الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

نزار قباني.. شاعر العشق والثورة


  • 10-2-2023 | 17:18

نزار قباني

طباعة
  • محمد الشافعي

خيال جامح يحلق فى سماوات الإبداع بألف جناح.. إحساس رقيق مثل الندى على شفاه الصباحات الجديدة.. فارس امتطى صهوة الشعر.. فاسلمته اللغة قيادها.. فأضحت مثل راقصة البالية.. مرنة.. طيعة.. شفيفة.. مبهرة.. تحلق كلماته وكأنها سهام كيوبيد.. فتسكن قلوب الناس بالبساطة البلاغية.. والرشقاقة اللغوية.. بكارة أسلوبه وتعبيراته جعلته.. مدرسة أسلوبية تعبيرية.. شديدة الخصوصية.. قائمة بذاتها.. لا تشبه أحداً.. ولا يشبهها أحد.. حيث استطاع أن ينسج من اللغة ثوباً شعرياً عصرياً فريداً.. يخاطب كل الأعمار والثقافات.. ولا يخجل أهل الفكر والثقافة من ارتدائه أيضاً.. يرفع دوماً لواء التفرد.. فلم يكن مجرد صدى أو صورة كربونية.. من تجارب السابقين.. من كبار شعراء العربية.. الذين ملأوا الدنيا شعراً وشهرة.. جمع ما بين الأصالة والمعاصرة.. حيث حافظ على الموروث الشكلى والبنائى للشعر العربى.. وتمسك بالصورة الشعرية.. وتنوع البلاغة.. وكل هذا مع استخدام لغة عصره.. التى استطاع أن يطوعها بفنية عالية فى بنائه الشعرى الشاهق.. كما جعل البلاغة تسير فى اتجاه عصرى أيضا.. من خلال استخدام صور مبتكرة ترتبط بالواقع والبيئة والزمان والمكان.. استطاع وحده أن يحقق المعادلة الصعبة.. 
الشهرة الطاغية والشاعرية العظيمة المتفردة.

إنه شاعر العشق والثورة.. الذى كان العشاق فى الجامعات.. يتبادلون أشعاره سراً.. وكل شاب يقول لحبيبته (سأقول أحبك حين تنتهى كل لغات العشق القديمة) ويقول أيضاً (إن كنت تعرفين رجلا يحبك أكثر منى.. فدلينى عليه لأهنئه.. وأقتله بعد ذلك) وكانت دواوينه فى حقائب الطلاب.. وفى يد الآباء والأمهات.. ومع البنات والسيدات.. والكل يقرأ من وراء الكل.. صار مدرسة فى الشعر الغنائى الغزلى.. من خلال لغته الشفيفة السهلة الممتنعة وصوره المبتكرة التى تنساب رقراقة عذبة وكأنها تخرج من نهر مقدس.. امتلك قاموساً خاصا جدا.. فتح به آفاقا جديدة فى فضاءات الإبداع الشعرى.. والأهم أن هذا القاموس لم يسبقه إليه أحد.. ورغم أنه ملأ الدنيا وشغل الناس كان يردد دائماً (أكثر ما يضنينى فى اللغة أنها لا تكفيك.. وأكثر ما يؤلمنى فى الكتابة أنها لا تكتبك).. ظلموه بادعاء أنه (شاعر المرأة).. والأصوب أنه شاعر الحب والشغف والحنين والعشق (حينما أكون عاشقاً.. أشعر أنى ملك الزمان.. أمتلك الأرض وما عليها.. وأدخل الشمس على حصانى).. واستطاع أن يصدم من اتهموه بأنه شاعر المرأة.. بحسه الإنسانى ومواقفه السياسية الصلبة.. التى جعلت أشعاره ممنوعة فى كثير من البلدان العربية.. بل سحبوا قصائده من المناهج التعليمية.. ورغم ذلك كان نزار قبانى حاضراً وبقوة بشعره ونثره فى كل المواقف العربية المؤثرة يدافع عن الأمة.. وينتقد الحكام والسياسيين.. يرفض تبعيتهم للغرب.. وسطوهم على المال العربى..

