الثلاثاء 7 مايو 2024

سليم العبدلي : الشعراء لن يكفوا عن التعمق في معنى الحب (حوار)

سليم العبدلي

ثقافة25-12-2022 | 16:21

محمد الحمامصي

الشعر حياة تتجلى فيه كل حيوات الحياة وأحلامها ورؤاها ومنغصاتها وتناقضاتها وهزائمها وآلامها، والقصيدة الحقيقية هي تلك التي تشكل هذه الفضاءات لغة وإيقاعا وصورة وتقدم توهجا لا ينطفئ جماله وحيويته مع كل قراءة، وهذا هو الشعر عند العالم والشاعر والمترجم الدنماركي العراقي الأصل البروفيسور دكتور سليم العبدلي، حيث يعتمل فيه علمه وروحه وجسده، إنه يكتب منغمسا في فضاء الحياة بكل ما تحمله من رؤى وأفكار وأحاسيس، نصه لا يمر على أدق التفاصيل مرور الكرام، بل يمر متأملا وقارئا لما يحتشد وراءها وجود من مكان وزمان ولغة وفكر وعلم وحب واختلاف. وفي هذا الديوان تواصل نصوص العبدلي التغلغل في أبعاد كل ذلك كاشفة عن أنها ـ هذه الأبعاد ـ تمثل وجود ذات الشاعر نفسه.. وفي هذا الحوار مع العبدلي نتعرف على رؤاه وأفكاره في ديوانه الجديد "لا لغة للحب" الصادر عن دار ميريت بالقاهرة.

"لا لغة للحب" عنوان ديوانك الأخير يطل عنوانا ملتبسا فهو يقابل بين مفردتين لكل منهما عالمه الغني "اللغة" و"الحب".. كيف ترى الأمر خاصة وأن عناوين دواويينك السابقة كـ "الأمكنة مقابر الوقت" و"من رائحة الفراق"، "همس المرآة.. أسرار الجسد" تحمل تلك المقابلة ومن ثم الالتباس؟

هذا صحيح.. لا أدري لماذا يشكل عنوان الديوان أهمية كبيرة لي، وقد حرصت أن أختار عناوين مجاميعي الشعرية بعناية فائقة، وأود ان أفضح لك عن سر، فإن العناوين هي آخر ما أتوصل اليه، وفي بعض الحالات، بعد وقت طويل من الانتهاء من كتابة الديوان.

دعنا نرجع إلى ما تسميه بالالتباس، فبصراحة لا أعني إثارة أي التباس، ولم يكن القصد من العنوان، أي عنوان هو الغموض، ولكني وأنا أكتب لأول مرة بهذا الإسهاب عن حالات الحب والعشق والهيام والاشتياق، وجدت أن اللغة، أية لغة غير كافية لوصف حالات الحب، فالحب يبقى أعمق من الكلمات التي توصفه، وأية كلمة أو عبارة أو جملة أو قصيدة هي محاولة من الشاعر للاقتراب من حقيقة الحب، ليس إلا. وفي رأي أن الشعراء لن يكفوا عن التعمق في معنى الحب في أية لغة ما داموا يكتبون، عملية لانهائية، كذلك الذي يبحث في طبيعة الكون، ويحاول أن يفهم الظواهر الطبيعية، ولكن هل سيصل الانسان يومًا لوصف الطبيعة باكملها وتحليل أسبابها؟ لا أظن، فكل الأبحاث لا تعد إلا محاولات تضاف إلى المحاولات السابقة من أجل هدف سامي، ألا وهو فهم الكون. والفرق هنا يكمن في أن العالم يتأمل من أجل فهم الوجود، بينما الشاعر يتأمل من أجل حس الوجود. فهما، العالم والفنان، بما في ذلك الشاعر، ينطلقان من نفس البداية، ويفترقان في النهاية، في الهدف. 

