منذ ميلاد الحب بين قيس وليلى نراه حبا جارفا عارما، وقد اهتم الجامي بإبراز علاقة الحب بين قيس وليلى من خلال الإطار الصوفي الذي تناول فيه أحداث القصة
كان حب ليلى طريق قيس إلى الله.. وقد اجتاز في هذا الطريق ما يجب أن يجتازه كل حب صوفي، ومر قيس في طريقه للوصول إلى قلب ليلى بثلاث مراحل
في قصة الجامي تتزوج ليلى من ورد، ولكنه لم ينل منها شيئا فظلت عذراء على زواجها، وهذا أمر انفرد به شعراء الفرس ولم يرد في الكتب العربية
يمثل قيس في شعر الفرس شخصية المتصوف في آرائه الاجتماعية فهو في عزلته الدائمة في الصحراء في عبادة، قد ألف الوحوش وألفته.. فهي له طيعة لأنه ولي من الأولياء
موقف قيس العذري كموقف قيس الصوفي في احترام عاطفة الحب والسمو بها، وإن كان المتصوفة قد ذهبوا إلى أبعد من العذريين في هذه السبيل
يعد تناول الفرس لشخصية قيس في إطار قصص فارسى خير شاهد على التواصل والتقارب والتمازج بين الحضارتين العربية والفارسية وتأثر الفرس بالأدب العربي تأثرا كبيرا حتى أن خمسة من خيرة شعراء الفرس يتناولون قصة قيس وليلى.
وأول من عالج هذه القصة الشاعر نظامي الكجوي (599هـ) ثم الشعراء: سعدي الشيرازي (ت 691هـ) ثم خسرو الدهلوي (ت 725هـ) ثم عبدالرحمن الجامي (888 هـ)، ثم الشاعر هاتفي (ت927هـ) وأخيرا الشاعر مكتبي ومن سواهم.
وسنكتفي هنا بعرض القصة كما نظمها عبدالرحمن الجامي وهو خير من عالج القصة في الأدب الفارسي.
هذا.. ومنذ ميلاد الحب بين قيس وليلى عند الجامي نراه حبا جارفا عارما ولكنه حب إنساني عفيف.. وقد اهتم الجامي بإبراز علاقة الحب بين قيس وليلى من خلال الإطار الصوفي الذي تناول فيه أحداث القصة، فالصوفية يرون أن الوصول إلى الله عن طريق المحبة الإنسانية يكون من طريقين: إما فتاة جميلة طاهرة العفة لأنها جميلة الجسم والروح، وإما الوصول إلى الله عن طريق حب شيخ الطريقة الهرم. وقد اختار جامي الطريقة الأولى ولذا نراه يقول:
-فيا حبذا من غسل ضميره من كل الأوشاب بحب فتاة جميله مرضه، وربط قلبه بمليحة ذات دلال خبيرة بمجالس الأنس أذيالها طاهرة من الأغبار، كأذيال الورد الممزقة بالأشواك.
وهكذا سار قيس في حبه الإنساني، ثم الصوفي لدى شعراء الفرس، فكان حب ليلى طريقه إلى الله، وقد اجتاز في هذا الطريق ما يجب أن يجتازه كل حب صوفي.. ويمكن أن نجمل المراحل التي عبرها قيس للوصول إلى قلب ليلى في ثلاث:
المرحلة الأولى: ونطلق عليها مرحلة الأثرة وهي التي كان يطلب فيها الحب إرضاء لذاته وعاطفته حتى صادفه حين أحب ليلى.
والمرحلة الثانية: مرحلة الإيثار: وهي أن ذلك الحب حب صادق، فعند الصوفية أن كل حب إنساني عف بطبعه، و إلا لم يكن إنسانيا فصار حيوانيا. وما دام عفا فإنه يؤدي إلى إيثار المحب للحبيب على نفسه، وهذا هو ما فعله قيس، حتى كانت عاطفته في ذاتها أغلى عليه من كل غاية وكل متعة، فكان محبا لذات الحب.
