دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، إلى ضرورة وضع استراتيجية شاملة للأمن القومي العربي لمواجهة التحديات الإقليمية، والوضع العالمي المتغير بكل مخاطره .
وقال أبو الغيط، في كلمته أمام كلية الدفاع الوطني بسلطنة عُمان تحت عنوان "المتغيرات الإقليمية والدولية وأثرها على العمل العربي المشترك" اليوم الأربعاء، إن نقطة الارتكاز في هذه الاستراتيجية تتمثل في تعزيز الدولة الوطنية العربية وبخاصة تلك الدول التي تواجه الأزمات وتحتاج - قبل أي شيء - إلى ظهير عربي مُساند لاستعادة الاستقرار والإسهام في إحلال التسويات السياسية المطلوبة، ودرء مخاطر التدخلات الإقليمية والخارجية المُدمرة.
وأضاف أن السعي إلى تعزيز الدولة الوطنية العربية يتجاوز دعم دول الأزمات، إلى ضرورة العمل المشترك من أجل التصدي لتهديدات ضاغطة تُواجه الكثير من الدول العربية، مثل تحدي الأمن الغذائي الذي يظل واحدا من أخطر التهديدات للاستقرار الاجتماعي في الفترة القادمة، مشيرا إلى أن الدول العربية والجامعة العربية قد انتبهت، لهذا الأمر وخطورته وتبنت خلال قمة الجزائر الأخيرة استراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي العربي.
ونبه أبو الغيط إلى أن الوضع العالمي مليء بالمخاطر بقدر ما يوفر الفرص أيضاً، لافتا إلى أن العالم متعدد الأقطاب يطرح مساحات لتحقيق ما يُسمى بـ "الاستقلالية الاستراتيجية"، ويعني ذلك توسيع دائرة الخيارات والحركة أمام الدول والنظم الإقليمية المختلفة.
وتابع أبو الغيط «غير أن التعامل في بيئة متعددة الأقطاب وبهدف تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية، يقتضي في الأساس قراءة سليمة لاتجاهات التغير في التوازنات الدولية، كما يتطلب توازنا دقيقا في إدارة العلاقات، إذ أن له مخاطره المفهومة».
وقال أبو الغيط إن المنطقة العربية ليست بعيدة عن هذا التصور في التعامل مع التغيرات العالمية عبر توسيع مجالات الحركة للاستفادة من الفرص المتاحة، ومن دون أن تتورط في الانجرار إلى فخ الاستقطاب العالمي، مثلها في ذلك مثل الكثير من دول الجنوب التي عبرت عن مواقف واضحة ترفض منطق الاستقطاب خلال الأزمة الأوكرانية، مشيرا إلى أن القمة العربية الصينية - وهي حدثٌ كبير وغير مسبوق عُقد للمرة الأولى في الرياض في ديسمبر الماضي - مؤشر على هذا النوع من التفكير الاستراتيجي غير التقليدي.
وأكد أن أوضاع الأزمات تفرض على الدول وقادتها التفكير السريع والحركة السريعة والاستجابة اللحظية، غير أنها تقتضي أيضا الحكمة والقراءة المُدققة لاتجاهات الأحداث، وقبل ذلك كله، تعزيز العمل المشترك وتنسيق الرؤى مع الأصدقاء والحلفاء، لافتا إلى أن الدول العربية يمكنها مواجهة تلك الأوضاع الحافلة بالمتغيرات السريعة والمُستجدات الطارئة، برؤية موحدة وإرادة مشتركة وعمل جماعي متضافر.
وتطرق أبو الغيط، في كلمته، إلى قراءة الوضع العالمي، كما يرصده ويتابع تطوراته المتلاحقة وتغيراته الهائلة وتأثيرات هذه التغيرات على المنطقة العربية، ورؤيته لما يُمكن أن تكون عليه الاستراتيجية العربية في التعامل مع هذه التغيرات العالمية.
ولفت إلى ولوج عصر الأزمة الممتدة أو المستمرة، مضيفا "أن ما نواجهه اليوم على الصعيد العالمي ليس أزمة واحدة، ولا حتى عدة أزمات متداخلة، وإنما عدد من الأزمات المستمرة أو المستديمة، والتي وصفها البعض بالإنجليزية باستخدام تعبير Permacrisis، ويعني ذلك أن الأزمة لا تصير حدثا طارئا يجري تجاوزه، وإنما تعد واقعا مستمرا يتعين التعايش معه والتعامل مع تبعاته".