وقد تعرض نزار قبانى لموجات عاتية من الهجوم والنقد من الساسة والنقاد وشعراء عصره.. فاتهمه البعض بأن المرأة فى شعره مجرد سلعة أو رغبة عابرة.. وإن ما كتبه عن المرأة ليس انتصاراً لها أو لقضاياها الكثيرة المعقدة.. ولكنه (سلّعها) وعراها من حشمتها وحولها إلى مجرد جسد فاتن مثير.. يتقن فن اللهو والإغواء.. وهذا كلام ظالم فى غالبيته العظمى.. حيث كان شعراء عصره يهاجمونه علنا.. ويمد حونه سراً.. ويتمنون موهبته وشهرته.. بل أجمعوا على أنه شاعر مجدد فى القصيدة العربية.. وذهب بعضهم (سراً أيضاً) إلى أنه أمير الشعراء فى العصر الحديث.. وقد امتزجت فى بعض قصائده المرأة بالوطن والعكس .. وكان يؤكد على أن التجربة أهم شروط الكتابة (الكاتب الذى لا يعانى.. لا يستطيع أن ينقل معاناته للآخرين).
وقبل أن نواصل الإبحار فى عوالم نزار قبانى الشعرية والإنسانية.. نتوقف قليلاً مع بعض ملامح سيرته الذاتية.

ولد نزار توفيق القبانى الدمشقى الشامى فى حى مئذنة الشحم فى دمشق فى 21 مارس 1923 (عيد الربيع).. ينتمى لأسرة دمشقية عربية عريقة وأرستقراطية فى ذات الوقت.. عمل والده فى صناعة الحلويات.. وكان داعماً للمقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.. أتم نزار دراسته الأولية فى مدارس دمشق.. وحصل على البكالوريا في مدرسة الكلية العلمية الوطنية بدمشق.. والتحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية.. وتخرج فيها عام 1944.. ينتمى بصلة قرابة قوية مع أبو خليل القبانى رائد المسرح العربى.. وكتب عن هذه المرحلة من حياته فى كتابه قصتى مع الشعر (ولدت فى دمشق فى آذار (مارس) 1927.. فى بيت وسيع.. كثير الماء والزهر.. من منازل دمشق القديمة.. والدى توفيق القبانى.. تاجر وجيه فى حيه.. عمل فى الحركة الوطنية.. ووهب حياته وماله لها.. تميز أبى بحساسية نادرة.. وبحبه للشعر ولكل ما هو جميل.. ورث الحس الفنى المرهف من عمه أبو خليل القبانى الشاعر والمؤلف والملحن والممثل.. وباذر أول بذرة فى نهضة المسرح العربى.
امتازت طفولتى بحب عجيب للاكتشاف وتفكيك الاشياء وردها إلى أجزائها.. ومطاردة الأشكال النادرة.. وتحطيم الجميل من الألعاب.. بحثا عن المجهول الأجمل.. عنيت فى بداية حياتى بالرسم.. فمن الخامسة إلى الثانية عشرة من عمرى.. كنت أعيش فى بحر من الألوان.. أرسم على الأرض وعلى الجدران.. وألطخ ما تقع عليه يدى.. بحثا عن أشكال جديدة.. ثم انتقلت بعدها إلى الموسيقى.. ولكن مشاكل الدراسة الثانوية.. أبعدتنى عن هذه الهواية.. وكان الرسم والموسيقى عاملين مهمين فى تهيئتى للمرحلة الثالثة وهى الشعر.. ففى عام 1939 كنت فى السادسة عشرة من عمرى.. وتحدد مصيرى كشاعر.. حيث كتبت وأنا مبحر إلى إيطاليا فى رحلة مدرسية أول قصيدة.. في الحنين إلى بلادي.. وأذعتها من راديو روما.. ثم عدت إلى استكمال الدراسة بكلية الحقوق فى دمشق.. وتخرجت فيها عام 1944). وتزامن تخرجه في الجامعة مع صدور أول دواوينه (قالت لى السمراء).. وتلقاه النقاد بمشاعر متباينة من الهجوم والانتقاد إلى الإشادة والتشجيع.. فمثلاً هاجمه بعنف الشيخ على الطنطاوى فى مجلة الرسالة المصرية.. وكتب أنور المعداوى فى ذات المجلة.. مبشراً بشاعر جديد.. يغير وجه الشعر.. ويحوله إلى خبز يومى يتناوله الناس.

