السبت 18 مايو 2024

كان حمار الحكيم أشهر حمار في مصر - لكنني سأؤجل حكاية الحمار لأحكي عن الحكيم بلا حمار

19-8-2017 | 12:48

كتب : يحيي تادرس

روايته «عودة الروح»- ألهمت الزعيم جمال عبدالناصر بضرورة قيامه بثورة 52 تحولت الرواية إلي مسلسل لا أذكر من أبطاله سوي الراحل - صديقي - يونس شلبي.

....

ورغم صلابة موقفه تجاه كل تجاوزات الثورة في مسرحياته:

شمس النهار 1981 «سميحة أيوب»

السلطان الحائر 1973

عودة الوعى 1979

ورغم العديد من رواياته التي تحولت إلي مسرحيات وأفلام:

يوميات نائب في الأرياف

الأيدي الناعمة «أحمد مظهر»

العش الهادئ

رصاصة في القلب

.....

إلا أن الأجيال الجديدة لا تكاد تعرف من هو- توفيق الحكيم...

و.... تعالوا معي نقلب في مذكراته بالغة الطرافة لنطل علي كاتب ومفكر وعصر بأكمله:

لم يرن والدي يوم ولدت ... كان وقتئذ وكيلا لنيابة مركز السنطة فترك والدتي لتلدني في الإسكندرية وقد بعث زوج الأخت - بخطاب يقول فيه بالنص:

أرسلنا إليكم اليوم «تلغرافا» تبشيرا بقدوم نجلكم السعيد وتفصيل الخبر أنه في السا عة العاشرة مساء اليوم شعرت السيدة حرمكم بألم شديد يشبه الطلق فأردت إرسال الخادم إلي القابلة «الداية» فامتنعت بقولها..

ربما لا يكون الأمر كذلك...

.....وبعد الثانية عند منتصف الليل أرسلنا الخادم وفي الرابعة:

أقبل أخينا مصحوبا بسلامة الوصول - وقد رأيته صباح اليوم فوجدته مثل أبيه ولكنه - بلا «شوارب»!!

و.... سنمضي سراعا حتي نصل إلي مشهد يجسد عصر الاحتلال البريطاني

.... كان العهد عهد «كرومر»

.... يروي زوج خالتي هذا أنه كان جالسا مع أصحابه ذات يوم فجأة ماسح أحذية من الأجانب الوافدين .. فبعد الانتهاء من مسح حذائه أخرج مع الأجر بطاقته وقدمها للماسح الأجنبي قائلاً:

بنبرة الجد:

هاك اسمي وعنوانى لتذكرني وتشملني بنظرة عندما تصبح في بلادنا من أصحاب الجاه والمال والمناصب!

ملحوظة للأجيال الجديدة:

كان «اللورد كرومر» هو الحاكم الفعلي لمصر كمندوب سام لبريطانيا العظمي - وكان للأجانب سلطة وسطوة - ويتولون أهم الوظائف العليا بلا أي مؤهلات أحيانا في حين كان المصريون - حتي أصحاب الشهادات العليا يعانون من البطالة...!

.....

خالتي - كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب - بل ولا تحسن غير التفكير في الخرافات الشائعة بين نساء جيلها.. مات لها ستة أولاد ولهذا الموت سر في رأي جدتي - إذ أن هناك «جنية» تحت الأرض اسمها «القطاية» تظهر أحياناً في صورة قطة سوداء - وفي ذات ليلة ظهرت أمامها ساعة العشاء - وكانت تأكل سمكا مشويا - فجاءت القطة تطلب قطعة فلطمتها جدتي بظهر كفها فاختفت .. منذ تلك الليلة ما حملت مرة إلا وشعرت كأن لطمة تصيب بطنها فيسقط الحمل منها.

إلي أن جاء الحمل السابع - فنصحها الناصحون أن تأتي بمنجم معروف اسمه «أبو عجيلة» فجاء وحجبها بسبعة أحجبة وعندئذ تم الحمل بنجاح!

عزيزي القارئ: أرجو ألا تسخر من معتقدات أهل زمان فاليوم ونحن في عام 2017 نشهد إعلانات بالغة السخف والاستفزاز في بعض القنوات الفضائية عن وصول «الدكتور!..... القادم من المغرب أو الهند أو ..... يستطيع أن يفك السحر السفلي» ويعيد الحبيب ويفك عقدة العانس أو ....» وأحيانا يتم استبدال هذا الدكتور المعجزة بالشيخة فلانة التي لا تكتفي بفك السحر - بل وتعالج كافة الأمراض المعروفة وغير المعروفة- فقط اتصل بالأرقام التالية........!

.....