والمرحلة الثالثة: هي مرحلة الفناء: وهي خَاصَة الصوفي وقلما يهتدي إليها الإنسان وهي تحتاج لجهاد طويل ومثابرة وفكر وزهد ونفاذ بصيرة وفيها يسائل المحب نفسه فيقول جامي في منظومته:
"حينما أسفر الصبح عن أنفاس كأنفاس خمر عبس، ونشر علم غلالته الصفراء، وحملت أنفاسه مسكا خالصا بثته في الأشجار الخضر والزهور اليافعة وبسط رايته المزركشة. حين ذاك تخلص قيس من فم تنين الليل
وأمسك عن إرسال الآهات والزفرات، وصاح للرحيل بناقته الأليفة الأسفار وسلك سبيله دون تفكير واع وقبل أن يبصر دارها أخذ يناجي خيمتها بهذه الأشعار:
"يا قبة النور ومطلع الشمس! في ظلك مخدرة، ليلى نور عيني أنت لها دون حجاب، إن عيوني رطبة بالدمع كأدرانك حين يبالها المطر، فترحمي لبكائي ونحيبي، وأحسرى حجابك عن طلعة حبيبي، أنا منك أيتها الجميلة كأحد أوتادك لا يحملني عن الانصراف عنك أن يصيب رأسي حجر.
لقد أمضيت ليلى يحترق الفؤاد باكيا. فيا ويلتي لو مر يومي مثل البارحة، أنا كما ترى محترق الكبد عطشا وليلى ماء حياتي– فأتح أن تجود ليلى على شفتي بقطرة تطفئ نار ظمئي. هأنذا من حبها في نار، وهي في نشوة الطرب رضية الفؤاد هينة القلب.
هذا.. وقيس في حبه هذا ذي الطابع العذري يظل يتأمل في حاله تأمل الصوفي فيرى أن الجمال الجسدي ليس أهلا للهيام كله، وأنه إنما يهيم من ليلى بجمال روحها وأنه لا يقصد إلى حوزتها للزواج كما يفهمه الناس، لأنه يزهد في مثل هذا الزواج وإنما يريد أن يتأمل في جمالها الصوفي.
هذا.. وفي قصة الجامي تتزوج ليلى من ورد.. ولكنه لم ينل منها شيئا فظلت عذراء على زواجها، وهذا أمر انفرد به شعراء الفرس ولم يرد في الكتب العربية. وهو يعد صدى لفكرة الزواج الصوفي التي انتشرت في المجتمع الإسلامي منذ القرن الرابع الهجري.
هذا.. ويمثل قيس في شعر الفرس شخصية المتصوف في آرائه الاجتماعية فهو في عزلته الدائمة في الصحراء في عبادة، قد ألف الوحوش وألفته، فهي له طيعة، لأنه ولي من الأولياء وهو بصحبتها ينفر من الإنس، لأنها نقية الدخائل، لا تحمل حقدا، ولا تسعى بالضغينة كالناس. وهذا جانب صوفي كثير ما يصورونه في أدبهم، ويجعلون قيسا حاملا لآرائهم فيه. فالصوفيون يكرهون المجتمع، ويحذرون الناس، ويعتقدون أن الشر في هذا العالم طاغ لا سبيل إلى التغلب عليه. فخير لمن يطلب السعادة أن ينشدها من طريقها المأمون، في العزلة والعبادة. وهذا جانب سلبي من فلسفتهم. ولكنهم يحملون به على من يرتمون على أعتاب الملوك، وعلى من يذلهم الطمع، ويسخرون ممن يضحون بمثلهم وخلقهم إرضاء للسلطان. وفي هذا الهجاء الاجتماعي ناحية إيجابية للأدب الصوفي، وإن كانت لم تثمر كثيرا في المجتمع الإسلامي، لأنها اتخذت طابعا ميتافيزيقيا محضا.
وتتضح هذه الآراء الصوفية في دعوة قيس الصوفي للقاء الخليفة، وفي خلال هذه الدعوة نفهم من مجرى الحديث معنى كلمة الجنون والعقل عند الصوفية، فالجنون مدح، ثم مِنَ الحوار بين رسل الخليفة وقيس، ومن مسلك قيس في محضر الخليفة يتضح جانب السخرية، سخرية قيس من أطماع المناصب، ومن ضعة النفوس المتكالبة الشرهة، يقول جامي:
"أضحى معمر الخربات مشهورا بحديث العشق، مهجورا ممن شهروا بالعقل.. فاشتدت رغبة الخليفة في لقائه، فكتب إلى عمال ولايته أن لن يسمع من امرئ عذر إذا لم يرسل إلى الخليفة من دياره ذلك العاشق العامري النسب، اللبيب الأريب الذي اشتهر بلقب المجنون"..
