الجمعة 17 مايو 2024

«علم موسيقى الشعوب» كتاب يحاول فهم الأهمية الكونية والاجتماعية والنفسية العميقة للموسيقى

تيموثي رايس

ثقافة18-12-2022 | 13:50

محمد الحمامصي

يعتقد علماء موسيقى الشعوب أن جميع البشر، وليس فقط أولئك الذين نسميهم موسيقيين، موسيقيون، وأن الموسيقى هي أحد المحاور الأساسية للتجربة البشرية. تثير هذه الرؤية الثاقبة أسئلة كبيرة حول طبيعة الموسيقى وطبيعة الجنس البشري، ويجادل علماء موسيقى الشعوب بأنه لمعالجة هذه الأسئلة بشكل صحيح، يجب دراسة الموسيقى بكل تنوعها الجغرافي والتاريخي.

في هذه المقدمة القصيرة التي صدرت عنوان "علم موسيقى الشعوب" عن مشروع "كلمة" للترجمة في مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة- أبوظبي ونقلها إلى العربية محمد فتحي خضر، يقدم تيموثي رايس، أحد أبرز علماء موسيقى الشعوب، سردًا مضغوطًا ومضيئًا لهذا الانضباط المتنامي، موضحًا كيف يتابع الباحثون الحداثيون دراسة الموسيقى من جميع أنحاء العالم، بحثًا عن رؤى جديدة في كل من الموسيقى والإنسانية، إذ يكتشف القارئ أن علماء موسيقى الشعوب اليوم لا يدرسون فقط الأشكال التقليدية للموسيقى مثل غاغاكو اليابانية، والموسيقى الشعبية البلغارية، غاميلان الجاوي، أو الطبول والغناء للأمريكيين الأصليين ولكن أيضًا يستكشف الأشكال الموسيقية المعاصرة، من موسيقى الراب والريغي إلى تكس مكس، والتوربوفولك الصربي، وحتى موسيقى الأنابيب في مول أمريكا.

وللتحقيق في هذه الأشكال الموسيقية المتنوعة، يؤكد رايس أن علماء الموسيقى الشعوب يعيشون عادةً في قلب المجتمع، يشاركون في الأحداث الموسيقية ويراقبونها ويسجلونها، ويقابلون الموسيقيين، ورعاتهم، والجمهور، بل ويتعلمون الغناء واللعب والرقص، إذ من المهم إقامة علاقة مع الموسيقيين وأفراد المجتمع والحصول على إذن ممن سيعملون معهم عن كثب على مدار عدة أشهر وربما سنوات.. لنرى كيف يقوم الباحث بتحليل البيانات لفهم كيفية عمل تقليد موسيقي معين، وما يميزه، وكيف يحمل المعاني الشخصية والاجتماعية والثقافية المنسوبة إليه. يناقش رايس أيضًا كيف يمكن للباحثين تطبيق نظريات من الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية الأخرى، لإلقاء مزيد من الضوء على طبيعة الموسيقى كسلوك بشري وممارسة ثقافية.

يضيء رايس تاريخًا موجزًا ​​لمحاولة فهم الأهمية الكونية والاجتماعية والنفسية العميقة للموسيقى، وكيفية تعامل علماء موسيقى الشعوب مع دور الموسيقى في عالم حديث من الحرب والعنف والمرض وتغير المناخ، كما يوضح كيف يتم دمج الموسيقى في المجتمع والثقافة، وكيف يبتكر الأفراد الموسيقى ويختبرونها، وكيف ولماذا تتغير الموسيقى باستمرار، حتى ما يسمى بالموسيقى التقليدية. أيضا يتناول الكيفيةَ التي درَسَ بها اختصاصيُّو موسيقى الشعوبِ تنوعَ الحس الموسيقي البشري، علاوة على تاريخ هذا المجال، ومناهجه، وأفكاره الرئيسة، والسياقات التي يمارس فيها.

وأشار المترجم محمد فتحي خضر إلى أن رايس تتبع كيفية امتلاك البَشر الحس الموسيقيّ، وأسباب ذلك و"الحس الموسيقي" في هذا التعريف لا يُشِير إلى الموهبةِ أوِ القُدْرةِ الموسيقيتين، ولكن يشِير إلى قدرة البشر على إبداعِ معاني الأصوات المؤَلفة بواسطة البشر وتَأديتِها، وتنظيمها معرفياً، والاستجابة لها جسديا وعاطفيا، بالإضافة إلى تأويلِ معانيها، ويفترض وفق هذا التعريف أن البشر كلَّهم ـ وليس فقطْ أولئك الذين نَدعُوهم "موسيقيّين" ـ يمتلكون حساً موسيقيا بدرجةٍ ما، وأن هذا الحس الموسيقي (أي القدرة على صنِع الموسيقى وفهم معانيها) يُعد سمة مميزة لنوعنا البشري، ويُقدم أحد محَكات الخبرة البَشرية. وربما يكون التفكير الموسيقي وممارسةُ الموسيقى أمرين مهِمَّين لكينونتنا الإنسانية في العالم بنفس أهمية قدرتنا على الكلام وفهمه.

