تنشر بوابة «دار الهلال»، قصة قصيرة للكاتب والقاص حاتم السروي، والتي جاءت بعنوان «أشباح الأول من يناير »، وإلى نص القصة:
غطاءٌ أسود ينسدل على البيوت والشوارع في "بولاق أبو العلا" والنوم يأخذ الناس في أحضانه ليسقيهم الدفء والحنان بعد يومٍ حافلٍ بالشقاء..المساجد الأثرية تضفي على المكان شموخًا يزيد من رومانسية ما بعد منتصف الليل، وأي ليل، ليل آخر صفحة من سنة 1985.
نام خالد منذ التاسعة كالأطفال، قرر أن يسكن فراشه عشر ساعات حتى يستيقظ في الصباح آخذًا حظه من الراحة فلا يشكو التعب والإرهاق..غدًا ليس يومًا عاديًا، سوف يستلم عمله رجلاً للأمن في مستشفى "إمبابة" البعيدة، أي نعم سيكون عمله بالفترة المسائية، وسيتعين عليه النزول من بيته بعد العصر، لكنه لا يحب أن تبدو عليه معالم الإرهاق، عليه أن يؤكد لرؤساءه أنه حارسٌ متيقظ يمتلئ صحةً وعافية ويستطيع بصوته فقط أن يوقع الدهان من الحيطان.
وها هو الآن يصحو من رقدته، لذة النوم أنسته ذكريات الوجع والفقر، كان يغني كمن عاش دهرًا يتقلب في السعادة، وشعر أنه أقوى رجل في العالم.. تناول فطوره بشهية، وارتشف الشاي على مهل حتى يشعر بلذته، وقضى سحابة يومه يكوي ملابسه ويغسل مواعينه ويستمع إلى الراديو.
حين وصل المستشفى، صافح قريبه الذي يعمل فيها بحرارةٍ وامتنان، كيف لا وهو الذي ساعده في إيجاد فرصة العمل التي كان ينتظرها بفارغ الصبر.. إنه شابٌ وحيد مات أبوه منذ عامٍ تقريبًا، أما أمه فكانت قد ماتت بعد ولادته بأيام لإصابتها بحمى النفاس، وهو يريد أن يتم نصف دينه ولم يَرِث من أبيه إلا ربع جنيه صديء سرعان ما أنفقه على الشاي والسكر، كما أنه بحكم القانون لا يستحق معاش أبيه المتوفى لأنه ليس الآنسة خالدة بل الأستاذ خالد.
قضى الساعات الأولى يتجاذب أطراف حديثٍ ضاحك ودود مع زملاءه، ثم أصبح بمفرده عند العِشاء، لا يدري لماذا تحولت البهجة شيئًا فشيئًا إلى انقباضٍ في الصدر؟ إنها الوحدة التي كانت تثقله في البيت وتجعله يذرع غرفاته جيئةً وذهابًا كمن ضاعت نقوده في الشارع، أو يدخل المطبخ كل عشر دقائق، يعد الفول مرةً و يغلي الشاي أخرى.. لكن الوحدة هنا أصعب، لا شيء حواليه..يسمع صوت الهواء، ويرى الأشجار تتلوى من ريح الشتاء، وفجأة..
رأى قريبه واقفاً أمامه وقد بدا عليه الجد والصرامة..صوَّبَ له نظراتٍ حادة وقال: تعالَ استلم هذه الجثة وقيدها في دفترك ثم أدخلها الثلاجة.. نزلت عباراته على رأسه كالصاعقة.. "يا لهوي!" قالها في نفسه وهو لا يكاد يصدق.. أتراه يختبر أعصابه.أم يلقي عليه نكتة.. جثة؟ أموات؟ ثلاجة؟..