"فأعملوا الطلب في كل جهة.. حتى وجدوه على قلة جبل في مجلس خطير الشأن، له من شعره فوق قمة رأسه مظلة كمظلة الملوك. وهو مثل الخليفة وسط جيش من الحيوان، في حلقة محكمة من حوله، وهو طيب الخاطر بمجلسه.. بينما استغنى بها عن صحبة الإنس، لأنها ليست كالإنس فهي نقية الدخيلة، لا تحمل حقدا".
وكان قيس وليلى يتبادلان الرسائل، ويبحث كل منهما عمن يوصل رسالته للآخر، وهذه الرسائل في مضمونها وطريقة إرسالها ذات طابع صوفي، فهي تصف قيسا يطيل ترداد اسم ليلى، بوصفه غذاء روحه لا جسده، ويعني هذا في خيال الصوفية أن قيسا كان يطيل التفكير في اسم المحبوبة كي يروض نفسه على معانيه الروحية وبطول التفكير والترداد ينتقل قيس من مرحلة الإيثار التي تحدثنا عنها إلى المرحلة الثالثة، مرحلة الفناء في الله، فتصير ليلى حينئذ رمزا يرددها ويقصد بها المحبوب الأعظم، كما يقول المحب: "القمر" ويقصد بالقمر وجه الحبيب.. وإليكم كيف أرسلت ليلى رسالتها مرة إلى قيس، ومن حوارها مع من يحمل الرسالة نفهم حال قيس التي وصفناها في الصحراء:
"فرغت ليلى من رسالتها، وخرجت في قوامها الممشوق من خيمتها تبحث عن رسول.. وفجأة انكشف غبار الطريق عن عربي على راحلته، ليس بريح وهو أسرع من قائظ الريح.. فلم يكد يرتد إليها الطرف حتى أناخ راحلته على حافة عين الماء.
تقول له ليلى:
من أين أنت؟ فإني أجد منك طيب ريح الصداقة.
يجيب:
من أرض نجد الطاهرة، وغبار أرضها كحل الأبصار . فمن تلك الأرض نبتت زهرتي، وفيها تفتح كالوردة قلبي.
تقول له ليلى:
هناك بائس ممر الحلق، لقبه المجنون واسمه قيس، يدور في تلك الديار ضالا مكروبا، عليه مظهر الحداد.. ألك به معرفة؟ وهل لك من سبيل إلى التحدث إليه؟
يجيبها الأعرابي:
نعم، فأنا له صديق، مستظل بكنف وفائه، مشمر عن ساعد الجد في محبته، وطالما تحدثت إليه أسري عنه الهم، وأدعو الله أينما كنت كي يسكن خاطره.
تجيبه ليلى:
وكيف حاله؟
يجيب الأعرابي:
"دائب على إرسال الأنات من العشق، دائم النفور من الناس، فار مع الوحوش، مستريح إليها، فحينا يتلو من القوافي ما يلهب الصخور، ويسيل على الجلاميد من حرقة كبده ما يصبغها بالدم، وحينا يهذى في ركن غار، وعلى وجهه من الأسى غبار".
تقول ليلى:
أو تعرف – أيها العاقل – من هي التي وقع في حبال حبها؟
يجيب الأعرابي:
نعم، من أجل ليلى، يرسل كل لحظة من ناظريه سيلا. فليلى حديثه حين ينهض، وليلى همه حين يبكي، وهذا الاسم غذاء روحه، اكتفى به عن غذاء الموائد، وهو كل ما يجري على لسانه، وهو غايته من لسانه.
