الأربعاء 26 يونيو 2024

فلسفة الإبداع وجمالياته عند يحيى حقي

12-2-2017 | 19:00

د. حسن يوسف طه - كاتب مصري

   لا يزال ما كتبه يحيى حقي (يناير 1905 ـ ديسمبر 1992) يمثل قيمة في الرؤية والدراسات الأدبية والإبداعية، إنه أحد قمم الإبداع في مختلف المجالات. سواء في الأدب أو في الفن. وإذا تساءلت عن الأدب وعن جوهره نجده يقول: ليس الأدب إنباء ولا إخبارا، بل هو إمتاع يحدث هزة روحية تربط القارئ بمجتمعه، بالكون، بمصيره، بكل شعور التأسي لهذا المصير أو الفرح به.

    ويحيى حقي له رؤية للفن، تدخل في اعتقادي إلى دائرة فلسفة الفن. حيث يصل لجوهر الفن، ويرى أن جوهر الفن بل قيمته وثراءه يكمن في لحظة (الاقتناص) وهذه اللفظة تصدق على حالة الصيد مثلا. أو القدرة على الإيقاع بالهدف في لحظة ما. وهكذا الفن هو قدرة الفنان أن يلتقط اللحظة ويعبر عنها أو يحبسها في عمله قبل أن تفر أو تطير أو تهرب منه. المبدع الحقيقي يحاول أن يقبض على الهارب أو المنفلت من اللحظة الماثلة وكلما تمكن المبدع من ذلك القبض والتحكم فيه وجعله ماثلا للعيان من خلال عمله كلما تبينا إبداعه وقيمته وألقه الساري عبر إنتاجاته. يقول: "الفن عندي أو الأدب هو موقف مأساوي. وأنا حين أقف أمام لوحة أحس بأن وظيفة الفن هي اقتناص من الزمن لحظة لتسجيلها وتخليدها ضد الموت. أو هي صراع مع الزمن ضد الوقت أو بالأصح ضد الفناء، وضد العدم".

    فنحن في كل الفنون نريد أن نقتنى لحظة عابرة لنسجلها ونتركها لغيرنا. وتبقى أمامنا. ثم بعد قليل نشعر أن هذا التسجيل عابر، وأن كل شيء ينقضي، وأنه سيأتي يوم لا تكون لهذه الأشياء قيمة، فإذن هذه اللحظة ما بين البقاء والفناء، بين الخلود والعبور، هي عندي لحظة إنسانية أحس بها، وأهتز لها اهتزازا شديدا. فالفن عندي هو موقف درامي مأساوي يختلط فيه أيضا تأسي الإنسان على قدره، وعلى أن علاقته بخالقه ليست كما يريد أن تكون التحاما ووصولا كاملا.

الاستعداد للإبداع والقدرة على الدهشة

  عملية الإبداع لا تحدث إلا للشخص الذي يمتلك بذور الإبداع ولديه القدرة على تنميتها إلى جانب وعيه الذاتي بالإبداع. وكل ذلك يجعل الفرد لديه القدرة أن يقتنص اللحظة الإبداعية عندما تقترب منه أو تدانيه أو تداعبه أو تتراءى له أو تغازله. يقول حقي: ولحظة الإبداع لا تأتى عفوا، فليس من المعقول أن يهبط الوحي على رجل قعيد الأرض. بليد الحس. فقير في إحساساته. وفى عواطفه. وفى ذكائه. وفى قدرته على الاستبطان. وفى قواه الروحية والعقلية. وفى محصول ثقافته. لا يهبط الوحي على شخص فقير في هذه النواحي، بل الوحي يتلقاه شخص مشرئب إليه. ولذلك قلت مرة: إن الوحي هو لقاء في منتصف الطريق.

   أحيانا أستعمل تعبير (قرون الاستشعار) أي أن المسألة ليست خاصة به بل يجب أن يكون له القدرة على الاستشعار بما حوله، القدرة على تذوق الجمال، على اكتشافه، وعلى شطحات الروح، وكل جوانب الثراء في الشخصية يجب أن تكون متوفرة في الشخص الذي يهبط عليه الوحي.

   يحيى حقي يرى أن جوهر الفن يكمن في قدرته على الدهشة. والفن الذي لا يحدث تلك الدهشة لا ينبغي أن نلتفت إليه ولا يدخل إلى دائرة الفن أصلا. لا فن إلا إذا كان وليد الدهشة. وفى أحد مقالاته يحدد مفهوم الدهشة في الفن بقوله: يستمد الفن في كثير من الأحيان بعض معانيه من قاموس من تأليفه مفترق عن قواميس اللغة، قد لا يخترع بدل الكلمة ولكن يلونها ويضفى عليها ظلالا من عنده. خذ مثلا كلمة "دهش" هي في القاموس "دهش" فتح وكسر. "دهشا" (بفتحتين): تحير وذهب عقله من وله أو حياء.. فدهشة الفنان بلقاء الحياة هي فرحة اللقاء لأول مرة، فرحة الاكتشاف، بل نمضى إلى أبعد من هذا فنقول: إن الفنان يرى الشيء مرارا وتكرارا ولكنه مع ذلك سيراه في كل مرة كأنه يراه لأول مرة.. فإذا لم يصب الكاتب أو الشاعر بهذه الدهشة فإن كلامه سيكون حتما مفقود النضارة فلا فن إلا إذا كان وليد الدهشة.