وأشار إلى أن العالم عبر من قبل أزمات اقتصادية خطيرة، مثل الأزمة العالمية في 2008 و2009، وأزمات جيوسياسية تُهدد الأمن والاستقرار، مثل الحرب على الإرهاب، ولكن هذه هي المرة الأولى منذ عقود طويلة، التي يُعاني فيها العالم كله تقريبا من عدد من الأزمات المتلاحقة المتداخلة، سواء على صعيد الصحة أو المناخ، أو الاقتصاد العالمي أو الأمن.
وأضاف أن الأخطر أن تلك الأزمات لا يُنتظر لها حل سريع أو مخرج عاجل، بل صفتها الرئيسية هي الاستمرارية لفترات طويلة، مع تبعات ممتدة وعميقة الأثر.
وتطرق أبو الغيط إلى استمرار الأزمة الأوكرانية واحتمال تزايد مخاطرها، مضيفا "أن الحرب الروسية - الأوكرانية، التي توشك أن تدخل عامها الثاني، ليست مرشحة لحسم قريب من وجهة نظري، ذلك أن سقف المطالب الأوكرانية، والغربية في واقع الأمر، ليس مقبولا من موسكو، وكل طرف لديه تصور بإمكانية إحراز وضع أفضل من خلال العمل العسكري، وبحيث يُحسن موقفه التفاوضي عندما يسكت المدافع، ويجلس الأطراف إلى طاولة الحل السياسي".
وتابع أبو الغيط «ليس صعبا علينا تصور التبعات الرهيبة لتحول الأزمة الأوكرانية إلى أزمة ممتدة، فالأطراف لا تتصارع عسكريا في ساحة الحرب فحسب، وإنما ميدان المعركة، في واقع الأمر، هو العالم باتساعه، سواء عبر سلاح العقوبات الاقتصادية التي لا تدفع ثمنها روسيا وحدها، ولا حتى الأوروبيين (الذين تألموا بشدة من الآثار العكسية للعقوبات)، وإنما توجد شعوب كثيرة عبر العالم عانت من آثار التضخم في أسعار الطاقة والغذاء جراء استمرار الأزمة».
ونبه إلى أنه مع خطورة هذه الآثار على الاستقرار والسلم العالمي، وعلى الأوضاع السياسية والاجتماعية داخل الدول، بخاصة النامية والفقيرة بينها، فإن التهديد الأشد وطأة وخطرا من وجهة نظره يتمثل في عودة الحديث عن استخدام السلاح النووي، بعد أن كان خطر استخدامه، أو حتى التلويح به، قد تراجع وتضاءل لأربعة عقود على الأقل.
وأعرب أبو الغيط عن اعتقاده بأن انخراط قوة نووية - هي روسيا - على نحو مباشر في نزاع عسكري بهذه الخطورة، هو أمر يضع السلم العالمي على المحك أكثر من أي وقت مضى، معربا عن الأسف لأن القوى المنخرطة في النزاع، لا تقدر الخطورة الشديدة التي ينطوي عليها احتمال استخدام السلاح النووي من أي نوع كان والذي يُمكن أن يأخذ العالم كله إلى مستوى آخر مروع من التدمير المتبادل.
ونبه أبو الغيط إلى أن كل يوم تستمر فيه الحرب الروسية - الأوكرانية يعني تصاعدا للخطر، وتصلبا أكثر في المواقف، ورهانا أعلى من كل طرف على استنزاف إمكانيات الطرف الآخر لإجباره على التراجع والتنازل، معربا عن اعتقاده "بأننا سنُجبر، وللأسف الشديد، على التعايش مع هذه الحرب وتبعاتها وآثارها لفترة ليست قصيرة".
وأشار أبو الغيط إلى الأزمة الجيوسياسية الأخطر في عصرنا، موضحا أن من ينظر لقدر الاضطراب الذي أثارته الحرب الروسية - الأوكرانية في الشبكة العالمية باتساعها، لابد أن يتحسب بصورة أكبر من أزمة أشد تعقيدا وتركيبا تتمثل في المنافسة، التي دخلت مرحلة أقرب إلى الحرب الباردة، بين قطبي العالم اليوم "الولايات المتحدة والصين"، وهما القوتان الاقتصاديتان الأهم والأكبر والأكثر تأثيرا في الاقتصاد العالمي، مضيفا "أن السنوات الأخيرة تمنحنا تصورا مخففا لما يمكن أن يُفضي إليه الصراع بين هاتين القوتين من اضطرابات ومخاطر لن ينجو منها أي مجتمع، ولن تكون أي دولة بعيدة عن آثارها".