تقول ليلى باكية:
أنا طلبة روحه، واسمي هو الذي يجري على لسانه، ومن لوعتي احترق صدره، وعلى ذكرى طاب بستان خاطره، وأنا التي أشعلت ناري بفؤاده، وأضاءت بنوري جوانب عيشه، وأنا كذلك التي صيرت أنحاء روحه خرابا وشويت أضلعه على حر جمري.. ولكنه يجهل ما أنا عليه من أمر يشرف بي على الهلاك، ومن لوعة تلفح كبدي.. وروحي فداك إذا استطعت أن تنهي إليه من أخباري. فمعي رسالة مسطرة بدم القلب، فناشدتك بماله عليك من حق الوداد ألا حملت مني هذه الرسالة، لتسلمها إليه يدا بيد. فقم بما أنت له أهل من دين الوفاء، وعد إلىَّ بجواب الرسالة، وستحمل إليه أسى، وتعود بلوعة، وستسلم إليه شمعة، وتأتي إليَّ بمصباح".
هذا، والشموع والمصباح، وغذاء الروح رموز صوفية في طريق الصوفي إلى الجنون الأقدس أو الفناء في الله.
ويتم آخر لقاء بين ليلى والمجنون، وفي هذا اللقاء قد وصل المجنون إلى مقصده الأسمى من الفناء في حب الله، وكانت ليلى هي سبب هذا الفناء، ولكن في مرحلة الوصول هذه تصبح ليلى لا قيمة لها عنده، ويتحول قيس عنها تحولا عجيبا، فهي لم تعد سوى وسيلة وصلته إلى الغاية، فأصبحت شيئا ماديا حقيرا، وصورة إنسانية تجاوزها المحب الفيلسوف. وهذا هو الحب الصوفي، وهو في الحقيقة صدى للدعوة الأفلاطونية والأفلوطينية.
وقيس هنا تكتمل شخصيته الصوفية المثالية، فلم يعد سوى رمز. وهكذا يتم هذا اللقاء الأخير الذي لم تفهم ليلى مغزاه الصوفي في خيال الجامي، فتنعي قيسا على أثره وهو حي، لأنها فقدته، فهو لم يعد يعبأ بشيء مادي ولو كان هذا الشيء هو ليلى.. وإليكم وصف جامي لهذا اللقاء الأخير بين قيس وليلى:
"عادت ليلى في طريق سفر لها مع قومها إلى ديارها، ونزلت في المنزل المبارك الذي كان قد حل به قيس، حتى إذا استراح أهلها في الظهيرة نهضت كأنها الشمس المضيئة المحيا. وخرجت في زينتها بوجه كالجنة،
وتهادت كالحجلة حتى وقفت على المجنون، فوجدته منتصبا كالشجرة. استرسلت شعوره متشابكة كأنها الأغصان، واتخذ طائر من رأسه عشا، وباض فيه. فبدأ شعره مهدلا كأنه تمثال جسده نقاب أسود من المسك مرصع بجواهر البيض. وفقس البيض عن صغار تطير وتغرد بألحان العشق. وحدقت ليلى فيه فوجدته ولهانا قد خرج من نطاق العقل، ولم تبق منه فيه ذرة. واستغرق في العشق من رأسه حتى القدم، عيناه إلى الأرض. تلتمعان كالأنجم الشاحبة التى أخذت تتوارى في ضوء الشمس.
وتدعوه ليلى بصوت خفي فلا يجيب، وتردد الدعاء. ثم يقول بصوت مرتفع:
يا من ديدنه الوفاء، انظر إلى من جبل على وفائك.
ويجيب قيس في لهجة الذاهل في وجده الصوفي:
من أنت؟ ومن أين؟ عبثا ما قدمت إلى.
تجيبه ليلى بصوت مرتفع:
أنا مرادك: وأمل فؤادك، وبهاء روحك: أنا ليلى من أنت بها ثمل، وأنت هنا أسير قيد غرامها.