يحيى حقي والكتابة همسا!

   الكاتب عندما يكتب يجب أن تكون كتابته هادئة ومتزنة ليضمن أن تداعب وجدان وعقل متلقيه فتكون هناك فرصة سانحة كي تؤثر وتثمر. وقد أشار يحيى حقي إلى ذلك بمقولة الكتابة همسا. والكاتب الذي يجيد ذلك الهمس هو الكاتب الذي لديه شيء ينبغي أن نسمعه وننصت إليه ونفكر فيه. وعن كلمة الهمس يقول حقي: وكلمة (الهمس) أقف عندها كثيرا، فتجد لي مقالات منشورة في سنة 1929 عن محمود طاهر لاشين، حيث دافعت عن ضرورة التزام الكاتب بالهمس في إنتاجه لا بالزعيق. وقد أخذ المرحوم محمد مندور هذا المذهب في الشعر وقال: "بالشعر المهموس". ويسعدني أنه في بعض كتاباته أشار إلى ما قلته وما كتبته في عام 1929 وأنا لا أقول إنه استمد الفكرة – فليس هذا صحيحا – ولكن على الأقل أقول أننا التقينا على مبدأ واحد، وكان من حسن حظي أنني تكلمت عن النثر لا الشعر فالنثر عندما تدخل فيه الموسيقى تحوله من طبيعته إلى طبيعة أخرى. فإذن يجب أن يكون الكاتب هامسا.

   وإذا تساءلنا أين تكمن الجمالية في إبداع القصة أو الرواية؟ يقدم يحيى حقي الإجابة. وهى ببساطة تكمن في قدرة الكاتب أن يجسد ما يكتبه. بمعنى أن الشخصية في العمل الإبداعي تتواجد في داخل القارئ بعد أن يكون قد انتهى من قراءتها في النص ويجد تلك الشخصية ماثلة أمامه تتحرك وتأكل وتشرب وتعيش معه. هذا مثلا ما فعله تولستوي ودستويفسكي ونجيب محفوظ. يقول حقي: "ليس مطلبي من كاتب القصة فقط أن يروى لي حكاية، وإنما شغفي ومطلبي أن يرسم لنا شخصية من خياله، فإذا بها شخصية حقيقية تدب فيها الحياة، وهذا هو مطلبي الأول منه، وأتمثل بسرفانتس الكاتب الإسباني الشهير، الذي سعدت كثيرا بصحبة بطله "دون كيشوت" في الحياة، فأحس بها وكأنني أعاشرها. وإذا نظرنا إلى أدبنا الحديث أستطيع أن أتمثل بشخصية (السيد عبد الجواد) في ثلاثية نجيب محفوظ، وربما أيضا شخصية (كمال عبد الجواد) في الثلاثية نفسها، ولكن في كل ما أقرأ من القصص الحديثة أبحث عن هذا، أبحث بعد أن أقرأ الرواية عن أن تتبقى لي في ذهني صورة شخصية أحس أنها موجودة فعلا في الحياة، وأن الرواية قد تنسى ولكن هذه الشخصية تبقى في الذهن.

   كذلك من الشخصيات التي بقيت في ذهني بعد قراءة الرواية شخصية (ناتاشا) في (الحرب والسلام). فإن تولستوي صور لنا حقيقة فتاة مراهقة تعانى كل ما في هذا العمر من اضطرابات شديدة. فهذه هي الوظيفة التي أطلب من الكاتب أن يراعيها في كتابة القصة، أن يعنى بتصوير شخصية تبقى في أذهاننا".

   ويلاحظ أن مثل تلك الشخصيات التي هي من صنع وخلق الكاتب لديها القدرة أن تخرج من محدودية الكلمات وأسر الأحداث التي نسجها الكاتب إلى أرض الواقع الملموس، مثل تلك الشخصيات تجد وشائج تربطها بالواقع فيمكن أن تراها مجسدة في أشخاص ورغم ذلك هي خيالية، معنى ذلك أن ما هو توهم أو تصور أو تخيل لديه القدرة أن يتجسد في أرض الواقع ورغم ذلك منفصل عن ذلك الواقع. مثل تلك الكتابات تتسم بالإبداع والحيوية والجمال وتجد المتلقي أو القارئ مستمتعا أشد الاستمتاع بما قدمه المبدع من تخليق فني رائع يتجاوز الزمان والمكان.