ولفت إلى أن الولايات المتحدة صارت تُجاهر باعتبار الصين خصما، بل تسميها خصمها الأول في العالم، وهي تصوغ استراتيجية الأمن القومي الخاصة بها على هذا الأساس بهدف احتواء وتحجيم النفوذ الصيني المتزايد خاصة في منطقة المحيطين؛ الهندي والهادي.
وقال أبو الغيط «إننا أمام وضع بالغ التعقيد ذلك أن الصين هي أيضا الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، والصين لا ترغب، مثل روسيا، في مراجعة شاملة للنظام العالمي أو تقويضه، لأنها استفادت من هذا النظام في تحقيق نهضتها الاقتصادية الهائلة»، مشيرا إلى أن الصين تريد أن تلعب بقواعدها هي، وليس بقواعد يضعها الغرب أو الولايات المتحدة، وهي تسعى لاقتطاع مناطق نفوذ لها، خاصة في مجالها المباشر، وتوظف في ذلك أدوات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مختلفة.
ولفت إلى أن هذا التوجه الصيني بتحويل القوة الاقتصادية إلى مكانة عالمية ونفوذ يتعدى حدودها وجوارها، والذي بدأ في الأساس مع تولي الرئيس "تشي جينبنج" السلطة في عام 2012، يضعها على خط مواجهة مع الولايات المتحدة، مضيفا "أن البعض يرى أن هذه المواجهة بين القوتين العظميين حتمية، ولا مناص منها، خاصة وأن الولايات المتحدة لن تتخلى بسهولة عن موقع الصدارة، وستباشر بدورها إستراتيجية شاملة لإعاقة النمو الصيني، أو على الأقل إبطائه وتطويقه".
وقال أبو الغيط : في الفترة الماضية، رأينا القوتين تنخرطان فيما يُشبه الحرب الباردة، والبعض يدعو هذه العلاقة المعقدة بـ "التعاون التنافسي" أو "التعايش التنافسي"، ولكني أرصد مؤشرات مختلفة على تجاوزها مرحلة التنافس إلى الصراع البارد،خاصة على الساحة الاقتصادية"، لافتا إلى أن ذلك الصراع يظهر بصورة جلية في مجال التكنولوجية المتقدمة، وبخاصة قانون الرقائق الإلكترونية الذي تبناه الكونجرس والذي يحظر تصدير منتجات تكنولوجية بعينها للصين، بل ويسعى إلى ضم أطراف أخرى إلى هذا الحظر لإحكام الحصار على الصين.
وأعرب أبو الغيط عن اقتناعه بأن التنافس، الذي دخل مرحلة الصراع، بين الولايات المتحدة والصين، هو الأزمة الجيوسياسية الأخطر في العصر الحالي، وأنه سيعيد تشكيل النظام العالمي على نحو عميق وجذري، وستمتد تبعاته وآثاره إلى كل ركن من أركان المعمورة.
وتساءل أبو الغيط: هل فشل النظام العالمي؟، مشيرا إلى أن النظام العالمي يفشل عندما تختل قواعده الحاكمة، وتتعرض القوى المهيمنة عليه والضابطة لإيقاعه لنوع من الوهن أو الأفول، أو لتحد مباشر من جانب قوى أخرى صاعدة ترغب في أن تحل محلها وتأخذ مكانها.
وقال "شهدنا هذا من قبل، ومنذ الحروب النابليونية، مرورا بحربين عالميتين، وثالثة باردة"، وتساءل :هل نحن أمام لحظة مماثلة، وبحيث تكون الأوضاع التي وصفتها، من المنافسة والصراعات الجيوسياسية، مجرد مخاض لنظام جديد يتشكل؟،مضيفا "أنه سؤال مطروح لم تُحسم إجابته بعد"، مشيرا في هذا الإطار إلى أن التحدي اليوم أمام العالم أخطر بكثير من ذي قبل، فالتهديدات التي تواجه الأسرة البشرية في مجموعها غير مسبوقة، وهي تهديدات أخطر وأكثر اتساعاً وعمقا، ويستحيل مواجهتها في عالم منقسم إلى معسكرين أو إلى قوى متناحرة، وفي مناخ جيوسياسي متوتر وحافل بالصراعات بين القوى الكبرى.
ولفت إلى أن تحدي التغير المناخي، على سبيل المثال، يرتبط في الأساس بالتزامات متبادلة وأعباء تتحملها الدول جميعها لتخفيف آثار تغير المناخ، والحيلولة دون تفاقم ظاهرة ارتفاع درجة حرارة الكوكب.
