السبت 18 مايو 2024

مصطفى ناصف .. وصيّة أخيرة

12-2-2017 | 18:43

أسامة فرحات - شاعر وناقد مصري

تمر الذكرى السنوية لرحيل الناقد والمفكر الموسوعي مصطفى ناصف (مارس 1922 ـ يناير 2008) دون أن يلتفت أو يحتفي أحد في أجهزة إعلامنا أو في محافلنا الثقافية بذكرى هذا الأستاذ المبدع العظيم الذي كرّس جهده على مدى نصف قرن تقريبا، وقام بمجموعة كبيرة من الدراسات النقدية النظرية والتطبيقية، ساهمت في تأسيس اتجاه عربي حديث يستلهم تراثنا وينفتح على التيارات العالمية الحديثة في آن. وأعاد ناصف النظر في كثير من المفاهيم والأحكام النقدية السائدة، كما قدم قراءة جديدة لتراث الأولين على أسس منهجية حديثة، وأظهر وجوها، خفيت على الكثيرين، من جماليات النص اللغوي الفني وطبق رؤيته على نماذج متنوعة من الأعمال النثرية والشعرية القديمة والحديثة. (انظر مقال "سوق النقد وصندوقه العجيب" لكاتب المقال بمجلة "الهلال" إبريل 2015).

   ويعد كتابه الأخير "لعبة الكتابة"، الذي دفع به إلى مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية كي تنشره، وصدر عام 2011، بعد رحيله بثلاث سنوات، بمثابة الوصية الأخيرة التي ضمت عصارة خبرته التي وجهها ناصف لكل من يهمه أمر الواقع الثقافي الذي نعيش فيه. ولم يقتصر الحديث في هذا الكتاب على موضوع النقد أو الأدب بشكل عام وهو مجال تخصصه. وإنما اتخذ من فكرة الكتابة منظارا مجهريا ينفذ من خلاله إلى كافة جزيئات هذا الواقع ليتناولها بالتحليل العلمي متسلحا بثقافته الموسوعية وممسكا بمبضع الجراح لتشريح أنسجة هذا الواقع ليفوز ونفوز معه بنتائج هذه النظرة النافذة وذلك التشريح الدقيق، حيث نبصر حقيقتنا دون طلاء أو نقاب أو تزييف.

   نعم فلم يقتصر تناول مصطفى ناصف لواقعنا الثقافي من خلال كتابه "لعبة الكتابة" على المنظور الأدبي أو النقدي فحسب بل تعدّى ذلك إلى النظر في مباحث ذات صلة، قد تبدو غريبة أو خارجة عن الموضوع، حيث تناولت من قريب أو بعيد علاقة النقد والكتابة بالعلم والتعليم بل التاريخ والمجتمع والسلطة والحرية والدعاية والسياسة الدولية واقتصاد السوق كما سنوضحه في العناوين المختارة التالية.

أولا: لا معنى للكتابة بعيدا عن بوتقة المجتمع:

   يرى ناصف أننا قد نسينا أن التأمل عمل، وأن حفر الأرض فكرة حرّة، وأن معالجة البطالة عمل إبداعي أروع من مقال وإنشاء مسرحية وقصيدة وأغنية وعظة ومناقشة جذابة عامرة. وأن الحقيقة حين تغيب تتحوّل إلى كتابة. فمن المهم في الكتابة الإصغاء للوقائع. وإن تحوّل الكتابة إلى لعب يؤدي إلى تفريغ النص من المؤلف والشخصية. صارت الكتابة مجرد طلاء يعجز عن تغيير الحياة. ويسأل ناصف: وهل أهم ذلك الجامعة؟ هل حوّلنا القلق إلى كتابة بدلا من أن نحوّله إلى شيء أبعد غورا. هل أهم الجامعة أن نقول ما لا نعني ونعني ما لا نقول؟ وأخيرا يورد تساؤله الأهم الذي نشاركه فيه: هل الكتابة مسئولة إلى حد ما عن ضياع الإنسان العربي؟

ثانيا: الكتابة حوار بين الكاتب والعامة وتلاقح مع جوانب ثقافية متعددة:

