بقلم – عبد اللطيف حامد
كشفت كارثة قطارى الاسكندرية عورة منظومة السكك الحديدية، ولابد من وقفة حازمة لمحاسبة المقصرين من أصغر موظف حتى أكبر موظف بغض النظر عن أية مبررات لتمويع القضية، حتى لا نصحو على سلسلة حوادث أكثر دموية، ويكفى أنه بعد يوم واحد فقط من الحادث الأول وقع آخر عندما اشتعل الحريق فى قطار ١٦٠ القاهرة - أسوان، لكن الله سلم.
آفة السكة الحديد النسيان، وقياداتها تلعب على ضعف ذاكرة المصريين، فلا ينشغلون بحادثة سوى عدة أيام تتوه بعدها عند ظهور أزمة جديدة، ومن هنا لا نريد أية كلام لزوم الموقف كما يسوقه وزير النقل الدكتور هشام عرفات من نوعية أن “البنية التحتية متهالكة، وغاب عنها التطوير منذ ٤٠ عاما، وتدهور منظومة الأمن والسلامة لشبكة الإشارات الإلكترونية الحديثة ، فلا سيطرة على حركة سير القطارات”، كلمات تفور الدم، وتطرح العديد من علامات الاستفهام، ماذا فعلت سيادتك لمنع مثل هذا الحادث خلال عهدك الميمون؟، ولماذا أنتظرت حتى وقع ما لم يحمد عقباه، وراح ٤٢ مواطنا فى شربة مية، مع ١٧٩ مصابا؟، وكيف تبرر الجريمة بعد سويعات قليلة دون انتظار نتائج التحقيقات، ومعرفة المتورطين فيها بشكل مباشر أو غير مباشر؟، هل تخيلت نفسك مكان أسرة الشرقية التى فقدت ما بين غمضة عين وانتباهتها ٦ أفراد؟، ألا يعد ذلك عذرا أقبح من ذنب؟.
لست متشائما أو لدى ضغينة شخصية مع وزير النقل، أو القائمين على أمر السكك الحديدية، لكننى مستفز من خطط تطوير هذا المرفق الحيوى التى لم تتحول إلى واقع رغم وعود من المسئولين المتعاقبين، منذ حادث قطار الصعيد المروع فى ٢٠٠٢، ومازال أهالى القرى والنجوع المجاورة لشريط القطار يحكون قصصا يشيب لها الولدان من مشاهد احتراق الجثث، وقفز الركاب من الشبابيك بينما السائق نائم فى العسل لمسافة تسع كيلو مترات، وتحول العيد إلى سرادقات عزاء بطول محافظات الصعيد، ووقتها خرجت التصريحات العنترية بمحاسبة المتسببين فى وفاة نحو ثلاثمائة وخمسين مواطنا لا ذنب لهم إلا ركوب قطار الموت، وقيادة خطة لإعادة الهيكلة، وتخصيص ٦ مليارات جنيه، فلا يمكن أن تتكرر المصيبة مرة ثانية، لكن كل هذه التعهدات ذهبت أدراج الرياح، ولم يستيقظ قيادات السكة الحديد إلا عند وقوع حادث اصطدام قطارى شحن، بمحافظة الشرقية فى مايو ٢٠٠٦، وإصابة ٤٥ شخصا.
وأسمحوا لى أن أتحدث هنا كشاهد عيان فى مسرح الحادثة خاصة أنها كانت المرة الأولى فى تغطية دراما حوادث القطارات الحزينة، جاء الخبر مساء، وكان هاجس قطار الصعيد يلوح فى الأفق، فلم يكن هناك برامج توك شوز تغطى على الهواء مباشرة، ولا مواقع إلكترونية لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فى الأحداث، ونحن لم نصدق ما يقوله مسئولو هيئة السكة الحديد، فقد تعودنا منهم على التهوين من حجم الأزمة، وركوب موجة التبرير، فانطلقت أنا والزميل طه فرغلى صديق الكفاح والزميل المصور إبراهيم بشير كبير مصورى دار الهلال صاحب القلب الشاب على الدوام، لتقصى الحقيقة، ورغم بشاعة المشهد، وتداعى السكان من كل الجهات إلا أن الموقف مر بهدوء نظرا لعدم حدوث وفيات، سلامة المصريين بالدنيا، وطبعا السادة مسئولو وزارة النقل قطعوا العهود على أنفسهم بأنها ستكون آخر الأحزان فى عالم القطارات.
