الأحد 5 مايو 2024

يحيى حقي .. في صحبة الأحباب

12-2-2017 | 19:02

اعتدال عثمان - كاتبة مصرية

الكتب مثل الأصحاب، آنس إليها وأئتنس بها، أحفظ العزيز منها على مقربة لأعود إليه كل حين. "عطر الأحباب" ليحيى حقي (يناير 1905 ـ ديسمبر 1992) أحد هذه الكتب الأثيرة، أحتفظ له بنسخة قديمة صدرت عن مطابع الأهرام عام 1971،  ويحتوي على مقالات نقدية أو "صور قلمية" كما يطلق عليها يحيى حقي، تغطي مساحة زمنية من أوائل القرن العشرين إلى الستينيات، وقد تغير محتوى الكتاب بإضافات جديدة في طبعات تالية، تحمل أيضا العنوان الأول نفسه.

   يكتب يحيى حقي على الغلاف الأخير للكتاب كلمة مختصرة، فيما يسمى في النقد الحديث بعتبة من عتبات النص، تكشف جانبا من رؤية الكاتب، وتعد علامة هادية بين علامات أخرى، مثل عنوان الكتاب والإهداء والتمهيد والمقتبسات التي يضعها الكاتب في مستهل فصول العمل، يتلقاها القارئ قبل أن يلج عالم النص، فيفسر دلالة الكتاب على هداها أو يعود إليها بعد الفراغ من القراءة، ليفهم على ضوئها دلالات لم يكشف عنها الكاتب عامدا لكي يتوصل إليها القارئ من خلال تفاعله مع النص، كذلك قد تضيف العتبة النصية على ظهر الغلاف بعدا جديدا يلتقطه القارئ مع هذا المفتاح الأخير قبل أن ينغلق باب النص لينفتح أفق التأويل بغير حدود.

   هنا نتساءل: ما مضمون الرسالة التي تمثلها هذه العتبة الأخيرة للنص، خصوصا وأن يحيى حقي يوجهها إلى عدة أطراف، منهم أصحاب الأعمال المنقودة الذين يعرفهم، والقراء الذين لا يعرفهم؟

   الإشارة الأولى الهادية تفيد أن الكاتب يحدد نهجه في الاختيار الحر للأعمال التي قدمها بقوله: "أهل بيتي هذا لم يسكنوه إلا لأنني أحببتهم واحدا واحدا. جذبني الإنسان فيهم قبل الفنان. لم أتحدث عنهم حديث ناقد، بل حديث صديق. يسعدني أنهم اجتمعوا تحت سقف بيتي، وأنني فيما أرجو وفيت لبعضهم بحق كان منسيا.

إنني أتمسح بأردانهم لأشم عطر الأحباب".

   لا شك أن قارئ هذا النص الختامي قبل الولوج إلى الكتاب سيكون قد تهيأ لتلقي نظرات نقدية انطباعية أشبه بنوع من التحية والمجاملة بين الأصدقاء وزملاء القلم. لكن هذا القارئ نفسه سيكتشف أثناء القراءة أن يحيى حقي يقارب النقد بحس أدبي شديد الخصوصية والرهافة، وأنه خلف هذا القناع المجامل الودود يمتاز بقدرته على الغوص في أغوار النص الذي يقدمه معتمدا على خبرته الأدبية في تلمس أبعاد القيمة الجمالية الكامنة في النص المنقود أو الإضافة التي يشتمل عليها في مجاله. وهو في ذلك يعقد أواصر الألفة بين منشئ النص وقرائه، فيما يلعب هو دور المضيف، يحمل إلى القراء خلاصة عطر الأحباب، خالصة مقطّرة، لكي يتطيبوا بها معه.

    المدهش في هذا السياق أن يحيى حقي كان في كثير من لفتاته النقدية التنظيرية حداثيا قبل أوان الحداثة، فقد تنبه مثلا إلى تداخل الحدود بين الفنون الكتابية وغير الكتابية، فهو يتحدث عن "الرسم بالكلمات"، ويرى أن الكتابة تكون أحيانا أقرب إلى الفنون التشكيلية، كما يتحدث عن اللغة البصرية أو لغة الصورة في الرواية والقصة على نحو ما نجد في كتابة السيناريو السينمائي. كذلك يؤكد أنه "ليس في الفن رأى أوحد أو رأي قاطع، لا بديل له" أو "رأي يحتكر الصدق كله لنفسه"، فالأحكام نسبية، وهو ما يصب في مفهوم تعدد قراءات العمل الأدبي. كذلك يرى أن قوانين النقد التي تطبق على العمل الأدبي لا بد أن تكون نابعة من صلب هذا العمل نفسه، وليست مقتبسة من خارجه لتفرض عليه، بينما يركز على دور الأدب في تنبيه الوعي لدى القراء عن طريق كشف ظروف المجتمع والواقع بصورة فنية.