   الناقد صارت لا تعنيه سوى مثالية أدبية بعيدة عن الحوار والتوجّه العملي وصارت الخاصة يعنيها الكتابات الجديدة ولا يعنيها العامة سوى أن تسوسها. كانت الكتابة في عهد رواد الثفافة عملا استعاريا رمزيا يتفاعل فيه الماضي والحاضر ويتلاقح مع جوانب ثقافية متعددة. بينما يقترن مفهوم الكتابة عندنا بمفهوم النموذج، والنمذجة تولد متاعب غير قليلة وتعبّر عن نفسها في شكل تقابل: قيمنا وقيمهم، حضارتنا وحضارتهم، هويتنا وهويتهم. التقابل بداهة يخلق الفخر ويوسع الصراع ويباعد بيننا وبين ممارسة الكلمات باعتبارها مفاوضات وتفاعلات، لا أدوات غير ظاهرة للتعصّب والارتداد إلى النفس والنرجسية. وهو يرى أن لكتابة الصحف أثرا واضحا في التحول عن صرامة الاعتقادات. كما يرى أن الكاتب في المقال اليومي يعمد إلى أن يرضي القراء على حساب القراءة. فقد ظل تعلم الكتابة محصورا في طريقة السرد، ظل الكلام في تقبّل القراء يملأ عقولنا. لم نسأل قط عن أهمية الأفكار لذاتها دون نظر لضيق تقبّل الناس لها، غلب تعلم الروعة البيانية القوة الفكرية.

ثالثا: السلطة تخشى النقد وتروّج لثقافة النخبة وللكتابة التي لا تأخذ العامة في حسبانها:

   يقول ناصف إن النقد يرتبط بالسلطة التي لا تحبّذ أعماق النقد الحر بل تفضّل عليها المثل السائر والتشبيه النادر. تحبذ الكتابة القريبة التي تعتمد على أصل معترف به هو السلطة. فالسلطة والأجهزة والأعلام تحول بيننا والحوار والتفاعل بين أجزاء المجتمع اللهم إلا بإشراف الأقوياء. وإن إسباغ فكرة الحقيقة أو القدرية على آليات السلطة القمعية دون عناية بمواجهتها أمر يلفت النظر. الثقافة التي تروّج لها أجهزة الدولة هي ثقافة النخبة. وإن الدولة الثقافية المعاصرة لا تهتم بالشعب ولا بما أصابه صحيّا وذهنيّا. يهمها فقط الإشادة بالعظماء والكتاب والشعراء. كل همّنا أن نخبئ الجرح أو أن نماري فيه وإشاعة الرضا في كل حال. الانفصال عن المجتمع هو المعنى الكامن في الخطاب السياسي. غُيّبت الحياة الاجتماعية والسياسية في كلام كثير عن الرمز والحدس والاستعارة والكلّ العضوي. قام التعليم بدور في الغيبوبة وإبعاد النخبة عن الفكر الاجتماعي وصناعة عمل مشترك. الصفوة يعنيها أن تكسب مواقع ولا يعنيها التغيّر الحقيقي لبنية العقل. اللغويات الآن منحازة لأغراض تسلّط الصفوة على الناس والكتابة تحتاج الرجوع إلى أعماق المجتمع لتحقّق التعبير الرمزي دون مجرد الاكتفاء بسرد الأحداث السطحية الظاهرية. اكتفى العالم العربي بالتوسع الكتابي الذي صحبه نوع من الخمول أدى إلى انقلابات عسكرية كانت في مجملها ضيقا بما حققته الكتابة من إنجازات لم تتحول إلى نوافذ واختراق. من المهم أن تأخذ الكتابة في الحسبان من لا حول لهم ولا قوة وليس الاحتفاء بالقادة حيث يتحول التاريخ إلى صناعة أفراد لا مجتمعات. صارت الكتابة غاية ومظهرا لتسلّط الأذكياء وإقامة حواجز بينهم وبين الناس وعدم معرفة الناس لأنفسهم. ما يجري هو الاحتفاء بالكاتب لا مناقشته الأمر الذي يكرّس سطوة الكاتب.

رابعا: النظريات النقدية تدعو للتناول الفردي للنصوص لا للتفاعل الاجتماعي:

   النظريات النقدية من خلال محاولتها لكشف البنية والسيميولوجيا والسلطة تدعو للتناول الفردي للنصوص لا للتفاعل الاجتماعي. ودخلت النظريات النقدية إلى عالم السياسة حيث نجد أن مجلس الأمن ليس سوى مجلس سيميولوجي لا يهتم بالحقيقة بل يعامل فكرة الضمير والقانون باعتبارها علامات ولا تعنيه قواعد منضبطة بقدر تحقيق استقرار هش هو فحوى نظرية السيميولوجيا وحكم العالم صار يقوم على مفاهيم اختلافية تكوّن ما نسميه المصالح. النظرية أحيانا تلجأ إلى فكرة لزوم المعنى للمعنى، لكن هذا اللزوم نفسه مبني على فقه انفصالي. الانفصالية تنمو في غيبة التفكير الرمزي. منظرو الحداثة يتعمدون البعد عن قراءة الاجتماعي والتاريخي ويستهويهم الغرق في الاستعارات التي حلّت محل المعرفة والحقيقة فيما بعد الحداثة. إننا نسوّق بضاعة الآخرين حين نعمد إلى تقليد الغرب بتجاوز الأحوال الحقيقية إلى ما بعد الحداثة. الحداثة قول ضد قول لا فعل ومبادرة. عنانا من الكلمات بلاغة لا التذكير بأهمية تغيير الواقع. يجب أن نتعامل مع الكلمات التي تحرّك همومنا الباطنية. الكلمات أفعال تصنعنا والبعد الفلسفي والاجتماعي للكلمات غير مطروق.

