السبت 27 يوليو 2024

«المولييريون !!»

مقالات16-1-2023 | 18:40

كنت ولازلت من أشد المعجبين والمتحيزين لمسيرة موليير؛ هذا الكاتب المسرحي  الكوميدي المُتفرد والمنتمي للعصر الكلاسيكي الحديث - القرن السادس عشر والسابع عشر، والذي لا يقل شهرة بل يتفوق على "بيير كورنيه" و"جان راسين"؛ حيث تميز موليير بشخصية مسرحية أدبية جادة للغاية؛ رغم تصنيف كتاباته كوميدية إلا أن معاييرها التاريخية والاجتماعية والفنية جعلت الكُتّاب في عصره والفلاسفة يصنفونه "رائد الكوميديا الراقية"؛ حيث كتب ما قد يكتبه العقل البشري كله من روائع الأدب الكوميدي على نحو شامل وواسع يعكس الحقيقة ،والتي ربما تكون سودوية ؛ من خلال نقد  المعاني بنصوص ومفاجآت درامية؛ لذا لُقِب "فولتير" بفيلسوف الكوميديا الاجتماعية.
 لم يكتفي موليير بالتأليف بل ساهم  بقدر كبير في وضع أصول الإخراج المسرحي؛ من خلال إدارته وتوجيهاته الدقيقة لأداء الممثلين على خشبة المسرح،بالتوازي مع كونه مؤلف؛  فقد قام من أجل خدمة أعماله الكوميدية  بتوظيف كل أنواع ودرجات الفُكاهة؛ من المقالب المُضحكة و السخيفة، وحتى المعالجة النفسية الأكثر تعقيداً، مهاجماً في أعماله المشهورة الرذيلة المتفشية في أوساط المجتمع حينذاك؛  عن طريق خلق شخصية محورِية تتوفر فيها هذه الصِفات، وتدور حولها أحداث القصة.
 كان موليير يملك بصيرة وفراسة مكنته من ترك  الساحة عندما اشتدت المنافسة واختلط الثمين بالردئ ، هجرها ثم تحين الوقت المناسب للعودة بعدما  كون فرقته الجديدة من الممثلين المتجولين، أدت هذه الفرقة أولى أعمالها الكوميدية، ولاقت عروضها نجاحاً جماهيريًا، فبدأ نجم موليير في الصعود.
 عاشر أثناء هذه المرحلة -الخادمة لإبداعه- أناساً من مختلف الطبقات، وقد ساعده ذلك عندما عبّر عن خلاصة استقراءه لشخصيات البشر من خلال مسرحياته الساخرة.
واقتبس موليير معظم أعماله الأولى  " المغفل"،"ظعينة المحبة" من المسرح الهزلي الإيطالي، الذي كان رائجًا آنذاك، كانت مواضيعه تتعرض بروح ساخرة إلى الحياة اليومية للناس.
 بعد مرحلة التنقل والتِرحال الدائم في مدن الجنوب الفرنسي(ليون، رُوان)، قرر موليير الاستقرار في العام ١٦٥٩ م في باريس بعد أن أصبح يتمتع برعاية خاصة من الملك لويس الرابع عشر، قام بتقديم عدة عروض مسرحية نثرية وشعرية للبلاط الملكي ولجمهور المشاهدين الباريسيين، كتب أعمالاً خاصة ومتنوعة في كل أصناف الكوميديا التي كانت معروفة في عصره: الكوميديا الباليه، الكوميديا الرَعَوِية(تصور حياة الرعاة في الريف)، الكوميديا البطولية وغيرها ، ثم تواصلت مسيرته وقدم آخر أعماله "المريض الوهمي" في العام ١٦٧٣م ليفارق الحياة بعد ساعات فقط من تقديم العرض الرابع لهذه المسرحية.
أهم أعماله الكوميدية:  المتأنقات السخيفات ، مدرسة الأزواج ، مدرسة النساء، دوم خوان، المريض رغماً عنه، البخيل، طرطوف، البورجوازي النبيل، النسوة الحاذقات، المريض الوهمي.

استطاع رسم صورة دقيقة للحياة الاجتماعية الفرنسية بأسلوب يخلو من الدعابة والعبث التي اعتاد عليها المجتمع الفرنسي وفنونه، ورغم ذلك انتقده المتخصصون لتخليه عن عنصر العقدة أو(الحبكة)،وتم اتهامه بالضعف في كتاباته!، وكانت أكثر النصوص هجوماً عليه هي " كاره البشر"، ونال منها نقداً لاذعاً  كما فُعل بشكسبير في آخر مسرحياته "هنري الثامن".
سخر موليير في نصوصه المسرحية والمتعددة من رجال الدين والأطباء والفنانين والمتكبرين ودعاة الاحتشام والموقرين من رجال ونساء باريس، وعالج بسخرية حادة ومتقنة مظاهر الضغينة واللؤم بغض النظر عن الانتماء للشخصية. وتغلبت على فكره وروحه هذه السخرية والتي اتخذها كوسيلة للنقد الاجتماعي وفضح كثير من التقاليد الغامضة والنفاق الاجتماعي. حتى أنه في تلك الفترة سُمي زعيم الثورة الأدبية في فرنسا الكلاسيكية ؛ حيث كان لديه مقدرة مدهشة على الغوص في عمق النفس الإنسانية وكشف أسرارها المتناقضة للأفكار وعواطفها ورغباتها.
 خرج موليير عن عنصر الحبكة في كتاباته للمسرح مما أدى إلى التصادم بينه كفنان مسرحي وصاحب مشروع مسرحي، وبين المُتلقي الذي لم يعتد في نظام التلقي السائد على مثل هذا التمرد والتجاوز. وفي تلك الفترة الزمنية اعتبره الجمهور قد أخفق من الناحية المسرحية ولكنه صمم رغم ذلك على انحيازه للفن الذي يترك تأثيره الغامض العميق في نفس وعقل المتلقي.
 واعتبر كثير من الفلاسفة والكتاب في عصره وما بعد عصره بأن موليير أوصل المسرح الفرنسي إلى ذروة الأصالة تماماً كما وصل إليه المسرح الانكليزي على يد شكسبير.
والغريب أن الأكاديمية الفرنسية وهي أعلى مؤسسة ثقافية اعتبارية آن ذاك رفضت الإعتراف به أو حتى قبوله عضواً فيها إلا بعد وفاته؛ حيث ذهب موليير تاركاً عناصر الكوميديا التي رسخها  أصيلة، واتخذت كمرجعيات فنية للكتابة المسرحية للكثير من كتاب المسرح الكوميدي الذين أتوا من بعده حيث كان له الأثر الكبير جداً في كوميديا المسرحية أو أدب الكوميديا في العالم.
لم تكن بصمته داخل حدود فرنسا وأوروبا فقط بل امتدت في الشرق الأوسط وخاصة  السينما والمسرح في مصر، حيث  تأثرت الحركة الفنية والدرامية كثيراً بعناصر الكوميديا عند موليير؛ وقد حُولت بعض مسرحياته إلى أفلام  ذات طابع وبيئة مصرية  مع جيل رواده آنذاك؛ يوسف وهبي وجورج أبيض ونجيب الريحاني الذي مصَّر في أواخر ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن الماضي مسرحيته الرائعة (طرطوف) لتصبح (كشكش بك)...!!! 
ولنا حديث لاحق عن موليريين الشرق!!! ؛ تأبيناً وعرفاناً لموليير في شهر مولده ...( يتبع).