وسام مجدي - قاص من الإسماعيلية
تلك الأصفار المشؤومة عن يمينٍ وشمال، تمركزها يساراً لا يعني شيئاً ووجودها يميناً يعني أملاً طفيفاً أتعلق به كتعلقِ رضيع بثدي أمه، صفرٌ تلو الآخر تلو فاصلة تلو صفر آخر في ورقة تسلمتها منذ قليل من معمل التحاليل الذي اعتدت مجيئه بعد عام منذ زواجنا أنا و"فاطمة"، أفضل السنون تلك التي نعيشها مع من نحب دون أناس يعكرون صفو تلك السنين، ولكنهم يأبون ذلك فيدخلون حياتنا غير خائفين ولا مترقيبن ودون أي ذراتٍ من الحياء، ينفثون سمومهم كأفاعي تتلوي علي رمال الصحراء الحارقة ويدخلون بيوتنا كي يفرقوا بيننا كأنجح شياطين أبليس في يومه، ولكني علي أي حال كان لا بد أن أستجيب لسمومهم لعلها تكون دواء لحالتي، كان لابد أن أعرف سبب تأخير فرحتي أنا وفاطمة.
سلمتني نتيجة التحاليل ثم أفرجتْ شفتيها عن ابتسامةٍ اعتيادية تبديها لكل من يدخل إليها من المرضي أو أقاربهم أو حتي مديرها في العمل كي يصفح عنها أخطاءها أوتأخيرها، أتبعتْ ابتسامتها بكلمة "للأسف" مستحضرةً مكنون شخصية الحزين علي حالتي :
- لا يوجد تحسن في حالتك.
أطلقتها دون عابئة بكم الآهات التي تصرخ بداخلي الآن، ترسم بشفتيها المنفرجتين سكينا يقطع حبال الأمل بداخلي، أخبرتني ذلك ثم ذهبت في الحديث مع صاحبتها التي بجوارها وتركتني وحيداً في تلك الصحراء لأتلقي سم الأفاعي مرة أخري، اتخذتُ خطوات للخلف أتحسس أقرب مقعد فارغ في أحد جنبات المعمل الذي بات مرضاه نسورا وصقورا وغرابيب سود ترمقني منتظرة نفاد أنفاسي الأخيرة كي تحط مخالبها فوقي؛ عدا ذلك الرضيع الساكن فوق كتف أمه تضحكه الملائكة فتتهلل أسارير وجهه بابتسامة هادئة تأخذني من تلك الصحراء إلي جنة خضراء تدور فيها كوؤس من لبنٍ مصفًي يدورها أطفال يتزعمهم هذا الرضيع طائرا بجناحين من حولي... يغدق عليً من قبلاته ومن اللبن المصفي، أشرب منها حتي أرتوي فأري "فاطمة" تبتسم علي مبعدة كأجمل حور الجنة... تضحك وكأن أملها في الحياة قد تحقق... تقترب فأقبل جبهتها... يطير الرضيع حولنا فيأخذ من يدي ويضعها حول فاطمة... أحتضنها فأشعر فرحةً لم أشعرها من قبل، إحساس الحب في الرؤية الذي يختلف عن الحقيقة، أضمها أكثر فيجتمع الأطفال من حولنا يرفعون أكفُهم بآيات " المال والبنون زينة الحياة الدنيا "، أحملها وأدور بها جنبات الجنة فتتجلي الشجرة لتفسد فرحتنا الغامرة... نأكل منها فنهبط درجات فدركات فتتجسد عناصر الصحراء مرة أخري، يستيقظ الرضيع فزعاً صارخاً بعد أن أدخلت الممرضة سناً تحت جلده لتمتص من وريده دماء تسري في عروقه الخضراء اللينة، أتدارك أني ما زلت هنا، ترمقني موظفة الاستقبال القابعة مكانها وتتساءل عيناها " لماذا ما زلت جالسا ؟ " يرتفع فوقها برواز تتشكل كلماته " يجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير"، تتغامز هي وصاحبتها وتضحكان فتشبهان صاحبتي "فاطمة" اللتين لم تتزوجا حتي الأن وسبقتهما هي، غيرة النساء التي تتحول حقداً، تنالان من عجزٍ سيطر عليً، أزوسبرميا تسد قنوات الاتصال عن مياه الحياة فتخنقها أو تخرجها وقد غرق كل من يسبح فيها من رؤوس الحياة وأذيالها.
تموت مسببات الحياة وتموت معها آمالي وتقل تجاربي مع فاطمة، يتجسد الإحباط مارداً بيني وبينها، نجلس سوياً علي مائدة الهوي ليلاً دون طعام، مائدة فارغة من أشهي الأكلات، عناقٌ باهتٌ بعد سفر قصير، معارك طاحنة تفوز الأقدار في أغلبها وأعلن استسلامي في البقية، أرفع رايتي البيضاء منكساً رأسي في أرض المعركة الخصبة، في طينها اللازب الذي تكفيه بذرة واحدة لحصد النماء، ترفض الأرض استسلامي فترفع من رأسي وتقبل هامتي فنهرب إلي نومٍ تغلب الكوابيس فيه الرؤي وتقطعه أنات فاطمة وبكاؤها المتهدج في سحر الليل.
