما المصرية، فالمخرج يوسف شاهين له نظرة عبقرية، وكنا نحن مازلنا براعم تنبت فنياً.. أنا وحمدى أحمد وصلاح السعدني».
وعن جملة «كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة»، قال العلايلى: «هذه الجملة علامة مميزة بالفيلم، ومازال الناس يتداولونها، وكانت تعبر عن حالنا بعد ثورة 1919 والأحداث السياسية التى مرت بها مصر، وأن رجال مصر لم يتركوا بلدهم، بل وقفوا وقفة رجالة».
وحول مشهد سحل المليجى على الأرض تابع: «هذا المشهد كان صعباً للغاية عملياً ونفسياً، ولكنه لم يُنفذ كما ظهر، ولم تكن يد المليجى هى المكبلة، بل كان الدوبلير، ولكن عبقرية شاهين وعبقرية تعبيرات المليجى مع أغنية (الأرض لو عطشانة) أخرجت المشهد كرائعة من روائع السينما، ولم يكن فى الإمكان أن يؤديه المليجى بنفسه، فهو مؤلم جداً».
كما روى لنا موقفاً طريفاً جمعه بالراحل، وقال: كان أستاذنا جميعاً، وخفيف الظل، وذات يوم كنا مسافرين إلى موسكو، بفيلم «الناس والنيل»، وكان إنتاجاً مشتركاً بين مصر وروسيا، وكنت بالطائرة مع المليجى، فقال لي: «عاوز أجيب لعلوية فرو وقالولى موجود فى موسكو وأنت جيت موسكو قبل كده ولازم تجيبهولي»، ففقلت له: «حاضر»، لكن بمجرد هبوط الطائرة قال لي: «يلا نروح نجيب الفرو لعلوية مراتي»، كان يخاف جداً منها الله يرحمه، وقلت له: «أنت خايف منها يا عم محمود؟»، فرد وقال: «اسمع يا ولا، والله لو ما جيبته لأطلع روحك»، وفى اليوم التالى أيقظنى فى الساعة السابعة صباحاً لنشترى الفرو لزوجته، ومع ذلك لم أغضب إطلاقاً، بل كنت أحبه جداً وأحترمه
.
زواجه من سناء يونس
أما حياته الخاصة فلم تكن فى أفضل حال، فكان متزوجاً من الفنانة علوية جميل ولكن قصة حب جمعت بين الراحل محمود المليجى وسناء يونس فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، واتفقا أن يكملا عمريهما معاً بعيداً عن الأضواء، على أن يتم الزواج بالسر، وقطع بينه وبينها عهداً على أن تحافظ على هذا السر حفاظاً على مشاعر زوجته الأولى.
وبعد رحيل المليجى حاول بعض أصدقائها إقناعها بأن تعلن عن زواجها منه، وأن تحصل على حقها الشرعى فى الميراث، وهذا حقها، إلا أنها أبت أن تكشف سراً قد ائتمنها عليه.
وذات يوم أجرت حواراً وكشفت به أثناء حديثها عن الأمر، إلا أنها بعد الانتهاء منه وقبل أن يتم نشره اتصلت بالمحاور ورفضت نشره، وكأنها راجعت نفسها، وقالت إنها أيضاً لا تريد أن تكشف السر وتسيء لذكراه، وإنها أيضاً لا تحب أن تجرح مشاعر زوجته الأولى السيدة علوية جميل
.
وكانت سناء يونس هى آخر زيجات الراحل محمود المليجى بعدما بحث عن الحب لأكثر من مرة بعدما عانى من زواجه من علوية جميل وإصرارها على إيذاءه وفرض سيطرتها عليه؛ بسبب عدم قدرته على الإنجاب، ولم يتم كشف الأمر إلا بعد رحيل سناء يونس وبالفعل ظلت محتفظة بسرها معه حتى رحلت