تنشر بوابة «دار الهلال»، قصة قصيرة للكاتب والقاص حاتم السروي، والتي جاءت بعنوان « يوم فسحة ميت»، وإلى نص القصة:
ما الذي يمكن قوله في زمن الانهيار؟ هل أخبرك بالتعريفة؟ لقد خرموها يا سيدي.. نعم، كما سمعت.. ثم تندهش حين يطلبون منك التخلي عن مثاليتك؟!..
نظرَ إليَّ بعينين محمرتين تحفهما هالتان سوداوان. أوشك على الكلام وكان الصمت قد أكل شفتيه؛ غير أن الصداع اللعين لم يترك له فرصة.. وبعد لحظات أصابته ارتعاشة وبدا مثل الطير المذبوح.. يال الصاعقة؛ هل يحتضر؟! إنها الكارثة..
ماذا أفعل يا إلهي؟ كنت أحسب أنني في نزهة مع إنسان ضعيف.. قلت لنفسي: سأوبخه قليلًا وأصنع معروفًا معه، إن طيبته قضت عليه. لم يتذئب حتى أكلته الذئاب، وظننت أنني سأعطيه درسًا في الحياة والناس.. يا ويلي. هذا المسكين لم يذق طعم الراحة إلا أيامًا معدودات.
هدأ قليلًا واستجمع ما تبقى من قوته ثم قال بصوتٍ خافت: لم أكن ضعيفًا كما ترى، كن رحيمًا بي فالآن حانت نهاية الرحلة، لقد حاولت أن أعيش، كل شيءٍ كان ضدي.. إنها صحوة الموت يا صديقي؛ فاسمع مني حتى لا تَبهَت صورتي في عينيك، فلحكمةٍ ما أتيت إليَّ وأنا مدبر عن الدنيا وأهلها.. لقد عملت فيما لا يخطر على بالك، ولم أحدث به أحدًا؛ لا تنظر إليَّ هكذا، فالطيبة التي تبدو على الوجه لا تعني الغفلة عن الزمان وأهله.. اسمع يا أخي نصيحتي، نصيحة رجل ميت، كن كما أنت ولا تلوث نقاء روحك، فسواءً تماكرت أم كنت ماكرًا فنحن في زمن الذئاب الفاشلة، هل تريد أن تكون وغدًا فاشلًا؟ هل تريد أن تفقد نفسك مرةً واحدة ودون رجعة؟ إذا كنت تعتقد أنهم في أحسن حال فأنت أحمق.. اسمع ولا ترد.. يضحكون على طيبتك، وينسون خيبتهم وهي بالضحك أولى.
وبرقت في ذهني ذكريات من أحاديث مضت كان يبثها لي.. تذكرت كيف عاش في أسرة مفككة ، مأساة جيل كان صديقي واحدًا من أشقيائه.. لم يكن من الممكن أن يعيش أفضل مما عاش، فالبدايات غالبًا ما تحدد ملامح النهايات.. كانت أمه كثيرة الصياح والتوبيخ، تلومه على كل شيء حتى لو تودد إليها، أما والده فكان الميت الحي، موجود على ظهر الأرض لكنه عدم؛ حيثما طلبه لا يرجع منه بطائل، وأما العمل فكان بؤرة قذارة يجعل الحكيم حيرانا والحليم حيوانا..
إنه الواقع، واقع يخبرك طول الوقت أننا وقعنا في هُوَّةٍ سحيقة، وأن كل شيء يعمل لصالح الشيطان.. هل أقلب أوجاعك حين أخبرك بالقسوة والبشاعة في كل شبر، هل أثير دموعك التي ستنطفئ بعد قليل حين أقول لك: إن صديقي مات كئيبًا، لا بل قتيلًا..
صداقات كثيرة كان يفرح عند بدايتها ثم يشعر بالخزي حين يبرزون أنيابهم ويتكشف الزيف.. الصداقة في وكر الأفاعي وهم، كل شيء في وقتنا وهم..
حملت الميت على كتفي وخرجت من منزله أعلن أمام جيرانه أن جارهم الذي نسي بعضهم اسمه مات بسبب المرض والغم، وأنني مستعد للعرض على الجن الأزرق لإثبات ما أقول.. وتظاهروا بالبكاء ثم ركضت أم أيمن وهي تصيح: يا لهوي اما الحق الرز قبل ما يشيط. أما الحاج عباس فنظر إليَّ وعلى فمه ما يشبه الابتسامة ثم قال محاولًا تجنب الشماتة: هو مات؟! الله يرحمه.. كان متخانق مع طوب الأرض، بس كان طيب!
صليت على الميت وأقمت له جنازة حاولت أن تليق بإنسان.. استحضرت له أصدقائي وأغريتهم بوليمة بعد أسبوع.. لا تستغرب، هذا ما حدث، جذبتهم من بطونهم حتى يحضروا جنازة ميت... وحين أقمت العزاء حرصت على شراء نوع فاخر من البن، ونوع مستورد من الشاي لا يعرفه أكثر سكان المحروسة، وأشعت هذه الأخبار التي سيطرب لها عشاق الكيوف، وكان عزاءً حاشدًا بحمد الله، حضره لفيفٌ من اللصوص وبائعي الهواء والكذابين على الدنيا وما فيها، جاء الكل يستمعون إلى مقرئ الإذاعة والتلفزيون ويشربون البن الغالي الذي يشاهدونه في فتارين البقالات ثم يهتفون: ليس بالبُن وحده يحيا الإنسان..
وانتهى العزاء على خير، ولا أذكر أن شيئًا حدث غير مشاجرة بسيطة من أحدهم مع عامل البوفيه، وراضيت الطرفين حتى لا تكبر المهزلة فتصبح مأساة..
بعد اليوم الحافل عدت إلى منزلي، لا أدري كيف نسيت الحزن، ولست وحدي، كلنا أصابتنا أشياء من البلادة، حاولت أن أبكي فلم أستطع.. قلت لنفسي: الحي أبقى من الميت، ودفعًا للملل فتحت الشاشة..
المذيعة المحترمة لم تقصر أبدًا في إظهار مفاتنها لكي تسعد الشعب، شكرًا لها من الأعماق.. لابد أنها علمت بالكآبة التي أصابتني وأنا أدفن صديقي الكئيب وهي الآن تسري عني بالمايوه الذي تلبسه.
واسترسلت المذيعة في الحديث عن المجتمع الأصيل وصفاته الرائعة والعباقرة الذين خرجوا من رحمه يعلمون الدنيا.... إلخ. أغلقت الشاشة بعد أن أصابني النعاس، وحين صحوت من نومي حاولت أن أتذكر: هل شاهدت صديقي في المنام؟؟ آه تذكرت، رأيته معي في مقلب زبالة!! وكنت أقول راجيًا: ماتسيبنيش يا حسين، هعمِلَّك شاي.. صاح ضاحكًا: خليهولك، أنا رايح أتفسح.