التحق نزار قبانى بالعمل الدبلوماسى بوزارة الخارجية السورية.. وعمل بعدة سفارات فى القاهرة ولندن وبيروت ومدريد.. وعندما حدثت الوحدة بين مصر وسوريا عمل فى سفارة الجمهورية العربية المتحدة فى العاصمة الصينية بكين.

وعندما عمل فى السفارة السورية بالقاهرة.. راح يلتقى بكثير من المبدعين والصحفيين خارج عمله الدبلوماسى.. وراح ينشر أشعاره فى المجلات المصرية.. وتوطدت علاقته بالناقد أنور المعداوى المشرف على النشر فى مجلة الرسالة.. والذى دافع عن أول دواوينه.. وبشر به كشاعر كبير.. وبعد أن رسخ مكانته كواحد من كبار الشعراء فى الوطن العربى.. قرر تقديم استقالته من العمل الدبلوماسى.. وكان ذلك فى عام 1966.. بعد أن قضى أربع سنوات فى السفارة السورية بالعاصمة الإسبانية مدريد، وبعد تركه للعمل الدبلوماسى قرر أن يتفرغ للشعر والكتابة.. وافتتح دار نشر تحمل اسمه فى العاصمة اللبنانية بيروت.. التى قرر أن يقيم فيها.. وبعد تفجر الحرب الأهلية فى لبنان.. تلك الحرب التى مزقت قلبه تمزيقا.. قرر الرحيل إلى أوروبا.. خاصة بعد استهدافه من الإعلام المصرى لرفضه وانتقاده لاتفاقية السلام مع الكيان اليهودى.. فرحل أولاً إلى سويسرا.. التى عاش فيها خمس سنوات.. ثم تركها وانتقل إلى لندن وعاش فيها تسع حتى رحيله عن دنيانا عام 1989.