يجيبها قيس:
"إليك عني فقد أشعل عشقك اليوم في جوانحي نارا تلهم أرجاء الأرض، فأمحت من نظري مادة الصورة، ولن أتصيد بعد رؤية الصورة، فعشقي سفينة سبحت في موج الدماء، ثم نفت عنها العاشق والمعشوق، وفي أول العهد بالعشق، حين تأخذ سورة جذبة العشق بنفس العاشق، يتجه بطبعه إلى القضاء على ميوله، ويولي وجهه شطر الحبيب، ناشدا في رضاه عوضا عن العالم، حتى إذا اشتدت به جذبة العشق برأ من كل وسواس، ليسقط في موج محيط العشق، ويفقد وعيه على تلاطم أمواج العشق. ثم يشد الرحال كلا العاشقين عن الآخر، فبعد أن كانت أنظار كل منهما خالصة إلى صاحبه بعض الوقت، إذ أنظاره تنصرف عنه، متحررة من معنى الذات والغير، سالمة من صراع الثانية. لتبقى والعشق إلى القيامة.
وعلى أثر هذه الكلمات التي وصف فيها قيس مراحل وصول الصوفي في انتقاله من الحب الإنساني إلى العشق الإلهي، تبكي ليلى وتقول:
"واها لمن أشاح بوجهه عن مبني الأمل، وجد في إثر البلاء، فوقع صريعا إذ لم يحظ من مائدتي بنوال، وهيهات أن أجالسه مرة أخرى، أو أن أحظى في لقاء برؤية جمال وجهه بعد هذا الفراق".
وهكذا وصل المجنون، ووجد بليلى طريقه إلى الحقيقة.. وجامي يعبر عن رأي الصوفية جميعا في المجنون حين يقول في ختام قصته (وننبه إلى أن الخمر في كلام الصوفية معناها الوجد الصوفي، وأن حسن المجاز هو الحب الإنساني).
حذار أن تظن أن المجنون قد فتن بحسن المجاز، فعلى الرغم من أنه صبا أولا لنيل جرعة من جام ليلى حين وقع ثملا بحبها. فقد رمى آخرا بالجام من يده فتحطم، فسكره إنما كان من الخمر لا من الجام، إذ إنه هرب في عقبي أمره من الجام، فتفتحت في بستان سره من أزهار المجاز أزهار الحقيقة. فالعين التي انبجست تهدر من شق حجر. قد صارت بحرا وغطت الحجر، فكانت ليلى طلبته في هذا الجيشان، ولكن تواري وجهها عن قصد العاشق. وكان يحلو في فمه ترداد ذلك الاسم، ولكنه كان يقصد من نطقه إلى مقصود آخر أغنى.. فالعاشق الذي يضيء من هيامه بحبيبه يقول: القمر وقصده وجه الحبيب.
وصورة قيس الصوفي كما رأينا أعمى وأعمق في أبعادها النفسية والفكرية، فليس الحب العذري فيها سوى مرحلة بمثابة جسر يعبره المفكر الفيلسوف، ثم إن قيسا في الشعر الصوفي يمثل آراء الصوفية في المجتمع، وموقفهم من الناس، وفي هجائهم للطغيان. وحملتهم على ذوى الأطماع، ويأسهم من القضاء على الشر، وحبهم للعزلة طلبا للسعادة النفسية والأخروية.
وموقف قيس العذري كموقف قيس الصوفي في احترام عاطفة الحب والسمو بها. وإن كان المتصوفة قد ذهبوا إلى أبعد من العذريين في هذه السبيل، فلم يعتدوا بالزواج الذي يتم عن غير حب، ولذا أبقوا ليلى عذراء مع زوجها، كأنها لم تعتد بزواج أجبرت عليه.. ويظهر ورد في قصص شعراء الفرس جميعا بمظهر المعتدي الذي سلب قيسا سعادته وحبه.
وتقديس عاطفة الحب، والاعتداد بها، وعدم الاعتراف بالزواج الذي يتم على حب، كان طابع الرومانتيكيين على نحو يقرب مما دعا إليه الصوفية إلى حد كبير، وذلك لأن الرومانتيكيين يقدمون العاطفة على العقل في الوصول إلى السعادة والحقائق الكبيرة، ولأنهم تأثروا بفلسفة أفلاطون العاطفية كما تأثر بها الصوفية من المسلمين. وانتهى هذا الميراث الثقافي كله لشاعرنا في العصر الحديث أحمد شوقي، وقد أفاد من ثقافته الغربية والشرقية معا في نظم مسرحيته.