اعتدت منذ دواوينك بما فيها هذا الديوان التقسيم وفقا لرؤى وأفكار كل نص وعلى باب كل فصل لا يأتي عنوان، ولكن نصا شعريا يؤشر إلى ما تحمله قصائد هذا الفصل من تجربة.. لتشكل الأقسام/ التجارب تجربة الديوان كله.. هل نحن أمام نوتة موسيقية؟

نعم، لك أن تسميها نوتة موسيقية أو لوحة فنية تروم الكمال، ولها ألوانها وعوالمها التي يحددها الإطار والموضوع المنعكس في اللوحة، كذلك فصول الديوان، فإنها لوحات أربع أو خمس على الأكثر، ولكن لكل منها إطاره الذي يحدده العنوان، والذي بذاته هو جزء من اللوحة، ولذلك يأتي العنوان في دواويني في نص شعري أو قصيدة أو حكمة يهئ القارئ للدخول في عالم الفصل، وبذا يكون مستهلاً لقصائد الفصل التي هي الأخرى ليست إلا أجزاء أو ألوانًا، إن صح لنا تسميتها، من هذه اللوحة، وهنا يتسنى للقارئ قراءتها منفصلة، كل قصيدة مستقلة عن الأخرى، تدعوه للتأمل والاستنباط، أو أن يصبر حتى أن تكتمل الصورة المعنية في الفصل، ككل متكامل للرؤية المطروحة فيه. وهذا ما دعاني، دون أن أتعمده ومنذ انتهائي من كتابة الديوان الأول، أن تخلو القصائد من العناوين، لتنسج مجتمعة صورة متكاملة.

  تتشكل تجربتك في دواوينك السابقة من صراع ثلاثة محاور رئيسية تتمثل في: الزمن، المكان، الحب، وفي هذا الديوان أضفت إليها اللغة، بالتأكيد اللغة كانت موجودة سابقا لكنها لم تكن محورا داخل الصراع؟

برأيي المتواضع، أجد أن وطن الشاعر الأصيل هو لغته، يحملها معه، يؤلف فيها أفكاره ورؤاه، ثم يطرحها بجمالية مقصودة لكي يعبر فيها عن هذا الوطن. وبما اني فقدت وطني منذ أربعة عقود، وجدت اللغة هي من يحتضنني، وهي التي ساعدتني على الحفاظ على توازني الإنساني، فقد عشت كل هذه السنين في كنفها دون الشعور بالغربة أو الاغتراب. ففي وطني الأم، بغداد، كنت أعيش الاغتراب، وبعد الرحيل، عشت الغربة، وهاتين الحالتين هما من أقسى الحالات النفسية التي تعصف بالانسان. غير أن اللغة كانت هناك معينًا لي لتجاوز هذين الحالتين. ولا يسعني القول أن اللغة استطاعت أن تمنع هذين الحالتين من التواجد في الذات الانسانية، ولكنها ساعدتني على التعامل معهما، خاصة عند اشتداد واحدة منهما. ولذا جاءت في هذا الديوان كمحور آخر، فرض نفسه على القصائد، فكان لها أن تمثل الوطن الذي لفظني يومًا، والحبيبة التي أود التعرف على كل خباياها، والغربة المتمثلة باللغات الأجنبية والتي يتعثر بها لساني أو يصعب على الوجدان الإحساس بها عند الضياع في الاغتراب الذاتي. نعم شكلت اللغة هذا المحور في هذا الديوان، ومحوراً هاماً، ولهذا انعكست حتى في عنوان الديوان. أما صراعي معها، فيتأتى من العجز في وصف الحب حين أكون حانقًا عليها لعجزها عن وصف ما أصبو إليه في وصف الحب، أو في حنقي على اللغة الأجنبية، رغم إجادتي لها، عندما أجد أن طعمها لا يوازي طعم اللغة الأم على اللسان، أو أن مخارج كلماتها ثقيل على النطق. واللغة أحرف متجمعة، كالأصحاب والأحبة، ان فقدنا حرفًا منها، افتقرت مكوناتها، وإن فقدنا حرفين، ستكون تعابيرنا أقل ثراءً، وهكذا لك أن تتصور لو فقدنا اصحابنا وأحباءنا الواحد تلو الآخر، فما هو معنى حياتنا؟ كذلك هو العمر، يمضي بنا، وعلى دربه نفقد الأحرف، حرفًا تلو الآخر، حتى ننتهي في نهاية العمر بلغة فقيرة لا تستحق التحدث بها.