قد لا يعلم الكثيرون أن الموت.. قد ساهم بدور بارز ومؤثر.. فى تحديد المسارات الشعرية لنزار قبانى.. فقد تلقى ثلاث صدمات مروعة.. كانت الأولى انتحار شقيقته الكبرى (وصال) عام 1938.. حتى لا تتزوج ممن لا تحبه.. أما الثانية فكانت وفاة ولده توفيق بمرض القلب فى عام 1973.. وكان طالباً بكلية طب قصر العينى وعمره 22 سنة.. أما الصدمة الثالثة فكانت مقتل زوجته ومعشوقته بلقيس عام 1982.. والتى قتلت نتيجة تفجير السفارة العراقية فى بيروت.. حيث كانت تعمل.. فبعد الصدمة الأولى.. والتى تلقاها وهو طفل فى الخامسة عشرة من عمره.. قرر أن يكون نصيراً للمرأة.. وأن يدافع عن حقها فى من تحب.. وأن تتزوج من تحبه.. ويقول فى مذكراته عن انتحار شقيقته (صورة أختى وهى تموت من أجل الحب.. محفورة فى لحمى.. كانت ميتتها أجمل من رابعة العدوية.. كما كان موت أختى فى سبيل الحب.. أحد العوامل النفسية.. التى جعلتنى أنفر لشعر الحب بكل طاقتى).. ويقول فى موضع آخر من كتابه (قصتى مع الشعر).. عن حادثة انتحار شقيقته وصال.. التى انتحرت رفضا لإجبارها على الزواج ممن لا تحب (أنا من أسرة تمتهن العشق.. والحب يولد مع أطفالنا كما يولد السكر فى التفاحة.. جدى كان هكذا.. وفى تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق.. الشهيدة هى أختى الكبرى وصال.. قتلت نفسها بكل بساطة.. وبشاعرية منقطعة النظير.. لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها.. صورة أختى وهى تموت من أجل الحب محفورة فى لحمى.. كانت فى ميتتها أجمل من رابعة العدوية.. وأروع من كليوباترا المصرية.. حين مشيت فى جنازتها.. وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى.. كان الحب يمشى إلى جانبى فى الجنازة.. ويشد على ذراعى ويبكى).. وبعد أن امتلك ناصية الشعر.. راح يكتب القصائد الكثيرة والجريئة عن المرأة دفاعاً عنها وعن حقها فى أن تعشق وتحب.. وإن كانت بعض قصائده الأولى فيها الكثير من نزق الشباب.. مثل قصيدة الرسم بالكلمات التى قال فيها (لم يبق زاوية بجسم جميلة إلا ورمت فوقها عرباتى).. وقال أيضاً (صنعت من جلد النساء عباءة.. وبنيت أهراماً من الحلمات).. وبعيداً عن تلك الكلمات التى تتسم بالجرأة والفجاجة.. كتب الكثير من الشعر الجميل عن الحب والعشق (دعينى أقول لك.. بكل لغات العالم التى تعرفين ولا تعرفين.. أحبك أنت.. دعينى أفتش عن مفردات تكون بحجم حنيني إليك.. وعن كلمات تغطى مساحة تهديك.. بالماء والعشب والياسمين.. دعينى أفكر عنك.. وأشتاق عنك.. وأبكى وأضحك عنك.. وألغى المسافة بين الخيال واليقين.. أنا ألف أحبك.. فابتعدى عنى.. عن نارى ودخانى.. فأنا لا أملك فى الدنيا.. إلا عينيك وأحزانى).. وحين تلقى صدمة رحيل ابنه توفيق.. دخلت أشعاره سحابات كثيرة من الشجن والأسى.. بدأها بقصيدة رثاء ولده (كان كيوسف حسنا.. وكنت أخاف عليه من الذئب.. كنت أخاف على شعره الذهبى الطويل.. وأمس أتوا يحملون قميص حبيبى.. وقد صبغته دماء الأصيل.. لو كان للموت طفل.. لأدرك ما هو موت البنين.. لو كان للموت عقل سألناه.. كيف يفسر موت البلابل والياسمين.. لو كان للموت قلب.. تردد فى ذبح أولادنا الطيبين.. أتوفيق إنى جبان أمام رثائك فارحم أباك).
وكتب أيضاً فى قصيدته الملحمية.. التى رثى بها ابنه.. وكانت بعنوان (الأمير الخرافى توفيق قبانى).. (مكسرة كجنون أبيك هى الكلمات.. ومقصوصة كجناح أبيك هى المفردات).. وأوصى بأن يدفن بعد موته إلى جوار ابنه.

وكان نزار قبانى قد تزوج فى شبابه الباكر من زهرة السورية التى أنجبت له ثلاثة أبناء (هدباء – توفيق – زهراء).
وكانت صدمته الكبرى التى زلزلت كل كيانه.. فى مقتل زوجته ومعشوقته بلقيس الراوى.. فقد كانت محور عشقه.. وهوى فؤاده.. ونور عينيه.. وثمرة سعيه.. ونكاد نجزم أنها المرأة الوحيدة فى حياته.. فرغم الكثير من أشعار الحب التى كتبها قبل زواجه من بلقيس.. إلا أنه فى هذه القصائد لم يكن صادق الحب.. ولكنه كان (الشاعر الصنايعى) المحترف.. الذى يتوهم الحب.. ويعيش فى هذا الوهم بكل خلاياه.. حتى يكتب كلاماً جميلاً.. ويؤكد ذلك قول نزار (الحب فوق الأرض بعض من تخيلنا.. إن لم نجده عليها لاخترعناه).