- لا أفهم
- لا تفهم ماذا؟ ما عملك هنا؟ هل أتيت لتشرب الشاي وتسمع الراديو؟! أمامك دفتر سوف تضع فيه بيانات المتوفى ثم تضع المتوفى نفسه في ثلاجة وتعد الجثث للضمان والتأكد من الأرقام المثبتة، وإذا جاء من يستلم الجثة، حينها ستسجل في الدفتر بيانات خروجها، كما سجلت بيانات دخولها، هذا عملك..هيا أبرز مهارتك.
أصيب بدوار وشعر بارتخاءٍ عام في أعصابه، وصار يفتح عينيه بصعوبة، ثم جلس مرغمًا وقيَّد بيانات المتوفى بيدٍ مرتعشة..العرق يبلل أكمامه وتحت إبطيه وحول رقبته، ورأسه يشعر بها كصخرةٍ بين كتفيه، كان يكتب ويتأوه بصوتٍ خفيض حتى لا يسمعه قريبه.
دخل الثلاجة ونظر إلى الميتين..سقط قلبه من منتصف الصدر إلى أسفل القولون، حتى أنه خاف أن يخرج مع البول الذي يحبسه رغمًا عنه حتى لا يصير مُسْخَةً في عيني قريبه الذي لا يرحم الأطفال والمُرهَفِين.. تشجع يا خالد، تجلد يا ولد.. شعر أن الموتى ينظرون إليه بتنمر، خُيَّلَ إليه أن أحدهم يتهيأ للنهوض من رقدته، وحين عد الميتين وجدهم خمسةً وعشرين كسنيَّ عمره.. خمسةٌ وعشرون مضوا، خمسةٌ وعشرون مضت..
خرج من الثلاجة..تهاوى على كرسيه أمام بابها ثم وضع يده على خده وسحبته الأفكار والذكريات..ظل منتبهًا طول الليل لا يواتيه النوم لحظة، كان بين خوفين، لا بل ثلاثة.. يخاف أن تأتي جثة على حين غفلةٍ منه فيتهم بالإهمال والتسيب، ويخاف من الكوابيس، ويخاف من قريبه الذي حتمًا سيشبعه توبيخًا لو رآه نائمًا فيشعر كأنه تلميذٌ خائب..الخوف يمزق أعصابه، والضوء المسلط على سور المستشفى يشعره بشيءٍ من الأمان يمكنه أن يتكيء عليه لكنه لا يفي بالمطلوب، وفجأةً رأى ظل شبحٍ يتحرك على الحائط وأصواتٍ عفاريتية تنفذ إلى ما دون جلده وعروقه، فيما عيناه تشخصان وشعره الناعم يقف مع أن حلاقه الشخصي فشل في إيقافه مِرارًا ثم رضيَ بالأمر الواقع..
الشبح يتعاظم وأصوات الغيلان تعلو، وبلغ قلبه حنجرته.. أخذ يركض مذعورًا ثم اكتشف ما هو أفظع..
الشبح العظيم لم يكن إلا قطًا وأصوات الغيلان هي تأوهات القطط التي كان يفرض عليها سيطرته! هدأ كل شيءٍ فيه وتنهد بزفرةٍ طويله، وصاح في القط: الله يخرب بيتك كنت هتموتني، انت تعمل فيا كده؟!! وأمسك بالقط من ظهره وهو يموء كمن يقول: اتركني يا رجل.
دخل في حوارٍ مع القط، حوارٌ غاضب كانت الصداقة نهايته المفهومة.. لم يعد يشعر بالوحدة. كما يموت كل شيء مات الخوف.. حتى بطاقة هويته رسمت على شفتيه ابتسامة حين تأملها: خالد عزيز عبد الغني..طبقها ثم وضعها في جيبه وفتح الراديو، وحين غنت شادية: ليالي العمر معدودة..ضحك حتى سالت الدموع من عينيه، وغنى معها ضاحكًا: ليالي العمر معدودة، وفين واخدانا يا دنيا؟!.. أعجبته الأغنية وتعاطف مع صوته الخشن لأول مرة، منح أليفَه علبة "زبادي" وتركه يلعقها، وحين جاء النهار كان شخيره المرتفع يعلن رأيه في المسألة.