   تقتصد في اللغة اقتصادا واضحا حتى يصعب حذف مفردة من مفردات النص وأحيانا كثيرة تبديلها؟ ألا تخشى من هذه الدقة؟

أود أن أطلق عليه التكثيف بدل الاقتصاد.. وبالتأكيد، أخشى كثيراً من هذا التكثيف، ولكني أعوّل على الصورة.. على ذلك الحس المكثف في المفردات، والذي يعطي القارئ فسحة من وضع معانيه الخاصة في القصيدة، فانا لا أنوي الشرح في القصيدة، بغض النظر عن بساطتها ومباشرتها، ولكنها غالبًا ما تحتمل التأويل، لكي يحسها القارئ بأحاسيسه الخاصة، وليس بأحاسيس الشاعر. إن الهدف من هذا التكثيف يعتبره البعض تجديداً في الشعر، وأنا أتفق معهم على ذلك. ويجب أن أستدرك هنا القول، إن التجديد ليس بهدف التجديد فقط، وإنما أطرح لغة جديدة تستفز القارئ ايجابيًا بحيث يتسنى له امتلاك القصيدة، وفقط عندما يتسنى له ذلك، أكون قد وفقت في كتابة ونشر هذه القصيدة أو تلك. أما ما أخشاه فهو، أن يساء فهم القصيدة لشدة اقتضاب مفرداتها، غير أني لا زلت، وكما قلت، أعوّل على الصورة التي ترسمها القصيدة، وحتى في أقصر قصائدي «أحبك لأنني أحبك» وجدت استقبالها مفرحًا. وقد نقلتها إلى الدنماركية، وحازت استحسان القراء، فكتب أحدهم لي يتهمني، أنني بهذه القصيدة كنت أتهرب من الجواب على سؤال الحبيب :«لماذا تحبني؟» الذي تسأله حبيبته هو، ولكنه عندما أجابها بهذه القصيدة، اقتنعت وكفت عن سؤاله! أجد ذلك مفارقة مفرحة.

  هل كان لعلاقتك بالترجمة وترجمتك لنصوص إبداعية دنماركية إلى العربية والعكس تأثير في دخول اللغة كمحور رئيسي في الصراع؟

أعترف لك أني دخلت بيت كتابة الشعر من باب الترجمة، فبعد أن ترجمت العديد من الشعراء العرب والدنماركيين، وجدت أن ما كنت أكتبه لنفسي في دفتر الخواطر، لم يكن بأقل نوعية مما كنت أترجمه، ولهذا تشجعت لعرض قصائدي على شعراء أكن لهم الاحترام، وحازت على إعجابهم، بالعربية والدنماركية. ولهذا يمكن أن يكون محور اللغة قد نضج لينعكس في ديواني الآخير. غير أني أظن أنها جاءت بعد نضج تجربة الوطن والقومية، وما يعنيه فقدانهما لإنسان يعيش في بلد لم يولد فيه؟ بلد يختلف بكل ما فيه من لغة وعادات وتقاليد وتاريخ ورؤية حياتية..إلخ، عن البلد الذي ولد فيه. وأثناء العيش بعيداً عن الوطن الأم، وجدت أنني مررت بمراحل متعاقبة، فكما هو حال الإنسان عندما يمر بمرحلة الطفولة ثم الصبا والشباب..إلخ، يمر المغترب في مراحل متعاقبة أيضًا. في البدء كان الهم هو التمسك بالوطن الأم، بالانتماء الذي يعرّف به الإنسان ويزوده بهوية يستند إليها لتحميه من الضياع. وعندما يطول زمن الغربة، تلي ذلك مرحلة  جديدة تتعمق فيها المعرفة باللغة الجديدة وبعادات المجتمع الجديد واصوله، فيحدث الانفصام، حيث يبدأ المغترب بالشعور بالانتماء المزدوج، للوطن الام وللوطن الجديد، مما يضفي نوعًا من الثراء في نفسه. ثم يمضي الزمن، وخلاله تزداد المعرفة، ليس بالواقع الجديد فحسب، وإنما بكل ما يحيطه من عوالم جديدة، متمثلة بالمعرفة، السفر، التاريخ، وتزايد التعمق في القيم الجديدة، وهنا تأتي مرحلة الاختيار، عندما يطرح السؤال نفسه: من أنا؟ ولمن أنتمي؟ أنا لا أتحدث هنا بصورة عامة، وإنما أتحدث عن تجربتي الشخصية. ففي هذه المرحلة، وجدث أن انتمائي لم يعد معرفًا بارض ما ولا بمجتمع محدد، حينها واجهت نفسي بالحقيقة «المرّة»، هل أنا عراقي؟ عربي؟ دنماركي؟ أوروبي؟ فبعد أن عشت سنينًا في الغربة تضاعف في عددها جميع الأعوام التي عشتها في بلدي الأم.. عقود أربعة مرت وأنا أتعلم وأفكر وأنضج، فما هي تبعات كل ذلك؟ في ذلك الوقت أحسست بعمق الانتماء إلى ما هو إنساني، للقيم الإنسانية التي لا تحددها القومية أو الدين أو اللون أو العرق أو مسقط رأس الانسان. وهكذا أصبحت اللغة هي الوطن، لما في قدرتها للتعبير عن كل ما نفكر به ونحس به.