خامسا: المجازات تُصنع لحساب السوق التي يقال إنها حرة:

   وهو يرى أن ما يجرى الآن هو الخضوع لسلطان الكتابة وتحويل البشر إلى أسطر مكتوبة. العالم المتقدم يشغله عن المجاز غالبا السيطرة على العالم. المجازات تُصنع لحساب السوق التي يقال إنها حرة. أدت التفكيكية إلى عبادة النصية وجعلنا أسرى للصور والمجاز الجديد وتراجع تفرّد الفكرة وقوة الحقيقة وقوة الحرية. المجازية الآن تحارب الرجوع إلى النفس، وتحارب الخروج التام من الغموض، وتحارب الذاكرة المرجعية المشتركة، وتحارب الموضوعية. العالم النامي أكثر ولعا بفكرة الحقيقة الخائفة من المجاز بمعزل عن التيارات الراديكالية والنزعة الإنسانية. إن تعاملنا التقليدي مع مسألة الحقيقة والمجاز هو خلاصة تعاملنا مع أنفسنا ومع الماضي والحاضر الذي أدىّ إلى الفصل بين النحو والبلاغة بين اللفظ والمعنى بين المعقول والمنقول بين الفلسفة والدين. وكان من نتائج ذلك مقاومة التفاعل الباطني والاكتفاء بنمط من الإلحاق والتشابه الظاهري والخضوع لنمطين اثنين نقرّب ونباعد بينهما واختلافنا عن الغرب يكمن في تسرّب الدين إلى كلّ ما عداه. أسيء تقدير الحساسية المجازية كما وجدت عند طه حسين في مقابل النزعة الوضعية العلمية السابقة. فبدا تفهم الكتابة مزاجا تلعب فيه المفارقة أو الروابط غير المنطقية تماما.

سادسا: الدعاية لا الوعي هي وسيلة السوق التي تحرك كل شيء:

   اختلط الفكري والسياسي وأُهمل مفهوم الواقع الاجتماعي وبذلك تفقد وسيلة تغيير الواقع المتمثلة في الوعي. والدعاية هي وسيلة السوق التي تحرك كل شيء عن طريق إشارات أو علامات مباشرة. طريقتنا في التعاطي مع الكلمات خاضعة للتوجّهات البدوية القاصرة على الثناء والهجاء التي تعطّل الفهم وتزكي الحميّة. فلا نزال أسرى الدعاية والإثارة والنصر والغلبة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تعطّل الفهم. النظام السياسي ديمقراطيا كان أو مستبدا نظام دعائي وكذلك النظام الأخلاقي ولا سبيل إلى مقاومة الدعاية إلا بالعمل المنتج العلمي. ما يسمى بتدفّق المعلومات هو في الواقع تسويق للمعلومات فكل شيء يسمّى بغير اسمه؛ الربح صدق والسيطرة عدل والاختلاف عيش مشترك والسلعة ثقافة والعالمية تركّز وتوحّد والقمع تحرير والفوضى ديمقراطية والكتابة فعل. امتدت الدعاية إلى المناهج الدراسية كالتربية الوطنية والتاريخ الذي يتغيّر مع تغيّر الأنظمة. صار الكتاب المقرر فريضة، والأصل أن الكتاب يُكتب لكي يُقرأ وصار الكتاب المقرر بديلا للمناقشة والحوار. صارت هيمنة الكتاب المقرر والاستغناء به عن الطلاب كهيمنة تجار الجملة على تجار التجزئة وهيمنة الصفوة على عامة الناس.