وسنمضي قدما في مذكرات كاتبنا إلي أن نصل إلي ما كتبه والده من نفقات «صرفها» ليوم زواجه من والدته:

17 قرش صاغ «الجنيه قيمته مائة قرش ولا يزال ولكن أين هو ذلك القرش.. اختفي كما لم يصبح للجنيه أي قيمة!.....»

17 قرش صاغ تذكرة درجة ثانية من المحلة إلي صفط الملوك

10 قروش ليد عبده الخادم من ماهيته

2 قرشا صاغ أجرة حمار

ملحوظة:

كانت الحمير - إحدي وسائل المواصلات الهامة - خصوصا في الأرياف خاصة للبوسطجي «تذكر فيلم البوسطجي لشكري سرحان» وغيره من المهن المرتبطة بالريف - وبالقاهرة كان لهم موقف في منطقة الساحة - شارع رشدي حالياً»..

5 قروش صاغ أجرة التخليص علي فراخ الإسكندرية

5 قروش صاغ بقشيش «للخدم» في تاريخه!

....

وكان جدي يمتلك في «صفط الملوك» بمديرية البحيرة ثمانية أفدنة لكن ما نفع ذلك وله علي ذمته أربع زوجات غير المطلقات..

وكان لكل زوجة ومطلقة أولاد منه - بلغوا في مجموعهم عددا كبيرا - لا يذكر بالضبط أعدادهم.

وكان إذا جلس علي «المصطبة» ومر أمامه صبي منهم أو غلام سأله:

انت ابن مين ياولد فيجيبه مثلاً:

أنا ابن ستوتة أو خديجة أو هانم أو خضرة

أما التمييز بينهم فكان «ملابس الأولاد أنفسهم» إذا كانت جديدة فهو من أبناء زوجته الجديدة!

... أما والدي

كان هو وبعض أخوته - يتحايلون علي والدهم ليستكملوا تعليمهم فإن فشل أحدهم - يعود فورا إلي الزراعة!

...

وكان والدي مع بعض إخوته وأقاربهم وزملائهم ممن نزحوا إلي القاهرة لطلب العالم ليبيتوا في سكن واحد ويطبخوا لأنفسهم الطعام مرة واحدة كل أسبوع هو يوم الجمعة - أما باقي الأيام - فكان الفول المدمس

أما ماذا كانوا يطبخون .. فكان «العدس»

... ويذكر والدي - أنه في أحد أيام الجمعة - اضطروا إلي ترك حلة العدس فوق النار ومضوا إلي بعض شئونهم وتركوا حلة العدس فوق النار - في عهدة شقيقهم الأصغر - الذي خرج ليلهو مع رفاقه - وحين عودته وجد ما فيها قد غلي وفاض علي أرض الحجرة وامتزج بترابها

فما كان منه إلا أن غرف بكفيه العدس الممتزج بالتراب واعاده إلي الحلة - ولما رجع إخوته بالفجل والكرات يمنون النفس بالأكلة الشهية واقبلوا علي الطعام فاكتشفوا التراب في أفواههم!

.... المهم كان هذا الشقيق الأصغر ميالا للعب والهروب من المدرسة - ماذا يفعل اشقاؤه الكبار - كي «يحبسوه» في حجرتهم:

كانوا يربطونه من وسطه بحبل ويعلقونه بواسطة «بكرة» في سقف الحجرة ثم يكتفونه ويشدون الحبل المتصل بالبكرة فإذا جسمه قد ارتفع ولاصق السقف كأنه مصباح أو «كلوب»

ويذكر والدي وهو يضحك حادثا آخر لهذا الشقيق:

حدث يوما أن عاد أحدهم من البلد «في موسم القطن الذي كان» ومعه قدر من الأرز وأزواج من الحمام فاستعدوا لهذه الأكلة المفتخرة بالاستحمام أولاً ثم بدأوا في طقوس الأكلة:

جاءوا بقصعة «إناء نحاس» يسمونها في الريف «المنسف» فوضعوا فيها الأرز بعد طهوه - فصار كومة كبيرة عالية - وسلقوا الحمام وكان نصيب كل واحد منهم حمامة.

واجتمعوا حول القصعة وأخذوا في الأكل فما كان من الأخ الأصغر إلا التهام حمامته بعظمها ثم دس يده بخفة تحت كومة الأرز وتسلل بأصابعه في شبه نفق أو شبه غواصة حتي صارت تحت الحمامة التي أمام الجالس في مواجهته وجذبها ناحيته وكان صاحبها مشغولا بازدراد الأرز فما شعر إلا وحمامته قد اختفت من أمامه فجأة دون أن يري يدا امتدت إليها...ولم يتبين الحقيقة إلا عندما لمحها في فم ذلك الأخ الأصغر فهاج وماج وهاج الجميع لهياجه.

وقام والدي يصيح:

هاتوا كماشة أخلع بها اسنان هذا الملعون:

فخاف الأخ الأصغر من تنفيذ الوعد فهرب - لا من الحجرة - وحدها بل من القطر كله «كانت مصر تسمي القطر المصري».

... ومضي الأخ الأصغر إلي الشام ثم ظهر بعد سنوات ثريا اشتري لنفسه أرضا في القرية

... وكان أول ما فعله أن دعا اشقاءه إلي غداء باذخ أرز وحمام وكان نصيب كل منهم حمامتين - تعويضا- عن الغدوة إياها!

....

عزيزي القارئ

... اسمح لي أن «أقفز» بالمذكرات إلي أن أصل إلي الحكيم في السنة الأولي الابتدائية:

عرفت زميلا كان يلعب معي أيام العطلة الأسبوعية وفي يوم جمعة جاء إلي منزلنا بشارع الخليج المصري «بورسعيد الآن» يحمل نفيرا كبيرا لفونوغراف قديم صرنا نلعب به ساعة وإذا بوالدي يقبل علينا متكئا إلي عصاه:

إنت مع الولد توفيق في الفصل؟ فما كان من زميلي وصديقي الذي كنت ألاعبه منذ لحظة ويلاعبني بكل صفاء وهناء أن قال بكل بساطة هوه بليد وأنا شاطر!

وعندئذ لم أشعر إلا وعصا والدي قد رخت في يده وهو يصيح ياخايب يامتنيل والله لاضربك..

وأقبلت والدتي وجدتي تسألان عن الخبر فقال لهما والدي الولد بليد وغير فالح في المدرسة..

.....

المهم جاء امتحان آخر العام للنقل إلي السنة الثانية فإذا به ناجح بتفوق وإذا زميلي من الساقطين الراسبين!

....

وأذكر أنني انتقلت من مدرسة محمد علي إلي مدرسة المحمدية ولم تكن الدروس تسير بخطي واحدة بين المدرستين فوجدت نفسي خصوصا في الحساب - أمام مسائل جديدة لا عهد لي بها .. فإذا أنا أتدهور تدهورا سريعا كان يشعرني بمرارة شديدة.

وكنت أتلفت بحسد إلي زملائي الذين يرفعون أصابعهم بنشاط بينما كنت اتضاءل في مقعدي بمذلة وفزع كنت «بليد» الفصل بحق، ولم ينقذني من هذا الموقف الصعب سوي نقل والدي إلي دمنهور وحولوني إلي مدرسة دمنهور الابتدائية..

ولما علم ناظر المدرسة وكان شديد الاحترام لأبي «قاضي المدينة» نصحه بأن يحضر لي مدرسا من بين مدرسي المدرسة يعطيني دروسا خاصة .. وتم ذلك وكان فيه الانقاذ لي وعدت إلي التفوق

...

المهم... كان من بين رفاقي تلميذ في مثل سني صادقته لطول ما كان يحدثني عن المسارح التي ارتادها..

.... وتساءلت من أين يحصل علي النقود

وكانت الإجابة كما اكتشفت أنه كان يتستلل من بين «الحواجز» القماشية

.....

المهم بدأت في تلك المرحلة المبكرة أقرأ العديد من المسرحيات بل وبعد إلحاح وتوسلات - ذهبت مع والدتي وجدتي ذات ليلة إلي رواية شهداء الغرام - سلامة حجازي وسمعت فيها غناءه في قصيدته المشهورة

أجولييت ما هذا السكوت

... واسمح لي عزيزي القارئ أن أتوقف هنا ولكن - للمذكرات بقية غاية في الطرافة

و...... عن توفيق الحكيم

... كنت قريب الصلة منه - بحكم برامجي التي استفضته فيها «كانت أيام - حكاوي القهاوي» وكان يستمع لي باهتمام باعتبار تجوالي في المناطق الشعبية التي كانت بعيدة عنه «كان يقطن فى .ج. سيتي»

....

كان يكتب بمجموعة من أقلام الرصاص علي ورق الـ «دشت» وحين يبدأ لا يسمح لأحد أن يدخل مكتبه.

و..... رغم شهرته «بالبخل» فكان دائما يستضيفني علي كوب من الشاي «علمت فيما بعد أن كل طلباته كانت علي حساب الأهرام» وكان الأهرام - أيام هيكل- تحظي بالعديد من التقاليد الخاصة بمكاتب الدور السادس تحديداً «نجيب محفوظ - احسان عبدالقدوس - د.يوسف إدريس وتوفيق الحكيم»

... كان يحترم ويغطى فراشه الخاص «عم حسين» ويستأمنه علي كل ما في مكتبه

.......

وكان مشهورا بأنه يبحث عن زوجة - كل مؤهلاتها أنها تجيد صنع أو طهي صنية البطاطس التي كان شديد «العشق» لها..

كل هذه التفاصيل - سأحكيها في الحلقات التالية - بإذن الله.

    الاكثر قراءة