أحاول الوقوف مرة أخري لأودع تلك الساحة الشاسعة التي يطوقها الجمهور من كل ناحية واقفا في وسطها كمصارعي روما القديمة... تفتح الزنازين فينطلق كل مفترس من الحيوانات نحوي لتنهش عظامي، تدور بي الساحة من جديد وتنقلب أرجاء المعمل رأسا علي عقب فأهبط علي مقعدي وَهِنُ القوي... تنسدل ستائر سوداء علي عيني لا أري بعدها شيئا.
حاولت التمييز بين الواقفين حولي منهم من يرفع سبباته نحوي مهللا، ومنهم من يدلك أنفي بقوة، ومنهم من يحاول رفع قدمي إلي أعلي، أسمع كلماتهم كفقعات الماء وتتداخل وجوههم مع لمبات السقف المضيئة كرعد السماء في ظلام الليل فتصنع منهم عفاريت كنت أراها عندما ترحل فاطمة إلي أمها لتبيت معها ليلة... تسكن لمبات السقف تدريجياً وتتضح وجوههم، كلهم كانوا جالسين هنا منذ قليل حتي موظفة المعمل وصاحبتها تقفان، من خلفهما ألمح ذلك الرضيع فوق كتف أمه وقد هدأت أعصابه ينظرني في غرابة كأنه يسألني أكلً هذا من أجلي؟ بلي يا صغيري أشتاق لمثلك يحمل اسمي ويرثني من بعدي، يحملني حينما أكون في عمر أبي الكهل ويكون عونا لزوجتي من بعدي، أريد مثلك كي تتوقف تلك النظرات القاتلة الموحية بالعجز، كي لا تفرق بنا السُبل أنا وفاطمة فجميع الأفاعي لن تتركنا معاً دونك، سيظلون يرسلون فحيحهم في أذن فاطمة حتي تستكين، وما أسهل فاطمة! وما أقوي مبرراتها لفعل ذلك.
قطع حديثي أنا والرضيع صوت قوي يطالب الجميع بالتنحي عني وترك مساحة للهواء كي يسلك طريقه لرئتي المخنوقتين كرؤوس الحياة وأذيالها بداخلي... يطلب منهم أن يساعدوه علي حملي للجلوس مستويا... تمتد أيدي من كنت أظنهم طيورا جارحة وحيوانات مفترسة... كلٌ يحملني من أحد أطرافي المرتخية جانبي... أحاول أن أساعدهم فأتماسك لأجلس علي الكرسي... تثبت رؤياي وتتضح معالم الطبيب الواقف أمامي وسط المرضي والعاملين بالمعمل، كان رغم صوته القوي في ريعان شبابه، تليق وسامته علي معطفه الأبيض وعلي إطار نظارته الطبية... حاول الاقتراب مني ليربتْ علي كتفي إلا أنني نهرت ذراعه الممدودة نحوي، كنت حينها حانقاً علي كل شيء... انحني الطبيب وأتي بنتيجة التحليل الملقاة علي الأرض ثم تفحصها قليلا قائلا :
- سلامتك يا أستاذ كريم.
عَقًدتُ حاجبي وزاد حنقي شدةً علي هذا المكان الكئيب وقمت لاعناً تلك الزيارة وكل من أوصوا إليً بهذا المعمل ثم هممت بالخروج إلا أن شهيقاً طويلاً ثبتني مكاني مرة أخري وألقت إليه وجوه كل الواقفين بالاً حتي الرضيع، لم تكن إلا موظفة الاستقبال التي أسرعت إلي مكتبها وأحضرت نتيجة أخري مرددة كل كلمات وتوسلات الأسف التي سمعتها في حياتي والتي لن أسمعها ثانيةً، رمقها الطبيب شذرا وتبدلت وسامته غضبا، كانت يدي أسرع من يده في تلقِي النتيجة... تتبدل الأصفار ملايين من مسببات الحياة... يعجز لساني عن الثناء والحمد وتتبدد كل مشاعر الحنق... رذاذ الدمع يتطاير والأحداق تأبي أن تمسكها... تسمو بداخلي روح أخري غير التي كنت عليها منذ قليل... تتفتح أمامي طرق من نور تقف في نهاية كل منها فاطمة منشدة لحن الحب ومنتظرة قدومي فأتمني لو يهبط براق من السماء ليأخذني إليها كي نحقق تلك الرؤي ونوقف تلك الكوابيس، كي نقتل أفاعي الحقد اللعينة وندفن سُمها في أراضين بعيدة حتي لا تؤذي آخرين مثل كريم وزوجته الذي سيأتي بعد قليل ليتسلم عذاباً آخر يُدعي أزوسبرميا.