سابعا: ديناميّة الكتابة تتمثّل في قدرة رموزها على تجديد معانيها:

   ديناميّة الكتابة وحيويتها هي قدرة الرموز المستخدمة فيها على تجديد معانيها بصورة مستمرة بحيث تضيف إليها أعماقا ثانية. هذه الرموز ليست نابعة من النصوص وحدها بل تنبع من الجدل بينها وبين التاريخ. لكن معظم تناولنا للكتابة لا يراعي فيه تبيّن هذا الجدل، إننا نفصل الكلمة عن المجتمع، أو نعتبر الكلمة انعكاسا سلبيا لظروف معينة. كذلك نعتبر الوقائع متميّزة من المعنى، إننا لا نكوّن تفاعلا خلاقا، ولا نتعفّف دائما عن فكرة الكتابة العارية والكتابة المنمقة. النظرية أحيانا تلجأ إلى فكرة لزوم المعنى للمعنى، لكن هذا اللزوم نفسه مبني على فقه انفصالي. الانفصالية تنمو في غيبة التفكير الرمزي. الكلمات كان منظورا إليها باعتبارها مطابقة أو مبالغة. الكتابة إذن مثلها مثل سائر الممارسات تتبع شيئا سابقا في الذهن أو الواقع. على هذا النحو انفصلت أمور الذهن والواقع وكانت العلاقة سلبية. التكوين الرمزي ينبغي أن يسترد عافيته وقوته في عملية التفسير. الثقافة المعاصرة لا تؤمن بفكرة المعنى تهتم فقط بنسق التباينات على حساب الإحساس التاريخي والانتماء القومي والصلة بالجذور. تحوّل الكتابة عن اقتناص المعنى والاهتمام بالمخاطب من خلال الاتجاه نحو النص لا الإنسان. في هذه الأيام لا تُقرأ كتابة آثار الرواد ويُقرأ التفكيك والنقد النسائي وما إليهما. نهتم بالكتابات الجديدة وننفر من وجوه النص وحرية القارئ في إضفاء المعنى ونذهب إلى أن المعنى قار في النص بمعزل عن القارئ.

ثامنا: أهمية النص تكمن في التشكيل الاجتماعي وليس التحليل البلاغي المجرّد:

    إن انفصال النص عن مرسله بسبب غياب الشفاهة جعله عرضة لتأويلات كثيرة. وإن عالم الغيب الذي كنا لا ندركه بحواسنا صار مع الكتابة المتعمّقة ينافس عالم الشهادة إذ يكمن في الحروف والكلمات. لن يغرس التغيير إذا اعتبرنا النص الفلسفي أو الاجتماعي أمرا مستقرا والكلمات ثابتة رغم التغيّر الثقافي. من المهم عدم الركون إلى المعاجم وبحث علاقة اللغة العربية بالعلوم المختلفة. حيث إن الاعتماد على النص المفرد يستبعد القوة العظيمة وقوة الشخصية وقوة المجتمع. إن التفسير لا ينهض على النص وحده، إنما ينهض على جدل بين الكتابة والبيئة، لكن البيئة محمّلة بطاقة رمزية، لذلك لا يكون التفسير اختزاليا وصفيا ولا إسقاطا أيديولوجيا. التفسير هو السياق الرمزي المركّب الذي يصنعه الجدل المشار إليه. إن ما نسميه البعد اللغوي في داخل النص وحده يضلّلنا عن المحتوى الثقافي والاجتماعي. يؤكد ناصف على كون النص والتاريخ يؤلفان كلا حيا متغيرا ناميا ومتجددا، لكن الثقافة العربية النظرية غرقت، أحيانا، في التعامل مع كتابة عارية من عمل الذهن ونشاطه التكويني، ومن ثم فسحت المجال للشقاق الذي يعبّر عن التعامل مع فكرة انفصال الدال عن المدلول وتعرّض المدلول لفكرة الطلاء.

   وبعد فإن العناوين الثمانية السابقة إنما تمثّل تشخيص الدكتور مصطفى ناصف لما يعتري الواقع الثقافي في بلداننا من أدواء نتيجة لما يسمّيه "فتنة الكتابة" التي تلاحقنا من حيث لا ندري ولا نملك مقاومتها لأننا لا نحيا من غيرها. والأمر يستدعي من المثقفين والأكاديميين بل من علماء الاجتماع والاقتصاد مدعومين بكافة أجهزة الدولة الالتفات ودراسة السبيل إلى استئصال تلك الأورام وعلاج مسبباتها؛ وهو الهمّ الذي ناء به كاهل مصطفى ناصف طوال حياته وضمّنه وصيته التي كانت بمثابة الصرخة التي أطلقها في كتابه الأخير "لعبة الكتابة". آملا أن تدوّي تلك الصرخة في آذان محبي ناصف وتلاميذه ولا تني تؤرقهم وتثيرهم كي يواصلوا مسيرته التي بدأها بكل إخلاص ومثابرة، وإنه لأمرٌ جدُ صعب وشاق.

    الاكثر قراءة