فعلا من أمن العقاب أساء الأدب، فلم تمر سوى ثلاثة شهور فقط، ونزل علينا كالصاعقة خبر اصطدام قطارين فى بنها، وتم تكليفى بعمل معايشة لمدة يوم كامل فى منطقة الكارثة، فذهبت بصحبة الزميل المصور حسام عبد المنعم، ـ عاشق النقاط الساخنة بحثا عن صورة غلاف للمصور- سمعت روايات تقطع القلب، وتدمع العين دما لا دموعا، تخيلوا أن القطارين تقابلا فى نفس الاتجاه، الأول قادم من المنصورة والثانى من بنها، التصادم كان عنيفا، وسمعه الناس على بعد مئات الأمتار، عربات المقدمة تهشمت، وضاعت معالمها، فما بالك بالركاب، عشرات الضحايا ما بين متوفى ومصاب، ووقتها توافد نفس القيادات، وأمطروا الصحفيين المتواجدين بسيل من التصريحات، واتخاذ خطوات نهائية لمواجهة الأزمة، ولا أنسى وقتها مشهد النائب العام الأسبق المستشار عبد المجيد محمود، وهو يتألم من بشاعة الحادث، ويؤكد أن النيابة العامة لن ترحم المقصرين جزءا وفاقا على تهاونهم فى أرواح المواطنين، بل لخص مانشيت «المصور» فى هذا العدد عشرات العبارات، وتنبأ مبكرا أن هذه المأساة تحولت لظاهرة مصرية، وسخر من أكاذيب التطوير للسكة الحديد، فكان فى أربع كلمات «حوادث القطارات قضاء وقدر» مع ملف شامل لتشخيص المرض، وتوضيح طرق علاجه لكن السادة المسئولين ودن من طين وودن من عجين.
عانيت كثيرا من مشاهد الدماء، وتألمت من شهادات المصابين، وآهات أسر المتوفين، فاشتعل الرأس شيبا، وقررت عدم خوض التجربة مرة ثانية حتى لا تطاردنى الكوابيس ليل نهار، لكن مسلسل أزمات القطارات لم تتوقف حلقاته، وتقريبا بنفس السيناريوهات، قص ولزق، ففى ٢٠٠٧ اصطدم قطاران شمال العاصمة، وقبضت أرواح ٥٨ شخصا، وأصيب أكثر من ١٤٠ آخرين، ثم فى أكتوبر٢٠٠٩ وقع حادث آخر فى منطقة العياط على طريق القاهرة- أسيوط راح ضحيته ٣٠ شخصا وإصابة آخرين، تعطل القطار الأول وجاء الثانى ليصطدم به من الخلف، وهو متوقف مما أدى لانقلاب أربع عربات من الأول على غرار كارثة قطارى الأسكندرية مع فروق طفيفة، وما أشبه اليوم بالبارحة.
الشواهد تؤكد أن الحادثة الأخيرة ستكتب نهاية تلك المأساة، فالرئيس السيسى أصدر تعليماته بفتح تحقيقات عاجلة بشأن الحادث، وعرض النتائج عليه شخصيا فى أسرع وقت ممكن، ووجه جميع أجهزة الدولة والمسئولين المعنيين بتشكيل فرق عمل للتحقيق فى ملابساته والتعرف على أسبابه ومحاسبة المسئولين عنه، مع البدء فورا فى تحديث المنظومة، وتخصيص ٤٥ مليار جنيه على مدى السنوات الثلاث المقبلة، لدعم البنية الأساسية للسكك الحديدية، وتلقت الحكومة التكليف الرئاسى بخطة عمل، وترجمه المهنس شريف اسماعيل فى سلسلة من الاجتماعات انتهت باستبعاد مدحت شوشة رئيس الهيئة رغم نية وزير النقل الإبقاء عليه حتى تعيين رئيس جديد لها، فالرسالة مقصودة ومفادها أنه لا تهاون مع أى خطأ، وأن الحساب سيطول الجميع، وليس مجرد كبش فداء من عامل التحويلة إلى عامل المزلقان، وقد أعذر من أنذر.