الجمعة 26 ابريل 2024

لا تطلبْ منِّي أنْ أبتسم..!

مقالات18-1-2023 | 12:51

ولأن الإسكندرية مولدي وملعب طفولتي فلها أكبر الأثر في تشكيل وجداني ووعيي، ولها النصيب الأوفر في سلَّة الذكريات، ولا تزال إسكندرية الستينات تحتل واجهة الذاكرة؛ حيث جمالها الأخَّاذ، وهذا الكورنيش الساحر الذي كان يتيح لك عبوره دونما مضايقة من بوق سيارة أو خوفٍ من خطورة سرعتها أو ضيقٍ من زحام المارين الذين يحرمونك من السلام النفسي الذي تنشده في خلوتك بالبحر إذْ تلقي عليه السلام.... فيستقبلك بأحضانه...!!

 ولاتزال صورةُ هذا المبنى المهيب ذي الدرجات الرخامية الفخمة، والكائن في منطقة "المنشية" حيث يطل على البحر في شموخٍ.. لا تزال صورته تأبي أن يعتريها النسيان؛ لكثرةِ ما جلست أمامه أسبوعياً حيث كان أبي يصطحبني إن لم يشغله شاغلٌ لصلاة الجمعة في أحد المسجدين: أبي العباس أو البوصيري؛ وكنت أراقب أكثر الوقت حركة الجنديين اللذين يقطعان ساحته جيئةً وذهاباّ في خطواتٍ واثقة، لولا أن تحين منِّي التفاتةٌ غير مقصودةٍ ناحية البحر.. ساعتها يطفو هذا السؤال الذي  ظل يلازمني طويلاً.. هل هناك بعد هذا البحر يتواجد أطفالٌ مثلي قد اصطحبهم آباؤهم  يجلسون كما أجلس الآن ...؟!! ظل هذا السؤال يأبى أن يغادرني إذْ لم أدخل المدرسة بعدُ ... وبعدما دخلتُ لم أجد أيضاً فيما درست في الصفوف الأولي ما يزيل الكثير من حيرتي...!!                                         

وكبرتُ... لأدرك أن هذا المبنى المهيب بقبته البهيَّة، وتشكيلاته الرخامية التي تأخذ بأعين ناظريه ليس سوى النصب التذكاريِّ للجندي المجهول، ولو كنت ساعتها عرفت اسمه لظللت ليل نهار أقلِّب هذي المفردات دونما راحةٍ من غرابة معانيها، إذْ كيف يكون هناك جنودٌ مجهولون ؟! وهم يذهبون ولابد أن يعودوا متوَّجين إما بالنصر أو الشهادة، لكن يذهبون ولا يعودون ماكان ذلك ليستوعبه عقل الطفل ، وليس ذلك إنكاراً لفكرة الموت؛ فهي لم تفارقني منذ بدأ سمعي يؤدي وظيفته ، فكثيراً ما حكت لي أمِّي عن أختي " رضا " التي رحلت قبيل مجيئي بأشهر، وكذلك رحل أخي "أحمد" أمام عيني ذات يومٍ قبيل المغرب، ولَحَدوه أمام عيني، وأهالوا علي جسده الصغير التراب أمام عيني ... لكن أن يكون القبر لجنديٍّ مجهولٍ ... وليس فيه !!!

ولم يستطع الشعراء أن يتجاهلوا ذلك الشهيد المجهول قبره، والمعلوم قدرة ومكانته، فهذا الشاعر البديع "أحمد رامي" في قصيدته "الجندي المجهول " يتوجّه إلى هذا الشهيد مخاطباً ... (أنزلوك التراب من غير ما اسم ## ولك اليوم أشرف الأسمـاء)، ثم يحادثه عن زائريه : فمنهم اليتيم الذي يراك (الأبـرَّ في الآبــاء)، ومنهم الأم الثكلى التي تراك (الأعـز فـي الأبـنـاء)، وكذلك الأخ الحزين يراك (الأخ الحبيب النائي) ، وكذلك العذراء تزور مثواك وتراك ( إلى نفسها أحب الرجــاء ، والغريب أن " أحمد رامي " أغفل ذكْر والد الشهيد ... ألأن الوالد يجب عليه التجلُّد رغم عِظَم المصيبة ؟!! أم أن والده سبقه إلى الشهادة وهذا الشهيد البطل يتأسى بأبيه ...؟!! ربما ويأبي الشاعر الفذُ " نزار قباني " إلا أن يشارك برائعته "رسالة إلى الجندي العربي المجهول" يقول مطلعها :                                        لو يُقتَلونَ .. مثلما قُتلتْ
لو يعرفونَ أن يموتوا .. مثلما فعلتْ ..
لو مُدمنو الكلامِ في بلادنا قد بذلوا نصفَ الذي بذلتْ ..
يبدأ الشاعر الفذ " نزار قباني " رائعته باستخدام ( لو ) ليؤكد استحالة حدوث جواب الشرط لامتناع وقوع فعل الشرط ، فلو أنهم ما تقاعسوا عن أداء دورهم ما حدثت الكارثة وهي (لا استُبيحتْ تَغلبٌ وانكسرَ المناذرهْ …)، وكعادة "نزار قباني" يبرع في فتْح نوافذ قصائده؛ لتُطلَّ منها قناعاته السياسية دونما تكلُّفٍ، كل ذلك تحمله لنا مجازاته الرائعة ومفرادت معجمه الخاص، وأرى أنّي بهذا التعجُّل لم أفِ حق رائعة "نزار قبان" إذْ عاجلني سؤالٌ .. لماذا لم يتحدث الشعراء بلسان هذا الجندي المجهول ...؟! ... إذْ أنهم أغفلوا حقّه في التعبير عن مكنون صدره، لأجد نصاً بديعاً للشاعر الأنجولي "أوجستينو نيتو" بعنوان "لا تطلب مني أن أبتسم" يتحدث فيه بلسان هذا الجندي المجهول الذي يرفض أن يجعل المجد أهم أولوياته ومقتنياته، إذْ أنه يحتفظ بعويل الجرحي تاركاً التكريم للجنرالات، فهو يرى المجد فيما يعاني ، ويجد ابتساماته فيما يذرف من دموع ، فلا دور لمقتنيات المجد أو الابتسامات، إنما الوجوه القاسية هي التي تمهد طريق الاستقلال حجراً ... حجراً ، والآن إلى قصيدة "لا تطلب مني أن أبتسم" والشاعر الأنجولي "أوجستينو نيتو": لا تطلب مني مجداً ... فأنا مازلت أزفر عويل جرحى المعركة !!                                                                                                        لا تطلب مني مجداً ... فأنا الجندي المجهول للبشرية  ...التكريم للجنرالات !!                                                                                                                                                           المجد هو آلامي وما عانيتُ    ابتساماتي هي كل الدموع التي ذرفتُ 

لا الابتسامات ولا المجد بل الوجه القاسي الذي يمد الطرق للعابرين ..  حجراً .. حجراً على الأرض الوعرة!

Dr.Randa
Dr.Radwa