السبت 20 ابريل 2024

ع النَّاصية

مقالات16-12-2022 | 13:38

لمَحتهُ لأوَّلِ مَرّةٍ أصيل يوماً صَائف، يُمرّر كُمّ جلبابٍ صَعيديٍّ واسع، يَزيحُ في عَصبيةٍ عن وجههِ المُغضّن خُيوطا رفيعة من العَرقِ، يَضربُ كَفا بكف فيما يُشبه الهَوس، مُحوقِلا يتَعالى صراخه من فَينةٍ لأخرى، في زَعيقٍ مُخيف ينبئ عَنْ أنّ صَاحبه فّي ورطةٍ مُؤكّدة، يَتحرّك مُهتَز العُود يَحترقُ غَضبا بِضع خطوات، قد أمسك بَطرفِ جِلبابه تَرتعش يده التي تيبّست عليهِ، رَيثما يَعودُ سيرته الأولى مُستَظلا تحتَ شٍجرةٍ هزيلة الظّل، يَرمي ببصرٍ حَاد بينَ طَبقاتِ الفضاء المُلتَهِب، يَقرضُ أنياب الغيظ، وكَأنّما يُطالِعُ شَبحا تَراءى يُخايله في اجتراءٍ، بيد أنّه في غربته تلك لم يسلم من فضولِ بعض المارة الذين أغرقوه بتعليقاتهم السَّخيفة، وتلك عادتهم، حين تهافتوا عليه كالذباب، جذبتهم نبرة صوته وحركات تمثيلية اندمجَ فيها في عَفويةٍ، وأيمانٍ مغلظة تتطايرُ يَمنةً ويَسرة، وهيئته التي جَعلت منه صَيدا ثَمينا لعَدساتِ هواتفهم المحمولة، وكَأنَّ مَخلوقا هَبطَ من كَوكبٍ آخر .

لم يجد مِن بُدٍّ إلّا أن يَندفع في عِمايةٍ، ليشرع فيّ وصلةِ سِبابٍ فاحش، بعد إد يَئس فيّ رَدِّ مهاتراتهم، وتْلك طَبيعة الجَنوبّي حين يشعر بالامتهانِ عندها ينتصر لكرامتهِ مَهما كاَنت الكُلفة، انصرفَ القومُ عنه بعد لأيٍّ ؛ ليعود صاحبنا أدراجه حيث كان مُكفَهرّ الوجه يُكمل مكالمته وكأنَّ شيئا لم يحدث، من الوَهلةِ الأولى لم نكَن على وِفاقٍ، فتحياتي التي ألُقيها حَارّة عليه معَ كُلِّ مَرةٍ، لم تصنع منه ذلك الشَّخص الودود الذيّ يَردُّ سَلاما بسلام، جَاهدتُ طويلا في تنويعِ نغمات صوتي ومخارج حروفي، لكنّي فشلت، حتّى اللحظة لا أعرف سِرّ تصميمه المُخيف وترفعه، كيف لا يَرد السَّلام يا له من جِلفٍ سخيف، حاولت مرارا الاقتراب منه، صدقني لا أعرف مُؤتى تلك المغامرة فلم أحسب لها حساباً، لكَنّي تَوقّفتُ حينما اعتبرتها نوعاً من المُخَاطرةِ، خاصة والرجل في هَيكلهِ يبدو كوَحشٍ ضاري، يتراقص شاربه الفِضيّ الطَّويل كقرونِ الجَاموس فوقَ شِفاهٍ سَمراء، نظره الَحادّ المُخيف، ووجهه العبوس الذي لم تبلّ جلده الابتسامة يوما، ناهيك عن جبَهتهِ العَريضة اللاَّمعة في تَوتّرٍ، خشونة الجنوبي ولكنته الجافة، عدم اكتراثه بالمحيطين مهما كانوا، كُلّ هذا الزمني الحَدّ.

زادَ هذا فيّ إصراري، أقسمت بيني وبين نفسي أن أَجِد يوما مكانا إلى جوارهِ مهما تكلفت، لماذا هذا كله لا أعرف، لا أعرف لماذا تركت أشغالي وجعلت من هذا الجنوبي شغلتي ؟!

في الآونةِ الأخير بدا واهِنا على غيرِ العادة، حتى صورته المرتسمة بقوة مزعومة، وصوته الجَهوريّ يخفي اضطرابا صريحا، نظراته المحتضرة لفتت انتباهي، حِدّته الزَّائدة عن المعقول زادت من ضعفهِ، تباطأت في سيري ذاتَ عشيةٍ، الملم بعض ما تناثر من حديثه، يعرك جبهته بيده مأخوذا في حديثهِ، ثم يغيبُ في نوبةِ صمتٍ طويل، يَطرقُ دقيقة وكأنّ قشعريرة تتمشّى في بَدنهِ، تضطرب يده في ضعفٍ وخوار، يُجيب مُحدِّثه بكلمةٍ واحدة تنتزع روحه معها :" يعني خلاص، انتهى الموضوع يا مرحبا به "، مررت يوما لم يكن صاحبنا مكانه، تريثت قليلا، تلهيت في ضَجرٍ اقلِّبُ هاتفي، إلى أن أقبل متثاقلا في مشيته، يجرُّ قدميه جَرّا، تجاهل حبات العرق التي تجمّعت فامتلأت بها نتوءات رقبته، تَقدّمت منه مُحيّيا، هالني ما سمعت، فقد رَدّ تحيّتي في شبهِ ابتهاجٍ، انصرفتُ عنه فيّ عُجالةٍ، تلهيتُ لأيامٍ لا أحصيها، مررت ذات ظهيرةٍ، فلم أَجِده، تَكرّر انتظاري صَاحبّي، لكنَّه لم يأت، لم تعد لهُ من باقيةٍ، لاحِقا شَاعَ النَّبأ، كانَ " صالحين " طَريدا ثأر يَطلبه منذ سنين طويلة، قَضاها في غُربتهِ ؛ إِثر مُناوشة بين جيرانِه في الحقلِ، سَوّلت له نفسه فيّ النهايةِ قتلَ جاره " عوض" فأرداهُ قتيلا، انتظرت زوجة القتيل إلى أن يكبر " سويلم " أكبر أنجالها، فأرسلته يتعقّب قاتل أبيه ويَعودُ بخيرهِ وقد كان، تزاحمت سيارات النَّجدة قد تَراّص رِجال الإسعاف، وامتلأت النوافذ بسكانُ البنايات للفُرجَةِ، وشَابٌ فّي عُمرِ الزُّهورِ شَامخٌ بأنفهِ، مُتباهِيا فّي أصفادهِ.

بعد أسبوع مررت في ذَاتِ المَكان، لأجدَ ضَيفا جَديدا قد حلّ، لكنّي لا أعرف ما وراءه.