مبادرة إحياء المسرح المدرسي والفنون بالمدارس المصرية، بالتعاون فيما بين وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، ومجموعة قنوات مدرستنا والشريك الإعلامي الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، مبادرة مُبَشِرَة إلى أبعد الحدود، فلم يكن ارتفاع موجة تطرف الشخصية المصرية وانغلاق العقل الجمعي المصري في مواجهة تقدير قيمة الفن، إلا انعكاسًا طبيعيًا لانخفاض معدل أنشطة الفنون بالمدارس المصرية طوال أكثر من ثلاثة عقود ماضية.
نظرة سريعة على أهداف المبادرة تُلقي الضوء على خطورة غياب أنشطة الفنون عن المدارس المصرية، تَهدف المبادرة إلى إعادة تنشيط دور المسرح المدرسي في اكتشاف مواهب جديدة من الطلاب، وأيضًا إعادة بث روح الفنون في المدارس وتنميتها لخلق جيل مثقف علميًا وفنيًا وأدبيًا، كما تهتم المبادرة بتقديم فرصة لصغار المواهب الفنية ليكونوا رواد الفن في المستقبل، وأخيرًا التغلب على المعوقات التي تواجه المسرح المدرسي وتقديم فرص فنية بأدوات تكنولوجية تمهد لثقافة فنية تواكب لغة العصر.
رسميًا بدأ النشاط المسرحي بالمدارس المصرية عام 1936، عندما اعترفت به وزارة المعارف المصرية، وأنشأت له تفتيشًا خاصًا أشرف عليه وقتها رائد المسرح المصري الكبير زكي طليمات، أول مفتش للتمثيل بوزارة المعارف العمومية، لكن بطبيعة الحال أنشطة المسرح المدرسي كانت في أوجها قبل هذا التاريخ، وخاصة في المدارس الثانوية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي، وذلك وفقًا لمؤرخ المسرح د. محمد يوسف نجم، والذي استطاع أن يصل في تأريخه لنشاط المسرح المدرسي المصري حتى عام 1884.
في مذكراته "ملك الترسو" حكى وَحش الشاشة فريد شوقي للناقدة السينمائية الراحلة إيريس نظمي، كيف كافح "طليمات" خمسة عشر عامًا حتى يستعيد اعتراف الدولة بإنشاء معهد التمثيل المصري عام 1946:
"سمعت وقرأت عنه كثيرًا، عن كفاحه ودفاعه عن افتتاح أول معهد للتمثيل في مصر عام 1920، هذا المعهد الذي كان أبي أحد الذين يدرسون فيه فن الإلقاء، لكن تلاميذ وتلميذات المعهد - ومن بينهم روحية خالد ورفيعة الشال وفرج النحاس وزوزو حمدي الحكيم - فوجئوا بقرارٍ صارم من الوزير حلمي باشا عيسى، وكان يُسمى في ذلك الوقت (وزير التقاليد)، بإغلاق هذا المعهد بحجَّة أنه يساعد على إفساد الأخلاق، ولأنه يجمع الشبان مع الفتيات في أماكن وغرف واحدة، واختلاط الجنسين عيب وخطر يجب مقاومته والتصدي له.
قامت الدنيا وهاجت بسبب قرار وزير التقاليد، أناس يؤيدون القرار حرصًا على التقاليد وخوفًا وتباكيًا على الأخلاق، وآخرون يعترضون على هذا القرار ويرَون أن فن التمثيل ليس جريمة، كان زكي طليمات وقتها قد سافر إلى باريس ليتفق مع بعض الأساتذة للتدريس بالمعهد الجديد، وعاد ليُصدَم ويُفاجأ بإغلاق أول معهد مصري للتمثيل بأمر وزير التقاليد".
يواصل ملك الترسو: "ولم يبالِ زكي طليمات وظلَّ يدافع عن فكرة إنشاء معهد التمثيل، يلتقي بكبار المسؤولين ويكتب في الصحف ويُلقي المحاضرات، كان فعلًا مقاتلاً شجاعاً لا يعرف اليأس أبدًا طريقًا إلى قلبه، إلى أن كُلِلَت جهوده أخيرًا بالنجاح في عام 1946، عندما أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية قرارًا بإنشاء المعهد العالي للتمثيل.
خبر أسعد كل الذين يحبون المسرح، وإن كانوا يحملون في قلوبهم شيئًا من القلق والخوف حتى لا تتكرَّر مع المعهد الجديد نفس مأساة عام 1930، ولذلك اقترن اسم زكي طليمات في ذهني بصورة البطل الذي وَهبَ حياته من أجل نشر الثقافة المسرحية وخلق أجيال جديدة من رجال المسرح الدارسين".
في تقديري زكي طليمات لم يأخذ حقه حتى الآن، بما يواكب دوره التاريخي الهام والمؤثر في التأسيس لقيمة فن التمثيل والارتقاء بثقافة ونظرة المجتمع له، ولعل مبادرة إحياء المسرح المدرسي والفنون بالمدارس المصرية، تُعيد مُجددًا إحياء سيرة رواد المسرح المصري وفي مقدمتهم زكي طليمات، خاصة وأن تدشين المبادرة يبدأ بعرض مسرحي غنائي كبير بعنوان "تِقدر" يُعرَض على مسرح دار الأوبرا المصرية يومي 7 و8 يناير المُقبل.
العرض تأليف د. مدحت العدل، إخراج بتول عرفة، بطولة عدد كبير من النجوم، يُسرا، حنان مطاوع، كارول سماحة، أكرم حسني، محمد فراج، فريق بلاك تيما، وكورال الشرق، يقوم العرض في مجموعه على المؤثرات البصرية وتقنيات الهولوجرام تحت إشراف الفنان محمود صبري، الحاصل على جائزة الدولة للإبداع الفني في روما بعد تصنيعه أول جهاز هولوجرام مصري.
نعيش أيامًا صعبة، لا أعني فقط موجة التضخم العالمية، وإنما أيضًا تراجع مُعدلات أنشطة الثقافة والفنون، وتَردي مستواها طوال أكثر من عشر سنوات ماضية، ولكن الفن المصري يظل دائمًا بخير، بقدر تاريخ وإبداع وجهود وعطاء رواده الكبار، سيرة الفن المصري كفيلة بتعافي حاضره وتأمين مستقبله، الفاتحة على روح زكي طليمات.