أنهينا الجزء الأول من موضعنا بالتساؤل، كيف قرأ الوضعيون المنطقيون الميتافيزيقا؟ وهل كانت قراءتهم هذه منصفة أم كانت هجمة عدائية بغرض رفضها وانكارها؟ ووجدنا أن الإجابة الدقيقة والمرضية لهذا التساؤل تقودنا إلى التعرف على نشأة الفلسفة الوضعية مع بيان مراحلها الثلاث، ومن ثم الوصول إلى الرؤية التي قدمتها لنا هذه الفلسفة اتجاه الميتافيزيقا.
نشأت الفلسفة الوضعية التي تزعمها "أوجست كونت" في عصر سيطر عليه ومهد له حادث اجتماعي عظيم وهو "الثورة الفرنسية". وتطلع المفكرون إلى البحث عن النظام الذي يجب أن يقوم بعد الثورة وعلى أنقاضها، لذلك شعر "كونت" بضرورة إعادة تنظيم المجتمع من جديد، بل وهدم العقائد والآراء السائدة. تلك العقائد التي لا يمكن البرهنة عليها وأن تقوم على أنقاضها مجموعة منظمة من العقائد والآراء التي يستطيع العقل أن يدركها ويفسرها. بالإضافة إلى أن يضع العلم الوضعي موضع التفكير الميتافيزيقي، كما كان عليه ان يُحد من دائرة التفكير المطلق الذي يقوم علي الخيال، فبهذا يصبح التفكير نسبيًا مؤسسًا على الملاحظة التي يستطيع العقل البشري أن يعللها. والسؤال الآن، هل هناك أطوار أو مراحل للتفكير الإنساني؟
باكتشاف "كونت" قانون الأطوار الثلاثة، مكنه هذا من أكتشف علم الطبيعة البشرية، حيث انه مرتبط باكتشاف قانون الحالات الثلاثة للتفكير، وهم على النحو التالي:
أ- الطور(التيولوجي) اللاهوتي:
ففي الطور اللاهوتي كان الوعي البشري خاضعًا للتفكير الخيالي (الميثولوجي)، شأنه شأن الطفل الصغير الذي يفهم ما يحدث أمامه من ظواهر، وكان الاعتقاد السائد أن الطبيعة تُسيرها كائنات مفارقة تختفي وراء الطبيعة المرئية كالآلهة والشياطين.
ب- الطور الميتافيزيقي:
وفي هذه المرحلة يظل العقل الإنساني يبحث عن أصل الأشياء ومصيرها، ولكنه يرتقي فيتخلى عن الكائنات السامية غير المرئية، ويرد الظواهر إلى علل مجردة خفية تسمي الماهيات أو الجواهر. وهنا يري "كونت" أن الوعي الإنساني أنتهج منهج العقل بدلًا من الخيال الذي كان آلية التفكير المهيمنة في المرحلة السابقة.
ج- الطور الوضعي (العلمي):
وفيه يذهب العقل عند تفسيره للظواهر إلى القوانين التي تحكمها وتنظمها، ولهذا أصبح القانون العلمي هو محور البحث، فبدلًا من البحث المطلق اللامحدود أصبح البحث مركزًا على طائفة معينة من الظواهر حتى يطمئن العقل في الوصول إل حقيقتها.
وننتهي من هذا كله إلى أن النقطة الجوهرية التي استند إليها "كونت" في دراسته للأطوار الثلاثة، هي أن دراسة الوظائف العقلية الخاصة بالإنسان لا تصير وضعية ولا تصلح أن تكون موضوعًا للبحث الوضعي إلا إذا دُرست من وجهة نظر تاريخية واجتماعية. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول الميتافيزيقا عند الوضعية المعاصرة، من حيث أصولها ومنشأها وروافدها؟
المدرسة الوضعية الجديدة هي الوحيدة التي تمثل الاتجاه التجريبي تمثيلًا حقيقيًا في القرن العشرين الميلادي في الفكر الغربي. وتعود أصولها إلى المذهب الوضعي التقليدي عند "اوجست كونت" وعند "جون استيوارت مل" (1806 – 1873)، ومن قبلهما إلى المدرسة التجريبية الإنجليزية في القرن الثامن عشر الميلادي، أما مصدرها المباشر فأنه المدرسة التجريبية النقدية الألمانية.
نشأت هذه الحركة الفلسفية في فينا – التي تطورت فيما بعد باسم الوضعية المنطقية – وترأسها "موريس شليك", وكان يمثل (الجانب الفلسفي) من هذه الجماعة، وآخرين كانوا يمثلون (الجانب الرياضي) وهم: "رودلف كارناب" (1891 – 1970)، و"هربرت فايجل" وغيرهما. كان تركيز جماعة فينا على التحليل المنطقي للغة، أي تطبيق الطريقة العلمية على عبارات والفاظ اللغة التي تكتب بها "مشكلات الفلسفة"، وكان معيارهم في ذلك هو(التحقق) عن طريق الحكم عليها من خلال الواقع الخارجي، ويتم كشف العبارات الميتافيزيقية التي تعد عندهم مجرد لغو.
وطور أفكار هذه الجماعة "كارناب" و" ألفرد آير" (1910 – 1989) والتي سميت بالوضعية المنطقية، ومن أبرز أفكارها "إنكار الميتافيزيقا"، ومعيارهم في ذلك هو "مبدأ التحقق". وأنهم برروا رفضهم للميتافيزيقا لا على أنها مجرد اقوال خاطئة، بل على أساس أنها خالية من المعنى – كلام لا معنى له – لا هي صادقة ولا هي كاذبة. فسارت الوضعية المنطقية على النهج نفسه لجماعة فينا في نظرتها إلى الميتافيزيقا. وماذا عن الروافد المؤثرة في نشأة هذه الحركة؟
تأتي الروافد المؤثرة في نشأة هذه الحركة على ثلاث مراحل، وهي على النحو التالي:
أولاً: تأثرت بالفلسفتين التجريبية والوضعية السابقتين عليها، إلا أنها تختلف عن الفلسفة التجريبية التقليدية في أنها أرادت أن تُعيد بناء المنطق، لا برده إلى التجربة كما فعل "مل"، وإنما بالتعرف على حقيقته. كما حاولت – هذه الحركة – أن تربط التراث التجريبي بالتطور الجديد في المنطق.
ثانياً: تأثرت الوضعية المنطقية بعلم المناهج الخالص بالعلم التجريبي، كما تطور علي يد العلماء منذ منتصف القرن التاسع عشر، كما تأثرت بالمنطق الرمزي والتحليل المنطقي للغة.
ويمكننا القول إن الوضعيين المناطقة يتفقون جميعًا على ما يلي:
1) التمسك بآراء "هيوم" في السببية والاستقراء.
2) التأكد على أن قضايا المنطق والرياضة هي تحصيل حاصل.
3) النظر إلى الفلسفة بوصفها تحليلًا منطقيًا.
4) التأكيد على أن مثل هذا التحليل يؤدي إلى استبعاد "الميتافيزيقا".
وختامًا كانا هذان المقالان بمثابة عرض مبسط وموجز عن العلاقة التي تربط بين "الميتافيزيقا" و"الفلسفة الوضعية"، وكيف كانت النظرة الوضعية للميتافيزيقا المؤسسة على ميتافيزيقا "ديفيد هيوم". ولاحظنا كيف جاء رفضهم للميتافيزيقا بوصفها كلام لا معنى له، فسارت الوضعية المنطقية على النهج نفسه لجماعة فينا في نظرتها إلى الميتافيزيقا.