ولم يكن نزار حالة فريدة فى شعرنا المعاصر.. فقد سبقه إلى ذلك كثير من الشعراء.. نذكر منهم إبراهيم ناجى وكامل الشناوى.

أما قصة بلقيس ونزار.. فتستحق أن تسجل كواحدة من قصص الحب العربى.. مثلها مثل القصص المشهورة (مجنون ليلى – كُثير عزة - جميل بثينة - عنترة وعبلة.. إلخ).. وقد بدأت هذه القصة فى صيف 1962.. عندما ذهب نزار إلى بغداد.. ليلقى بعض قصائده.. ورغم تزاحم الحسان من حوله.. إلا أن بلقيس الراوى هى الوحيدة التى خطفت قلبه.. ولأن عائلة الراوى إحدى العائلات الكبيرة والمحافظة فى العراق.. فقد رفضت (شاعر النهود).. عندما تقدم للزواج من ابنتهم.. وعاد العاشق الولهان إلى عمله فى مدريد مهزوماً مكسور الوجدان.. وراح يكتب الأشعار فى بلقيس (حبك ينمو وحده.. كما الزهور تزهر.. كما بقلب الخوخ يجرى السكر.. حبك كالهوى يا حبيبتى).. وجاءته دعوة جديدة.. ليلقى فى بغداد فكتب (مرحباً يا عراق.. جئت أغنيك.. وبعض من الغناء بكاء.. أكل الحزن من حشاشة قلبى.. والبقايا تقاسمتها النساء).. وتعاطف كل العراق مع الشاعر العاشق.. فتدخل أهل السياسة ودعا وزير الشباب فى ذلك الوقت (شفيق الكمالى).. إلى تشكيل وفد من حزب البعث.. ليذهب إلى بيت الراوى لطلب يد بلقيس.. ونجحت الوساطة السياسية.. ليتزوج العاشقان.. ويقول نزار (أشهد أن لا امرأة أتقنت اللعبة إلا أنت.. واحتملت حماقتى عشرة أعوام كما احتملت.. أشهد أن لا امرأة.. قد جعلت طفولتى.. تمتد خمسين عاماً إلا أنت).. وأنجب نزار من بلقيس ولدين (عمرو - زينب).

وفى الخامس عشر من ديسمبر 1981.. ونتيجة للحرب الأهلية التى ضربت لبنان لسنوات طويلة.. تم تفجير السفارة العراقية فى بيروت.. والتى كانت تعمل بها بلقيس.. فكانت من بين القتلى الذين سقطوا فى ذلك اليوم.. وبعد مصرعها كتب نزار قصيدته الطويلة جداً.. بلقيس.. والتى نشرتها صحيفة الجمهورية المصرية على صفحة كاملة وفيها يقول (شكراً لكم.. فحبيبتى قتلت.. وصار بوسعكم.. أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة.. وقصيدتى اغتيلت.. وهل من أمة فى الأرض تغتال قصيدة.. إلا نحن نغتال قصيدة.. ها نحن يا بلقيس.. ندخل مرة أخرى فى العصور الجاهلية.. ها نحن ندخل فى التوحش.. والتخلف والبشاعة والوضاعة.. ها نحن ندخل مرة أخرى العصور البربرية).. وقال أيضاً فى ذات القصيدة.. (بلقيس كانت أطول النخلات فى العراق.. بلقيس يا وجعى..

ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل.. هل يا ترى من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل.. أية أمة عربية تلك التى تغتال أصوات البلابل).
وبعد مقتل معشوقته وزوجته بلقيس قرر قرارين.. الأول إقامة حاجز منيع.. يمنع دخول النساء إلى قلبه.. ويمنع ملاك الشعر من دفعه إلى الكتابة عنهن كما كان يفعل من قبل.. أما القرار الآخر فكان مغادرة بيروت.. ليعيش فى أوروبا.. وقبل مغادرة لبنان كتب قصيدته الشهيرة عن بيروت (يا ست الدنيا يا بيروت.. من باع أساورك المشغولة بالياقوت.. من ذبح الفرح النائم فى عينيك الخضراوين.. ها نحن أتينا معتذرين ومعترفين.. أنا أطلقنا النار عليك بروح قبلية.. فقتلنا امرأة كانت تدعى الحرية).. وفى حياته الجديدة تفرغ للتأمل والتصوف والحياة العائلية.. فقد كان متصوفاً فى طقوس فرحه وحزنه.. كما راح يداوم على قراءة القرآن الكريم.

