رشيد بني عدي المغرب - قاص من المغرب
كنت أعتقد أن العالم لا يتعدى حدود جدران بيتنا الآيلة للسقوط، لكنني صدمت حين وجدت نفسي يوما خارج البيت في غفلة من أمي، لم أصرخ كعادتي بل سرحت بنظري حتى الأفق البعيد، هناك حيث تتماوج الجبال كأنها سحب كثيفة من الغبار الرمادي، لم أكن أرى سوى السهل العريض والهضاب المسلوخة. بدت لي القرية جرداء قاحلة لا روح فيها. لا أري أمامي سوى جبال صماء جرداء، وبيوت مهترئة كبيتنا، أغلبها انهارت أجزاؤها وسقطت ركاماً بجانبها، قررت أن أطوف ذلك السهل العريض برجلاي الصغيرتين لكنني دائما ما أفاجأ بأمي تحملني وتعيدني إلى الداخل محذرة إياي بأن الغول الذي يأكل الأطفال يسكن تلك الجبال المخيفة.
لم تنطل علي خدعة الغول، فظللت لأيام أطوف ذلك السهل العريض رغم تحذيرات أمي المتكررة. أحيانا أطوفه وحيدا، وأحيانا أخرى رفقة والدي نسرح أربعة خرفان تبدوا عظامها واضحة للعيان من شدة الجوع.
لم أتجاوز سن الخامسة حين لاحظت غياب والدي المفاجئ عن البيت، أسأل أمي كل يوم عن سبب غيابه، فتجيبني دائما بنفس الجواب: ذهب عند الله، لم أكن مقتنعا بجوابها فأظل أزعجها بأسئلة كثيرة: أين يوجد الله؟ متى سيعود أبي؟ لماذا لم يأخذنا معه؟ و لا تجد أمي المسكينة غير أن تلوي عنقها عني وتمسح دمعتها وتسكتني بقطعة خبز حافية، أنسى بها أمر والدي الذي لسعته أفعى سوداء في ليلة ماطرة أودت بحياته قبل وصوله للمستشفى الذي كان يبعد عن البيت بعشرين كيلومترا.
في سن السابعة، وعلى غرار باقي أطفال القرية، التحقت بالمدرسة التي لم أدرس فيها سوى خمس سنوات لم أتعلم منها الشيء الكثير، قبل أن ترسلني أمي لأعمل في المدينة. هكذا تبدأ حياتنا إلا من رحم ربي وعاش في جلباب أبيه.
ثلاث سنوات من العمل المضني كانت جيدة بالرغم من قسوة مشغلي علي، لكني على الأقل أجد مكاناً أنام فيه، وطعاماً أسكت به جوعي رغم شحه، والأهم مبلغا ماليا أرسله لأمي لتنجو به من قسوة الحياة في القرية، كنت مطيعا لمشغلي أنفذ كل ما يأمرني به، أتعرض للضرب أحيانا، لكن كل شيء يهون في سبيل تحقيق حلمي البسيط، وهو أن أتعلم جيدا ثم أفتح دكانا خاصا بي، أعمل فيه وحدي. وحين تتحسن وضعيتي، تأتي أمي الوحيدة لتعيش معي وأرتاح. وهل هناك حلم أبسط وأحقر من هذا؟ لكن الحياة الملعونة أبت إلا أن تقلب حياتي المتواضعة والفارغة رأسا على عقب وأنا لم أكمل السادسة عشر من عمري بعد، ستة عشر سنة كانت كافية لأتمنى الموت أو العودة لرحم أمي. أهون لي من هذه القسوة والبشاعة التي رمتني فيها الأقدار.
أطلق سراحي منذ أسبوعين، بعد أن قضيت ثلاثين سنة في السجن، سنوات كان بالإمكان أن أتجنبها لو صرخت في وجه الشرطة أنه حاول اغتصابي لهذا قتلته دفاعا عن شرفي، لكنني لم أفعل. لا أدري لماذا؟ كل ما فعلته حينها أني بقيت صامتا، لم أتفوه بأي كلمة ورضيت بالحكم. كنت أبكي كلما تذكرت أمي، لكن أبدا لم أنطق بكلمة واحدة.
طوال ثلاثين سنة لم أصدر صوتا، ولم أحدث أحدا، اللهم بعض التنهيدات التي تخرج قسرا. كنت أعتقد أنني قادر على الاستمرار في صمتي المهيب هذا ، وفي عزلتي المريحة هذه حتى بعد خروجي من السجن، لكن إحساسا بأنني بدأت أفقد السيطرة بدأ يلعب بقنة رأسي كما يفعل الخمر. والحق أن ذلك يحدث حقا! بدأت أفقد السيطرة على أعضائي، ليس يداي المرتعدين فقط، بل لساني وشفتاي المرتجفتين، كثيرا ما أجد نفسي أتكلم بصوت مسموع، معتقدا أن لا أحد يسمعني، وأن كلامي جزء من ثرثرتي الداخلية التي لا أسمح لها عادة أن تصل إلى مسامع الغرباء. أعلم أنهم لا يبالون بما أقول، مجرد متشرد فقد عقله! وما المفاجئ في ذلك، فأمثالي كثر.
لكن يبدوا أنني صمت كثيراً، أكثر من اللازم، ما جعلني أرغب في الثرثرة، أن أنهي هذه الحرب الضارية التي نشبت بداخلي منذ سنوات، أن أخرج هذه الصرخة التي تنفجر باستمرار في أحشائي. يبدوا أنني آذيت نفسي كثيرا، أهملت جسدي، أضحت أظافري تضاهي أصابعي طولا، وتضاهي المحراث القديم صدأ، كما باتت لحيتي تغطي شعر صدري، وشعر رأسي وجد الفرصة ليثور ويتمرد ويتعدى حدوده السابقة، ولا أنكر أن بعض المخلوقات الغريبة قد باتت تسكنه، إذ بث وكأني غابة منسية بملابسي الرثة هذه، وهذه المخلوقات الصغيرة تظن أنني جدع شجرة كبيرة، أو ربما أبدوا لها كجيفة نفق ولم يتحلل بعد.
أعلم أن أعضائي لن تغفر لي إهمالي هذا، لكني مجبر أن أكون هكذا، مجبر أن أصمت، أن أنعزل، أن أموت آلاف المرات دون أن أدفن.
من يبالي؟