الأربعاء 24 ابريل 2024

مَشْبوهٌ على الدوام!!!

مقالات8-2-2023 | 13:36

مَنْ كافور العبد الأسود؟!! ومَنْ سيِّدُه الحرُّ الأبيض...؟!! ومَن الخلْقُ ...؟!! أبقى مع الله لأحدٍ مُلْكٌ أو شراكةٌ...؟!! ... تلاشىَ الخلْقُ كلهم...!! أجلْ لم يكتب كافور الإخشيدي شعراً ولا نثراً، لكنه لخّص في هذه الكلمات القلائل السابقة ما حباه الله من علْمٍ عميقٍ ، وجسَّده سلوكاً في حياته، والعجيب أنَّ معظم الذين سمعوا بكافور الإخشيدي في هجاء المتنبي، لم يكلِّفوا أنفسهم مشقة البحث في تاريخه، ولم يحاولوا تجاوزَ هجاء المتنبي له فظلوا أسرى سِحْر شعره ...!! وإن خالف الحقائق التاريخية... فهل يعلمون عن كافور الإخشيدي مثَلاً ... أنه كان حاكماً لمصر والشام والحجاز كسب حب الرعية بعدله وحسن إدارته ..؟!! وهل يعلمون أنه كان يُدْعَى له في الحرمين الشريفين والمنابر الإسلامية المشهورة....؟!! وليس أدلّ على علوِّ شأن كافور من أن المتنبي نفسه قَصَدَه متكسِّباً، ومدَحه بأجمل قصائده ...!!!. ولولا أن المتنبي ما لبث أن ارتد عن مدْح محاسن كافور الإخشيدي - وهي جليةٌ للباحثين عن التاريخ الحقيقي - وشَغَل العالَم بهجائه الظالم له، أقول لولا ذلك لدام كافور في أذهان الناس مثلاً يُحكى ، ليس فقط في علوِّ الهمة والطموح والتنمية الذاتية، وفي حُسْن إدارة الحكم والاهتمام بشئون الرعية وحب المساكين، بل أيضاً في السماحة والتسامح، والتجاوز عن ازدراء الناس له وتعييرهم له بسواد لونه وعبوديته وخِصائه وقبْح شكله. 

 

أجل.. لقد جاء كافور الإخشيدي من بلاد النوبة أو السودان أو الحبشة على اختلاف المصادر قبل أكثر من ألف عام ؛ ليعطيَ أفضل مثالٍ في التعامل الإيجابي مع ما يسمى بعقدة اللون والدونية العِرْقية . ويقدّم درساً عملياً ، للذين يرون أن لهم فضلاً بلونهم ، مثلما يقدِّم درساً عملياً للذين يشعرون بالدونية بسبب لونهم. فإذا كان المتنبي قد تورَّط في العنصرية المقيتة ناسفاً الأخوَّة بين أبناء آدم اعتماداً على اللون والظروف الاجتماعية ، ووَصَم كافوراً بالعبودية والسواد ؛ فإن ذلك لم  يملأ قلبه بالحقد ، ولم يدفعه إلى قَتْل المتنبي ولو اغتيالاً ؛ لأنه كان يدرك الحقيقة النهائية : نحن كلنا جميعاً-على اختلاف ألواننا وأشكالنا وألسنتا-عبيدٌ متلاشون!! لكن ... ما الذي جعلني أطيل الوقوف أمام تجنِّي المتنبي وتسامح كافور الإخشيدي ؟!! لأننا متورطون بشكلٍ أو بآخر فيما وقع فيه المتنبي ...!! متورطون في استعادة أبياته الظالمة والإشادة بها !! متورطون في عدم ذكْرِ مناقب أبي المسك كافور الإخشيدي جهلاً أو تجاهلاً ..!! ولا ندرك أن أول جناية اُرتكبتْ في الكون كانت العنصريةَ ...!! نعم كما قرأتم ... العنصرية .. ألم يرفض إبليس السجود لأبينا آدم قائلاً لله عزَّ وجلَّ ( أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين ). أقول والذي جعلني أيضاً أطيل الوقوف.. هذا النص البديع للشاعر الجنوب أفريقي ( أوزوالد م. متشالي ) بعنوان " مَشْبوهٌ على الدوام " ، وجنوب أفريقيا التي عانت حتى وقتٍ قريبٍ من عنصرية الأقلية البيضاء لولا كفاح شعبها وعلى رأسهم الزعيم ( نيلسون مانديلا ) حتى استطاعوا إزاحة هذا النظام العنصري المقيت .. شاعرنا (أوزوالد م. متشالي ) من أصحاب البشرة السوداء ، لكنه لم يذكر ذلك في قصيدته ، لكن معاناته اليومية تعود إلى بشرته السوداء ، واشتباه الجميع فيه دونما سببٍ معقولٍ تجعلني أطيل التأمُّل فلا أجد مَحلًّا لشبهة، وتذكرني بموقفنا المتَّسق كمسحورين بالمتنبي في عنصريته تجاه كافور فلم نفكر مرةً في استحقاق كافور اتهامات المتنبي له أم لا..؟!! ، جاءت القصيدة البديعة " مشبوهٌ على الدوام ...!! " كأنها إحدى يوميات الشاعر يرصد فيها كيف يُعامل في المواقف البسيطة ...!! تبدأ القصيدة بالشاعر الذي يخرج من بيته صباحاً ، مستكملاً هندامه المكوَّن من قميص أبيض وبذلةٍ وربطة عنقٍ ... وليس في ذلك ما يشين ...!! لكن الشاعر يستعرض ثلاثة مواقف تستثير استغرابك دونما يذكر علَّةً لذلك : يرصد الموقف الأول استيقافه من قبل رجلٍ ( لم يذكر أنه شرطيٌّ ) لا يكفيه فحْصُ هويَّتِه ، بل يتفحصه ملياً ثم يأمره ( لاحظْ يأمره ) بالانصراف ، ثم يرصد الموقف الثاني محاولة الشاعر دخول بناية ما إلا أن الحارس يُعيق الدخول ، ويأتي الموقف الثالث صادماً ... لماذا ؟!! لأنه صادرٌ من مواطنةٍ مثله حيث تتحوَّط مخافة أن يخطف حقيبتها فهي تعرف بحدْسها أنه لصٌّ رغم هندامه ..إنها الشكوك المبنيَّةُ على اللاشيء ... سوى سواد لونه !!! وإن لم يقل ... فإلى القصيدة :

 ( مشبوه ٌ على الدوام ...!!! )  أنهض في الصباح ...  ألبس مثل سيِّدٍ محترمٍ : قميصاً أبيض ... وبذْلةً ... وربطة عنق !!!

أسير في الشارع ؛ ليقابلني رجلٌ يأمرني أن أريَه وثائق وجودي ... فيتفحصني ملياً ، ثم يأمرني بإيماءةٍ من رأسه بالانصراف...!!

 أدخل بهو البناية ؛ فيغلق عليَّ الطريق حاجبٌ ... يسألني ماذا تريد ...؟!!! 

أجرجر أقدامي على الرصيف جوار " مدامٍ "... فتنقل حقيبتها من جانبي للجانب الآخر ... وتنظر إليَّ بعينين تقولان: ها...ها...ها... أعرف من أنت !!! تحت هذي الثياب يتكتك قلبُ لصٍّ ...!!

 

 

Dr.Randa
Dr.Radwa