ورغم ترحاله بين الكثير من العواصم.. إلا أن نزار كان يحمل دمشق فى قلبه طوال الوقت.. وكتب عنها الكثير من القصائد الجميلة (مآذن الشام تبكى إذ تعانقنى.. وللمآذن كالأشجار أرواح.. للياسمين حقوق فى منازلنا.. وقطة البيت تغفو حيث ترتاح.. طاحونة البن جزء من طفولتنا.. فكيف أنسى؟ وعطر الهيل فواح.. هنا جذورى.. هنا قلبى.. هنا لغتى فكيف أوضح.. هل فى العشق إيضاح).. وعندما عاد إلى دمشق عام 1974.. بعد سنوات من الغياب.. كتب قصيدة طويلة وجميلة يقول فيها (فرشت فوق ثراك الطاهر الهديا.. فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا.. دمشق يا كنز أحلامى ومروحتى.. أشكو العروبة أم أشكو لك العربا).

ومن أهم المحطات الشعرية والإنسانية فى مسيرة نزار قبانى.. قصة عشقه لمصر.. وبعض هذا العشق فطرى.. فكل السوريين محفور على خلاياهم عشق مصر.. كما أن كل المصريين محفور على خلاياهم عشق سوريا.. وقد بدأت قصة العشق مع صدور ديوانه الأول (قالت لى السمراء).. وتبنى الناقد أنور المعداوى لتلك الموهبة الوليدة.. وجاء نزار ليعمل فى سفارة سوريا فى القاهرة عام 1949.. وتوطدت علاقاته بأدباء ومثقفى مصر.. وبعد ثورة يوليو 1952.. كان أحد المؤمنين والمدافعين عن المشروع القومى الذى جسده الزعيم جمال عبدالناصر.. وعندما وقع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956.. كتب نزار فى شهر ديسمبر قصيدته الرائعة (رسائل جندى مصرى فى جبهة السويس).. ويقول فى بعض هذه الرسائل.. الرسالة الأولى 31 أكتوبر 1956 الساعة السابعة مساء (يا والدى.. هذه الحروف الثائرة.. تأتى إليك من السويس الصابرة.. أنا منذ أيام هنا.. فى خندقى الأرضى.. أنتظر اللصوص).

وفى الرسالة الرابعة يقول (مات الجراد.. انتباه.. ماتت كل أسراب الجراد.. من حيث تمتزج البطولة بالجراح وبالحديد.. ومن مصنع الأبطال.. أكتب يا أبى من بورسعيد).

وكان عام 1956 قد شهد نشر قصيدته الأزمة (خبز وحشيش وقمر).. والتى هاجم فيها الخرافة المستترة بالدين وقال فيها (ما الذى يفعله قرص ضياء.. ببلادى بلاد الأنبياء.. وبلاد البسطاء.. ماضغى التبغ وتجار الخدر.. ما الذى يفعله فينا القمر.. فتضيع الكبرياء.. ونعيش نستجدى السماء.. ما الذى عند السماء لكسالى ضعفاء).. وقال فى ذات القصيدة أيضاً (فى بلادى يحيا الناس من دون عيون.. حيث يبكى الساذجون.. ويصلون.. ويزنون.. ويحييون اتكالا).. وأثارت هذه القصيدة زوبعة كبيرة بين السلفيين.. فكفروه.. وطالبوا بطرده من سوريا.. وفصله من العمل الدبلوماسى.. ووصلت الأزمة إلى أروقة البرلمان.. فرد عليهم نزار يشرح موقفه من الدين (هل تسمحون لى أن أعلم صغيرتى.. إن الدين هو أخلاق وأدب وتهذيب وأمانة وصدق.. قبل أن أعلمها بأى قدم تدخل الحمام.. وبأى يد تأكل).

