تحتاج إلى نَفَس طويل حتى تُقدِم على قراءة "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"، وثيقة الكاتب والباحث الموسيقي الشاب الموهوب المجتهد كريم جمال، الكتاب صدر حديثًا عن "تنمية" فيما يزيد على ستمائة صفحة من القطع الطولي المتوسط، وتدرك بمجرد استقراره بين يديك أن مؤلفه أراده من البداية يليق بسيدة الغناء العربي شكلًا قبل أن يكون مضمونًا.
"إلى صاحبة السِفر والمعجزة، إلى السيدة التي لم أعاصر مُنجزها الغنائي ولكن لا تزال أصداؤه تملأ مسامعي، إلى أم كلثوم".. هكذا أهدى كريم جمال كتابه إلى "ثومة" ومنه يعرف القارئ مع أولى صفحات الكتاب، أن الاجتهاد في البحث والرصد والقراءة والتحليل والتدقيق، أتى من قلب عاشق قبل أن يمر على عقل كاتب، ولا شك أن أم كلثوم تستحق كل هذا العشق قبل كل هذا الجهد.
يونيو 67 في تقديري هزيمة أتت من داخلنا قبل أن نمنحها نصرًا لعدوٍ تاريخي، وهو ما يؤكده سرعة التعافي بروح المُقَصِر خلال أيام قليلة بعد خطاب التنحي الناصري، فكان أن اشتعل بنفس الإيقاع دافع تجاوز الكارثة والسعي نحو استعادة الأرض في نفوس الشعب المصري بكامله، لم يقتصر الأمر على جنوده البواسل في ساحة المعركة، وإنما صار كل مصري في موقعه يسأل نفسه عما يمكن أن يقدمه، وفي صدارة هؤلاء على ساحة الفن وقفت سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
استوعبت بصيرة أم كلثوم النافذة مبكرًا، أن فنها هو السلاح الأقوى في يدها، ومكانتها في قلوب عشاق صوتها محليًا وإقليميًا وعالميًا هي موقعها الأكثر تأثيرًا في المعركة، فأدركت أن دورها في هذا الظرف التاريخي أن تغني من الآن فصاعدًا لصالح مصر، وإلى أن يتحقق نصر آمنت أنه قادم لا محالة، بقدر ما كنت تعتقد وتثق في زعامة جمال عبد الناصر.
"أبيت أن أستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامي إلا أحد أمرين: فإما إن ألتزم الصمت، وأقبع في ركنٍ من الانهيار النفسي، وإما أن أمضي بسلاحي، وهو صوتي، أبذل ما أستطيع من جهدٍ من أجل المعركة، واخترت الأمر الثاني.. أحسست أنني أكون سلبية لو امتنعت عن الغناء، وأحسست أنني أقف وراء رسالة عبد الناصر، لو غنيت داخل الحدود وخارج الحدود، لأرفع صوتي باسم وطني، وأجمع ما أستطيع أن أجمع من عدةٍ وعتاد من أجل المعركة، لعلي أرد بعض جميل مصر".. هكذا صرحت سيدة الغناء العربي لمجلة "الهلال" في أكتوبر 1971.
انطلقت سيدة الغناء العربي أم كلثوم تغني ست سنوات كاملة دعمًا لصالح المجهود الحربي، بعد أن دشنت حملتها لصالح المجهود الحربي في 20 يونيو 1967، بأن حولت شيكًا بمبلغ 20 ألف جنيه إسترليني إلى خزانة الدولة المصرية، كانت قد تلقته من دولة الكويت مقابل إذاعة بعض تسجيلاتها الغنائية هناك، ولم يعرف أحد بالخبر إلا بعدما سربه أحد موظفي وزارة المالية إلى الصحافة المصرية، فكتب عنه موسى صبري في "الأخبار" تحت عنوان "خذوا القدوة من أم كلثوم"، داعيًا الفنانين المصريين إلى الاقتداء بمواقف أم كلثوم الوطنية، خاصة وأن بعضهم وسط أجواء الهزيمة، سافر إلى لبنان هربًا من حر الصيف في القاهرة!
أطلقت أم كلثوم "هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية" لإسعاف الجنود المصابين وتوحيد صف المرأة المصرية للمشاركة في دعم المجهود الحربي بالتبرع بالنقود والمصاغ، ومحاولة منها للإسهام في ترميم المشاعر الوطنية لسيدات مصر قبل أن تعمل على تعبئتها، ثم كان أن انطلقت في إقامة حفلاتها لدعم المجهود الحربي داخل مصر وخارجها.
بقدر ما جاء ثقل كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" وثراء تفاصيله، بقدر ما تصعب مراجعته في مساحةٍ تظل قاصرة مهما طالت، فقط أتوقف مدونًا بعض الهوامش مؤكدًا من خلالها أهمية هذا الكتاب الوثيقة بحق، فهو بالعودة إلى توثيق جهود أم كلثوم طوال سنوات المجهود الحربي، أعاد من جديد التأسيس لقيمة الفن ودوره المؤثر في حياة الشعوب، وألقى الأضواء مجددًا على قيمة أم كلثوم نفسها وقصة نجاحها الباقية متفردة استثنائيًا في تاريخ الفن في عمومه.
أيضًا لا يمكن لقارئ الكتاب أن يغفل براعة الزعيم جمال عبد الناصر في إدراك قيمة وتأثير القوة الناعمة وتوظيفها لصالح توجهات وتحديات الدولة المصرية، وهو ما تجلى بوضوح في توجيه وزارة الخارجية بمنح أم كلثوم جواز السفر الدبلوماسي بعد عودتها من أولى رحلاتها إلى الخارج لصالح دعم المجهود الحربي، ومعه توجيه وزارة الثقافة بمنح أم كلثوم جائزة الدولة التقديرية في الفنون بعدما رُشِحت لها مرتان ولم تُمنح لها باعتبار أن ضوابط الجائزة لا ترى في الغناء عملًا إبداعيًا كالشعر والموسيقى!
كما يمكن أن نرصد من خلال الكتاب، ما يجوز أن نطلق عليه القائمة القصيرة لـ"أم كلثوم"، أعني القائمة القصيرة لأفضل ما غنت، فمن خلال حفلاتها داخل مصر وخارجها لصالح دعم المجهود الحربي، والتي جاءت متزامنة مع السنوات الأخيرة من عمرها، وسواء من خلال ما وضعته بنفسها من برامج تلك الحفلات، أو من خلال ما طالبتها به الجماهير ولم تكن مُدرجة ضمن تلك البرامج، أو من خلال ما أبدعت في غنائه في تلك الحفلات رغم أنها لم تكن تغنيها لأول مرة.
من خلال هذا كله يمكنك أن ترصد بسهولة كيف أن "الأطلال" هي أعظم ما غنت أم كلثوم إلى حد أنها جاءت دائمًا خارج المنافسة، وبعدها تأتي "أنت عمري" و"أمل حياتي" و"فكروني" لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وفي المقابل "بعيد عنك" و"فات الميعاد" و"ألف ليلة وليلة" لعبقري الموسيقى العربية بليغ حمدي.
استمتعت إلى أبعد الحدود بقراءة "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"، وهو من تلك الكتب التي تأخذ موضعها حال قراءتها ضمن المراجع في أي مكتبة، وأدعو مؤلفه الموهوب المجتهد كريم جمال إلى مواصلة جهوده في إعادة قراءة وتوثيق تاريخ الفن المصري.