  عشت حياة علمية وأدبية حافلة شرقا وغربا، من الصين إلى أمريكا، كيف ترى لتأثير ذلك على تجربتك الشعرية وعلى حياتك كشاعر؟

في طبيعة الشاعر أن يكون راصداً لكل الظواهر التي تمر عليه، وبطبيعة الحال، منها ما يتشابه في أماكن مختلفة ومنها ما يختلف عندما يتغير المكان والمجتمع. وبالتأكيد تترك هذه المشاهدات عند الراصد الفطن آثارها على أفكاره وفي أحاسيسه. فبالتأكيد كان للترحال والعيش في بلدان ومجتمعات مختلفة جم الأثر على صيرورة شخصيتي وتكوينها، وفي النهاية على مجمل أفكاري وأحاسيسي. فتجربتي في العيش في اميركا، والتي أعدها من أسوأ ما عشته، تختلف تمامًا عن تجربتي في الصين، أو في ألمانيا التي هي الأخرى تختلف عن الدنمارك وهولندا وبنغلادش وانكلترا..الخ من المجتمعات التي عملت وعشت فيها. ولهذا لا أنكر أن تترك هذه التجارب أثارها عندي والتي تنعكس في كتاباتي، إن كانت الشعرية أو النقدية. كما وتنعكس على حياتي اليومية، فما نتعلمه من الآخرين، يجب أن نتبناه لنستفيد منه في حياتنا اليومية، بغض النظر عن كوننا شعراء أو علماء أو غير ذلك. فما فائدة التعلم والاطلاع إن لم تكن الاستفادة منه، وهنا أود أن أشير إلى أن التعلم يجب أن يكون علميًا، مبني على التفكير والمقارنة  والتمحيص، وإلا كان تقليداً أعمى، وهذا ما يقع فيه الكثير للأسف. أنني أرى أن تجارب العيش في مجتمعات مختلفة، والاحتكاك الفعلي بهذه المجتمعات، بغض النطر عن مدى اختلافها، ليس إلا ثراء يوازي كل ما قرأته وتعلمته في حياتي. وإن تحدثت عن النضج الفكري، فلا يمكن لي القول أني كنت أستطيع الوصول إلى ما أنا عليه اليوم دون هذه التجارب، فالقراءة والتعلم وحدهما لا يكفيان لصقل وعي الانسان، وإنما الاطلاع الواسع معهما يكفل القفز بالوعي إلى مستويات لا يمكن إدراكها. 

Egypt Air