ورغم أن نزار قبانى كان من أكبر المدافعين عن تجربة الزعيم جمال عبدالناصر.. إلا أنه كتب قصيدته الشهيرة (هوامش على دفتر النكسة).. وذلك بعد كبوة يونيه 1967.. تلك القصيدة التى وجدها منافسو وخصوم نزار قبانى فرصة للطعن فيه وإبعاده عن مصر.. ولم ير هؤلاء أن نزار قد وضع يده على أسباب تلك الكبوة عندما قال (لو أننا لم ندفن الوحدة فى التراب.. لو لم نخرق جسمها الطرى بالحراب.. لو بقيت فى داخل العيون والأهداب.. لما استباحت لحمنا الكلاب).. ويؤكد هذا الكلام أن (الفرقة العربية).. هى التى تسببت فى هذه الكبوة.. بل إن بعض الدول العربية عملت كطبور خامس.. للعدوان على مصر وسوريا ونجحت الدسائس والإحن فى أن يصدر بعض (الصغار) فى النظام.. قراراً بمنع نزار قبانى من دخول مصر.. فكتب رسالة إلى الزعيم جمال عبدالناصر.. حملها الناقد رجاء النقاش.. وما إن قرأ عبدالناصر الرسالة.. حتى أمر بإلغاء هذا القرار العبثى.. ودعا نزار لزيارة مصر.. على أن يكون ضيفاً على مؤسسة الرئاسة.. وفى كتابه قصتى مع الشعر كتب عن ما حدث معه بعد 1967 (ولكى يكتمل هذا الفصل عن حزيران (يونيه).. وعما نالنى بسببه من صلب ورجم وتشهير وتخوين.. أجد أن الأمانة التاريخية تقتضى أن أسجل للرئيس الراحل جمال عبدالناصر موقفاً لا يقفه عادة إلا عظماء النفوس.. واللماحون والموهوبون الذين انكشفت بصيرتهم.. وشفت رؤيتهم.. فارتفعوا بقناعاتهم وتصرفاتهم إلى أعلى مراتب الإنسانية.. فقد وقف الرئيس عبدالناصر إلى جانبى.. يوم كانت الدنيا ترعد وتمطر.. على قصيدتى (هوامش على دفتر النكسة).. وكسر الحصار الرسمى الذى كان يحاول أن يعزلنى عن مصر.. بتحريض وإيحاء بعض الزملاء.. الذين كانوا غير سعداء لاتساع قاعدتى الشعبية فى مصر.. فرأوا أن أفضل طريقة لإيقاف مدى الشعرى.. وقطع جسورى مع شعب مصر استعداء السلطة علىَّ.. حتى أن أحدهم طالب وزارة الإعلام بمقال نشره فى إحدى المجلات القاهرية بحرق كتبى.. والامتناع عن إذاعة قصائدى المغناة من إذاعات القاهرة.. ووضع اسمى على قائمة الممنوعين من دخول مصر).

وبعد رحيل عبدالناصر كتب أربع قصائد.. من أهم القصائد التى قيلت فى رثاء الزعيم.. وأشهرها (قتلناك يا آخر الأنبياء).. والتى يقول فيها (قتلناك يا آخر الأنبياء.. قتلناك ليس جديداً علينا.. اغتيال الصحابة والأولياء).. ثم يقول (نزلت علينا كتاباً جميلاً.. ولكننا لا نجيد القراءة.. وسافرت فينا لأرض البراءة.. ولكننا ما قبلنا الرحيلا.. تركناك فى شمس سيناء وحدك.. تكلم ربك فى الطور وحدك.. ونحن هنا نجلس القرفصاء.. نبيع الشعارات للأغبياء.. وتحشو عقول الجماهير تبناً وقشاً.. ونتركهم يعلكون الهواء).