ينتمي علم موسيقى الشعوب إلى مجموعة العلومِ الاجتماعية والإنسانية والبيولوجيةِ المكرسةِ لفهمِ طبيعةِ النوع البشري بكل تنوعه البيولوجي والاجتماعي والثقافي والفني. ويؤمن اختصاصيو موسيقى الشعوبِ بأن علينا دراسةَ الموسيقى بكل تَنوعِها من أجلِ فَهم بشريتنا عن طريق حسنا الموسيقي.

ليس تعريفُ علمِ موسيقى الشعوبِ مسألةً بسيطةً. وتخبرنا الجوانب المتعددة لهذا العلم بشيء جديد حول الأهداف الفكرية للمجال، وموضوع دراستِه، ومناهجِه وممارساتِه الفعلية، أو اختلافاتِه عن المجالات الأخرى. فعلم موسيقى الشعوبِ هو دراسة كيفيةِ امتلاكِ البشرِ الحس الموسيقي، وأسباب ذلك. وهو أيضًا دراسة الموسيقى العالمية كلها، ودراسة مجموعات البشر الذين يصنعون الموسيقى، ودراسة التنوع الموسيقي البشري بناءً على الإثنوغرافيا الموسيقية والميدانية، ودراسة الموسيقى العالمية، أوِ التقليدية، أو غيرِ الغربية، ودراسة الموسيقى داخلَ الثقافة (أو بوصفها ثقافة)، ودراسة الأصواتِ المنظمة بشريا، ودراسة الموسيقى والبيئاتِ الصوتية التي تصنع فيها، ودراسة الشعوبِ التي تصنعُ الموسيقى، ودراسة الممارسةِ الموسيقيَّةِ البَشرية، ودراسة الموسيقى العالمية بأي وسائل، لفظية وغيرِ لفظية. وفي النهاية، فإن علم موسيقى الشعوبِ هو فرعٌ أكاديميٌّ قائمٌ على الحوارِ العقلانيِّ المكتوبِ عنِ النطاقِ الكاملِ لصُنعِ الموسيقى البشرية، في كل الأماكن وكلِ الحقَب الزمنية.

من أهم فصول الكتاب هو ذلك الذي خصصه رايس لإجراءات البحث الميداني وتحدياته المعقدة وسحره في ذات الوقت. إنه سرد مصور جيدًا، ويستند إلى أمثلة من فريق دولي من الباحثين في علم موسيقى الشعوب. حيث يركز على الموضوعات التي تحظى باهتمام خاص مثل إجراء المقابلات، ومراقبة المشاركين، والتعلم من خلال الأداء وتوثيق التقاليد الموسيقية. يؤدي هذا الأخير إلى مناقشة موجزة حول النسخ وتحليل الرموز الموسيقية، ثم إلى ملخص ثاقب للغاية لحقوق الملكية الفكرية في السياقات الدولية والمتعددة الثقافات. في هذه الكتابة، لا يحاول رايس أن يعلمنا كيفية القيام بكل مهمة، بقدر ما يحاول أن يقول ما قام به وعلماء آخرين وكيف يمكن أن نساهم في ذلك. ويختتم بالدفاع عن العمل الميداني في عصر ما بعد الاستعمار، التي وصفها بأنها "مستحيلة بدون صداقة وتعاون أولئك الذين يدرس علماء موسيقى الشعوب معهم". ثم يحثنا بعد ذلك على المضي قدما وتحويل العمل الميداني إلى كتابة وتدريس وعمل تطبيقي في المجتمع الأوسع.

 

أيضا من  الفصول المهمة فصل "طبيعة الموسيقى" حيث يدرس الموسيقى كمجموعة من الموارد، ويلفت إلى الاستخدامات المتعلقة  بالموسيقى في الحياة الاجتماعية والنفسية، يقدم أمثلة موحية من أبحاثه الخاصة ومن أبحاث علماء موسيقى شعربيين رائدين آخرين، حيث يستكشف مثلا مساهمة الموسيقى في التماسك الاجتماعي، والتواصل مع قوى خارقة للطبيعة، واستحضار المشاعر كوسيلة لبناء الذات وتأكيد الهوية. ويرى إن الجانب الاجتماعي والنفسي وجهان لكيان واحد موحد، والموسيقى هي الوسيلة الأساسية لتجربة بصمة أحدهما على الآخر. كما يتحدث عن الموسيقى كفن ووسيلة لتنظيم رفاهية المرء.

 

يذكر أن تيموثي رايس أستاذ علم موسيقى الشعوب بكلية هيرب ألبرت للموسيقى في جامعة كاليفورنيا بلوس أنغلوس (UCLA). وهو متخصص في الموسيقى التقليدية لمنطقة البلقان. وله إسهامات عديدة في علم موسيقى الشعوب، منها تحرير «دورية علم موسيقى الشعوب» (1981-1984)، ورئاسة «جمعية علم موسيقى الشعوب» (2003-2005)، وعضوية «المجلس التنفيذي للمجلس الدولي للموسيقى التقليدية» (2007-2013). ونشر  العديد من المقالات في كبريات المجلات تناول فيها جوانب متنوعة من الموسيقى، فكتب عن الإدراك الموسيقي، والسياسة والموسيقى، والمعنى والموسيقى، ووسائل الإعلام وتعليم الموسيقى وتعلمها، وموضوعات أخرى.