   سيلاحظ القارئ أيضا أن يحيى حقي في كتاباته كلها، وفي هذا الكتاب، عاشق أصيل للغة العربية. اللغة لديه ذات مذاق خاص، لاذع، فكه، متهكم بعذوبة أحيانا، وبأسى أحيانا أخرى، وهو كما يطلق عليه بحق "الجواهرجي" الذي يلتقط اللغة الخام، ويخلصها من الشوائب، ويصقلها بجهد ومشقة، وصنعة فنية عالية حتى تنجلي عن جوهر ثمين يلتمع كالماس. ولا يحجم يحيى حقي عن إفشاء أسرار الصنعة الأدبية، وإسداء نصائحه الثمينة إلى الكتاب الشباب في كل زمان من موقع الصديق المجرب الخبير، وليس صاحب سلطة أدبية أبوية من أي نوع، يقول في شهادة له عن فن القص: "إنني لا أتحرك من جملة إلى جملة أخرى حتى أستوثق من أن هذه الصياغة هي الصورة النهائية التي استقرت في قلبي وذهني لهذه الجملة. وأتحمل عناء شديدا في معالجة النص الذي أكتبه بشق الأنفس وبجهد عصيب، مع العلم أن الشرط الذي أخذته على نفسي هو أن يبدو ما أكتبه وكأنه شيء سهل. إنه الوصول إلى السهل عن طريق الوعر.. (وهو) ما أسميه الصنعة، ولا فن بلا صنعة، وعلى الكاتب أن يدرك هذا ويتحرر منه في الوقت نفسه."

   أما حول قضية تجديد اللغة، وهي إحدى القضايا المحورية في الأدب والنقد الحديث، فيرى حقي أنه على الكاتب الأديب أن يكون "متتبعا لتحولات اللغة من فصحى وعامية، فاللغة أتون لا ينقطع غليانه.. فعملية الدعك والانصهار مستمرة". ويقول أيضا: "المثل الأعلى للكاتب في ذهني هو الذي يشعر أن جميع ألفاظ اللغة ستظهر للوجود على يديه.. لا من قبيل الترف، بل لأن اتساع رقعته الذهنية والروحية هي التي تتطلبها، كما يتطلبها الشعور بالجمال وهو جوهر الفن".

    كذلك يدعو "للتحرر من قيد المعاني السطحية للألفاظ بمرونة.. وتطويع الألفاظ عن طريق الاشتقاق"، ليكسبها الكاتب دلالات أخرى غير دلالاتها القاموسية القريبة، ويوظفها في سياقات جديدة  "تضفي عليها روح التطور، دون أن تجردها من إرثها الثقافي الراسخ فيها". غير أنه لا يكتفي ببيان علاقة الكاتب باللغة، بل يهتم بدور القارئ أيضا، فالكاتب يعمل على "تنشيط التعبير عن مكونات (اللغة) التي تنتظر التفعيل على يد الكاتب أولا، ثم على يد القارئ ثانيا". كذلك يرى حقي أن اللغة تصل إلينا عبر الزمن وهي محملة بشحنات حضارية وثقافية منتظرة الكاتب والقارئ لكي يقوما بتحريك هذه الشحنات، واكتشاف طاقاتها التعبيرية، وهو الرأي الذي ذهب إليه ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) أحد أعلام النقد الحديث.

   ولا يفوت يحيى حقي مناقشة قضية الفصحى والعامية في السرد والحوار القصصي والروائي، وعلى الرغم من انتصاره للفصحى، على نحو ما فعل نجيب محفوظ في الحوار، فإنه يستدرك قائلا: "إن الذي يعنيني هو الدقة في التعبير، سواء في الفصحى أو في العامية، أرى أن أترك نفسي على مزاجها دون تزمت أو خوف، فهو الذي يملي علىّ متى وأين أكتب بإحدى اللغتين".

    أما الجانب التطبيقي في الكتاب حيث يأتنس يحيى حقي بأعمال الأحباب، ويؤنسهم بآرائه الثاقبة تحت سقف بيته الورقي العامر بالفكر والذوق الرفيع، فيتسع لنجيب محفوظ وصلاح جاهين والشيخ مصطفى عبد الرازق وعباس علام، وهو رائد مسرحي شبه مجهول كتب عددا من الأعمال المسرحية التي قدمت على خشبة المسرح خلال السنوات 1924 – 1927 وتلقي الضوء على كواليس الحياة الفنية في حقبة العشرينيات من القرن العشرين، كما يهتم بتخصيص فصول من الكتاب لأعمال رائدة أخرى لم تلق ما تستحقه من تقدير يضعها في مكانها الصحيح من تاريخ الأدب مثل "سخرية الناى" (1927) المجموعة القصصية الأولى لمحمود طاهر لاشين التي على الرغم من اقتحامها فنا جديدا في ذلك الحين هو القصة القصيرة إلا أن كاتبها لم يستطع التخلص تماما من تأثير أسلوب مصطفى لطفي المنفلوطي الرومانسي. وهنا يلاحظ حقي أن ثورة 1919 "فقدت سريعا قدرتها على التحول من الانقلاب السياسي إلى الانقلاب الاجتماعي" بمعنى اقتصار أثرها على الصحوة السياسية ضد الاحتلال ونظام الحكم الملكي دون أن يمتد هذا التأثير إلى الثقافة ونظرة الأديب إلى الذات والواقع والعالم.