وقال فى قصيدة أخرى (زمانك بستان وعطرك أخضر.. وذكراك عصفور فى القلب ينقر.. ملأنا الأقداح يا من بحبه سكرنا.. كما الصوفى بالله يسكر.. دخلت على تاريخنا ذات يوم.. فرائحة التاريخ مسك وعنبر.. وكنت فكانت فى الحقول السنابل.. وكانت عصافير.. وكانت صنوبر.. وأمطرتنا حباً ولا زلت تمطر).. وتلك القصائد لم تكن مجرد رثاء للزعيم.. ولكنها صرخة فى وجه الذين قتلوا الرمز والقائد.

ويواصل نزار ملحمة عشقه لمصر.. فيكتب قصيدته الرائعة (خاتم مصر).. والتى نشرها فى مجلة الهلال عام 1976 وقال فيها (تجمع مصر حروف اسمها الجميل.. وتعيد تطريزه على حواشى منديلها المبلل بالدموع.. تكتبه بالخط الكوفى العريض.. على جدران النهار.. تسترده من قاع البحر وأسنان سمك القرش.. وحطام المراكب الغارقة.. تلصق الميم إلى جانب الصاد.. وتلصق الصاد إلى جانب الراء.. وفجأة تتدلى من سقف العالم نجمة من الزمرد الأخضر.. اسمها مصر).

كان نزار قبانى فى طليعة المثقفين العرب.. الذين رفضوا اتفاقية السلام مع الكيان الصهيونى.. وراح يلهب ظهر العرب كل العرب بقصائده الموجعة.. ومنها (متى يعلنون وفاة العرب).. وقال فيها (أنا منذ خمسين عاماً أراقب حال العرب.. وهم يرعدون ولا يمطرون.. وهم يدخلون الحروب ولا يخرجون.. وهم يعلكون جلود البلاغة علكاً.. ولا يهضمون.. أيا وطن جعلوك مسلسل رعب.. نتابع أحداثه فى المساء.. فكيف نراك إذا ما قطعوا الكهرباء.. رأيت العروبة معروضة فى مزاد الأثاث القديم.. ولكنى ما رأيت العرب.. إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب.. ففى أى مقبرة يدفنون.. ومن سوف يبكى عليهم؟.. وليس لهم بنات.. وليس لهم بنون.. وليس هناك حزن وليس هناك من يحزنون).

وفى تلك المرحلة الحرجة من عمر الأمة العربية.. جاءت بعض قصائد نزار قبانى.. وكأنها تحمل نبؤات (زرقاء اليمامة).. مثل قصيدته النبؤة (مرسوم بإقالة خالد بن الوليد).. والتى يقول فيها (سرقوا منا الزمان العربى.. سرقوا فاطمة الزهراء من بيت النبى.. يا صلاح الدين باعوا النسخة الأولى من القرآن.. باعوا الحزن فى عين على.. يا صلاح الدين باعوك وباعونا جميعاً فى مزاد علنى.. هل جاء زمان صار فيه النصر محظوراً علينا يا بنى.. ثم هل جاء زمان فيه تستقبل إسرائيل بالورد وآلاف الحمائم والنشيد الوطنى.. سرقوا منا الزمان العربى.. أطفأوا الجمر الذى يحرق صدر البدوى.. لم أعد أفهم شيئاً يا بنى.. لم أعد أفهم شيئاً يا بنى.. لم أعد أفهم شيئاً يا بنى).

عاش نزار قبانى سنواته الأخيرة فى لندن.. حتى رحل عن دنيانا فى الثلاثين من أبريل 1998.. متأثراً بأزمة قلبية.. بعد أن ترك لعشاق الشعر العربى أكثر من خمسة وثلاثين ديواناً من الشعر.. إضافة إلى كتاباته النثرية فى السياسة والشعر والسيرة.. كما ترك أكبر مكتبة غنائية بين كل الشعراء.. الأقدمين والمحدثين.. حيث غنى له كبار المطربين والمطربات.. وفى مقدمتهم أم كلثوم - عبدالوهاب - فايزة أحمد - نجاة - فيروز.. إلخ.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة