كلنا مغادرون بلاطك، كلنا راحلون، نقترب من محطة الوصول، وتبقي الكلمة، والموقف، تظل صاحبة الجلالة «الصحافة» ذاكرة أبنائها وكتابهم المسطور بأقلامهم أمام تاريخ الأمة، بيننا من حمل الأمانة.. وما أصعبها، و بيننا من صنع منها طريقا لمآرب آخري، لسنا ملائكة و لا شياطين، لكننا بشر بينا من يخطئ و يصيب، منذ أيام قليلة رحل المعلم و الزميل سيد عبد العاطي فارس التحقيقات الصحفية، ابن مدرسة الوفد الصحفية، التي أسسها الراحل العظيم مصطفي شردي.
«عبد العاطي» كان صحفيا مبدعا مختلفا عن أبناء جيله كان لديه قدرات خاصة جدا في كتابة التحقيق الصحفي، الذي كان جزءا منه ليس كمحرر المادة فقط بل كبطل للقصة والمغامرة الصحفية مهما كان الأمر داخل دائرة الخطر، أبناء جيلي من الذين عملوا معه في صحيفة الوفد الغراء أو خارجها يعلمون قيمة الصحفي حينما يملك الأدوات الصحفية ويحكمه أخلاق المهنة ويحركه ضميرها.
يرحل الجسد وتظل الكلمة، باقيه إلى أن يشاء الرحمن، إما تبكيك «صاحبة الجلالة بدموعها» وتظل في ذاكرتها، أو ترحل دون ذكر، كان الراحل العظيم صحفي مسكون بعشق المهنة، مع كل تحقيق يكتبه تتكشف أمام القارئ حقائق لم يكن يعرفها، وكان معلما يحمل روح الأب الحنون.
الصمت هو مقبرة الصحفي، التوقف عن تنفس الصحافة يعني الرحيل بكل ما تحمل الكلمة من معني، والتعبير عن آمال وآلام الناس هو ما يصنع الصحفي الحقيقي، قد يمر العمر دون أن تترك أثر أو موضوع واحد يتذكرك من خلاله القراء، وقد تمر عقود وتظل في ذاكرة الأمة وفي ذاكرة صحابة الجلالة مثل مجدي مهنا ورجائي الميرغني وجلال الحمامصي، وكامل زهيري، وأحمد بهاء الدين، وجمال بدوي.
أنا مهموم بتلك المهنة التي تتراجع كل يوم، و تحولت لصناعة أبطال من ورق، فقد غابت مبادئ تعلمنها علي يد شيوخ المهنة قبل نشر الأخبار، بينما اليوم هناك جيل من الشباب اشفق عليه من كثرة المؤثرات التي صنعت من بعضهم مجرد أدوات لجمع مواد خفيفة عبر منصات التواصل الاجتماعي، و اعادة تحريرها من أجل المشاهدات، ونسخ اخبار دون التأكد من مدي مصداقيتها، انها الجريمة الكاملة.
لقد وقعت المنصات الصحفية في فخ «فتاة ادعت البطولة»، ونشرت المواقع الاخبارية قصتها بل أن الأمر بلغ ذروته حينما خرج بيان رسمي يشيد بها من جانب أحد المجالس القومية دون النظر في مصداقية الواقعة، وقبلها قصة «عامل النظافة» ان جنون القراءات وضع المهنة في دائرة الخطر.
أهم ما يميز الصحافة في العالم هو قدرتها علي التأثير، باختلاف دوائر تأثيرها «محليا و إقليميا و عالميا»، و صناعة رأي عام و التعبير عنه، لصالح قضايا المجتمع و الدولة التي تخرج منها الصحف، و بطبيعة الحال تأثير الصحافة يأتي من احترامها و تطبيقها لمعايير المهنة، وفي تلك الحالة فقط تكون أبرز أدوات القوة الناعمة و التي تعد من أهم ثروات الأمم التي لا تخضع لفكرة «الثمن» بمعنها الحرفي، لأن المجتمعات لا يمكنها شراء القوة الناعمة حتي لو امتلكت «المال و فتربينات العرض»، يمكنك أن تملك دور للسينما لكن صناعة الفيلم تحتاج لكاتب و مخرج و ممثلين لديهم الموهبة و الايمان بالفكرة.
وتراجع القوة الناعمة في أي مجتمع يؤدي لتراجع حالة التأثير تجاه قضايا المجتمع «محليا وإقليميا وعالميا».
وقيادة منصات التواصل الاجتماعي للمنصات الإخبارية يدق جرس إنذار شديد، لأنه يعني بكل بساطة قدرت الغير على التأثير في قيم المجتمع
وثقافته، نظرا لفقدان المجتمع الثقة في الرسالة التي تصل له عبر بعض المنصات الاخبارية التي تنقل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي قصصها الاخبارية دون تدقيق وفحص للمعلومات للحاق بسباق الترند.
الرحلة في بلاط صاحبة الجلالة، لابد أن تصل إلى محطتها الأخيرة، مهما طالت بنا الرحلة، وتبقي سطور كل منا الشاهد أمام محكمة صاحبة الجلالة.