   أما رواية "عذراء دنشواي" (1909) لمحمود طاهر حقي، فهى الرواية الأولى التي تحدثت عن الفلاحين، وهي البذرة التي مهدت لمحمد حسين هيكل أن يكتب رواية "زينب" (1912) التي اعتاد مجايلو حقي أن يؤرخوا بها أولى صفحات التاريخ الرسمي لفن الرواية في مصر، وذلك قبل اكتشاف تواريخ أخرى أسبق لكتابات روائية كانت مجهولة. والطريف هنا أن يحيى حقي ينحاز لرواية "عذراء دنشواي" بوصفها أكثر واقعية، بينما يرى أن هيكل قد وقع تحت تأثير النظرة الرومانسية للفلاح المصري.

    يعترف يحيى حقي لأحبابه أن "رباعيات صلاح جاهين" (1963) حركت وجدانه، ويرى أن جاهين رفع العامية بعد أن طعّمها بالفصحى وثقافة المثقفين لتصبح "لغة ثالثة" تعبر عن رؤية فلسفية عميقة، ويضيف أنه "إذا انصهرت الألفاظ في بوتقة واحدة تضاءلت الفروق بين العامية والفصحى".

   أما نجيب محفوظ فيخصه بفصل طويل، يستوقفه على امتداد أربعين صفحة ليحدثه عما يراه تحولا أساسيا في مساره الروائي من نمط أول يطلق عليه "النمط الاستاتيكي" ونماذجه الثلاثية، و"خان الخليلي" و"زقاق المدق" إلى نمط ثان يسميه "النمط الديناميكي" ونموذجه رواية "اللص والكلاب" (1961). يقصد حقي بالنمط الأول البناء الروائي المعتمد على التأمل، والبناء المعماري المحكم، والعناية بالتفاصيل الدقيقة، وتحقيق التوازن بين عناصر السرد الروائي ليبلغ العمل حد الكمال في التعبير الفني على حد قوله.

    أما النمط الثاني في "اللص والكلاب" فهو وليد انفعال متقد، فالفكرة تصبح مثل الجذوة المشتعلة، تحتل ذهن المؤلف وتجعله يخوض معركة مع النفس ومع أدواته الفنية. أما الزمن في الرواية فلم يعد خيطا واحدا ممتدا من نقطة إلى نقطة تالية، بل عدة خيوط تتشابك وتنفك لتعود للالتقاء، كذلك يحتل التكثيف الشديد والومضات الموحية مكان العناية بالإسهاب في التفاصيل الوصفية الدقيقة. هنا يرى حقي أن المحلية في أعمال نجيب محفوظ استطاعت أن تعلو بما هو عارض ونسبي إلى ما هو باق ومطلق، يخص الإنسان في كل زمان ومكان محققا بذلك العالمية، وهو ما التفت إليه تقرير منح محفوظ جائزة نوبل في الآداب بعد ذلك.

   من أمتع فصول الكتاب اكتشاف ذلك الجانب المجهول في تاريخ الشيخ مصطفى عبدالرازق الذي كتب خلال وجوده في باريس كتابا بعنوان "مذكرات الشيخ فزارة" (1914) يحمل وعيا مبكرا بضرورة الإصلاح والتجديد الفكري والثقافي. ولعل أفضل تقديم لهذا الجانب يكون بقراءة كلمات يحيى حقي بقلمه واصفا معركة أدبية "دخلها (الشيخ) بسلاح يوافق طبعه، سلاح الدعابة والسخرية الرقيقة، لم يكن يمتشق حساما، بل إبرة، ولكني لا أعرف لإبرة غيرها شكشكة قادرة على لهلبة الجلد ليستيقظ الإحساس، ويقظة الإحساس هي أولى خطوات الإصلاح من الداخل، لا فرضا من الخارج".

    ما أحوجنا الآن إلى يقظة الإحساس حتى لو اقتضى الأمر "شكشكة قادرة على لهلبة الجلد" كما نصحنا يحيى حقي الذي لا تزال أعماله الزاخرة العذبة تلهم أجيالا من بعده، أجيالا ما تزال تغني له ومعه "أنشودة للبساطة"، وتملأ دكان صاحب "كناسة الدكان" بآيات الفن الجميل، وتضيء له قنديل ذكرى باقية محملة بـ"عطر الأحباب".