وأشار إلى أنه في قمة "كوب 27" التي عُقدت بشرم الشيخ العام الماضي، تم الاتفاق على إنشاء صندوق للخسائر والتعويضات للدول المتضررة من آثار التغيرات المناخية، ولكن الأمر يحتاج إلى مفاوضات مُضنية من أجل تمويل الصندوق، وليس صعبا علينا تصور مدى صعوبة هذه المفاوضات في عالم حافل بالأزمات السياسية والانقسامات بين عواصم القرار الدولي.
ورأى أبو الغيط أن التغير المناخي ليس هو التحدي الوحيد، فهناك تشكيلة متنوعة من التحديات العالمية تتمثل في التغير التكنولوجي السريع وآثاره على المجتمعات، وتزايد التفاوت في الدخول بين الدول وداخلها وأثره على الاستقرار السياسي والاجتماعي، واحتمالات تفشي الأوبئة وما يرتبط بها من تهديدات للاقتصاد العالمي على غرار ما شهدنا في وقت جائحة كورونا.. والقائمة تطول.
ونبه أبو الغيط إلى أن فشل النظام العالمي في التعامل مع هذه الأزمات والصدمات، سيعد مؤشرا واضحا على قرب تقويض هذا النظام وأفوله، مضيفا "هناك من يرى أن هذا التغير في النظام العالمي قد بدأ بالفعل، وأننا نشهد بزوغ عالم جديد متعدد الأقطاب، وإن كنا لا نعرف معالم هذا العالم بعد، ولا نعلم الكثير عن قواعده الحاكمة والهياكل التي ستنظمه".
وأوضح "أن هذا الوضع يقتضي منّا النظر مليا في موقع منطقتنا العربية من هذه التغيرات العميقة وكيفية استجابتها لها"، مشيرا إلى أن أوضاع المنطقة العربية تعكس بدورها حالة من الأزمات المستمرة أو الممتدة، فالأزمات في سوريا وليبيا واليمن مستمرة منذ أكثر من عقد، مع كلفة بشرية واقتصادية واجتماعية هائلة على المجتمعات والدول، معربا عن أسفه لأن هذه الأزمات جذبت أطرافا دولية وإقليمية تُسهم في استمرارها عبر مد الأطراف المتصارعة بالمال والسلاح والدعم السياسي.
وأكد أبو الغيط اقتناعه بأن استمرار هذه الأزمات يُشكل نقطة ضعف خطيرة في منظومة الأمن القومي العربي، ليس فقط بالنسبة للدول التي تُعاني منها، وإنما للدول العربية جميعا، مشيرا إلى أن القوى الإقليمية تُمارس تدخلاتها غير الحميدة في منطقتنا عبر هذه الثغرات والجراح النازفة في الجسد العربي، وهي تجد لنفسها مواطئ أقدام، ومناطق نفوذ في أجواء الفوضى والاضطراب الأهلي، بل إن بعض هذه القوى لا يتورع عن إذكاء نيران الفوضى وتأجيج الصراعات الطائفية تعزيزا لمصالحه الخاصة، ودعما لنفوذه الإقليمي كما يتصوره.
ولفت إلى أن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يُمثل الأزمة الأطول والأخطر في تبعاتها وآثارها المحتملة على المنطقة، وما وراءها، وقد دخل هذا الصراع مرحلة جديدة خلال الشهور الماضية، موضحا أن السنة الماضية هي الأكثر دموية منذ عقدين في الأراضي المحتلة.
وأضاف أنه منذ بداية هذا العام سقط عشرات الشهداء الفلسطينيين برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي الذي يُمارس حملة قمع وحشية بإيعاز من حكومة هي الأشد تطرفا في تاريخ إسرائيل بشهادة الجميع، وهى حكومة برنامجها المعلن هو توسيع الاستيطان والاستيلاء على الأرض وحصار الوجود الفلسطيني في القدس وغيرها من مدن الضفة، منبها إلى أن هذه الأوضاع تنذر بما هو أسوأ وأخطر، سواء على صعيد الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، أو الأزمات الممتدة الأخرى.
وعبر أبو الغيط، عن إعجابه وتقديره لكلية الدفاع الوطني بسلطنة عمان ولأبنائها ومنتسبيها، مؤكدا قناعته الراسخة بأن المؤسسة العسكرية الناجحة هي تلك التي تفتح أبوابها للخبرات من كل اتجاه، ولا تبني بينها وبين العالم الخارجي الحوائط والجدران، بل الجسور وقنوات التواصل والفهم المشترك، مشيرا إلى أن العسكرية أبعد وأعمق من التخصص في الحروب والأمن، وهي تبني على خبرات من كافة المجالات والأنشطة الإنسانية، مستفيدةً من كافة الرؤى والأفكار.