الخميس 26 سبتمبر 2024

سلطان العاشقين ابن الفارض.. أنشودة حب لا تنتهي


د. محمود خليل

مقالات10-2-2023 | 22:20

د. محمود خليل

للسالكين إلى الله أحوال ومقامات، ولهم ذوق وشوق، وزاد وأوراد، يأخذون أنفسهم برياضات الأرواح، وتأديب الأشباح، ولهم في هذه المسالك رموز وإشارات كلما تعاظمت الثروة، وألهى الناس التكاثر، كلما فزع العارفون إلى ربهم، وخلو بحبهم لحبيبهم، فاستغرقتهم الحقيقة المحمدية، وطارت بهم أشواقهم للذات العلية، العاتبون علي ابن الفارض وعلي أمثاله، ذلك الإسراف والانهماك في التغني بالجمال الحسى، يغيب عنهم أنه هو المدخل الطبيعى لحسن تذوق الجمال الروحي.

الأدب في أسمي مراميه، كما يعرفه الشريف الجرجانى: هو ما يحترز به من جميع أنواع الخطأ، وحقيقة الأدب: اجتماع جميع خصال الخير ... فالأديب هو الذى اجتمع فيه من الخير كل خصاله، واتسقت له اسباب وصاله ... ومنه أخذت (المأدبة)، وهي جمال الاجتماع لطعام الخير، وخير الطعام.
 والأديب ... هو ذلك المبدع لفنون القول والكتابة الأدبية ، من شعر ونثر وقول وخطابة .... وأما الشاعر فهو ذلك الناظم لحبات النثر، مبدعا منها عقوده وقصائده وقلائده، عبر الأوزان والقوافى والموسيقى ... وفق هندسة البحور المتعارف عليها ... و التفاعيل الضابطة لذلك الفن، باعتباره فن العربية الأول.
والشعراء أنواع، بعدد حروف الكلمات ، وأصداء النغمات …
 إلاّ أن شعراء الحب، أندر من الكبريت الأحمر ... وشعراء الحب الإلهى هم تلكم الندرة بعينها.
 فالحب فى الله ... ولله ... هو أوثق عرى الإيمان ... لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( أوثق عرى الإيمان الحب فى الله والبغض في الله ) 
و دون الإسهاب في شروح الحديث ... يطيب لنا أن نلج ذلك المدخل الرائق لتعريف المحب لله.
بقول تاج العارفين الإمام الجنيد: "هو عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بلبه، أحرقت أنوار هيبة الله قلبه، فشرب من كأس حبه، وانكشف له الجبار عن أستار غيبه ، فإذا تكلم ... فبالله، وإذا نطق، فعن الله، وإذا تحرك ... فبأمر الله، و إذا سكن فمع الله ...
 فهو بالله وعن الله وبأمر الله ومع الله.. 
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى/ ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وللسالكين إلى الله أحوال ومقامات ... ولهم ذوق وشوق ... وزاد وأوراد ... يأخذون أنفسهم برياضات الأرواح ... وتأديب الأشباح ... ولهم في هذه المسالك رموز وإشارات، لا بد من فكها على الحقيقة، ومعرفتها علي الطريقة ... وإلا أسىء فهم مرادهم ... وتسفيه زادهم ... والشغب على واردتهم.
ولهم أيضا شطحات وغرائب ... وشرودات وعجائب ... يعدها البعض، غب بعض الأحايين، جنونا وزندقة ... كما حدث مع شاعرنا العاشق الأكبر للحب الإلهى، سلطان العاشقين، عمر ابن الفارض رحمة الله عليه.
مدخل
يتواكب الزهد و العرفان ، والتصوف والسلوك، مع الجاه والمال، والتوسعة ويسر الحال ... سيرا عكسيا.
فكلما تعاظمت الثروة، وألهى الناس التكاثر، كلما فزع العارفون إلى ربهم، وخلو بحبهم لحبيبهم، فاستغرقتهم الحقيقة المحمدية، وطارت بهم أشواقهم للذات العلية، وأضحى لسان حالهم يقول : 
إليك وإلا لا تشد الركائب/ وعنك وإلا فالمحدث كاذب 
 وحبك ياخير النبيين مذهبى/ والناس فيما يشتهون مذاهب 
 فلا يرون غير المحبوب/ الذى ملك عليهم الهوى والقلوب 
مكانك منى هو القلب كله/ فليس لخلق في مكانك موضع
 وفاضت منهم أشعار الحب والقربى ... مواجيد و أغاريد ... و فيوضات وأناشيد.. بهيجة متوهجة ... وضاءة بلجة ... كالذى تغنى به قائلهم : 
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم/ أبداً فكل زمانهم أفراح 
والله ما طلبوا الوقوف ببابه/ حتى دُعوا فأتاهم المفتاح
 حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم/ فتهتكوا لما رأوه وصاحوا
 أغناهُم عنهم، وقد كشفت لهم/ حجب البقا، فتلاشت الأشباح
ولعل شاعرنا - سلطان العاشقين - ابن الفارض ... الذي أمّر نفسه إماماً .. وسلطن نفسه بنفسه قائلا:  
كل من في حماك يهواك لكن/ أنا وحدي بكل من فى حماكا
 فيك معنىً حلّاك في عين عقلى/ وبه ناظرى مُعَنّى حِلاكا
 فقت أهل الجمال حسناً وحسنى/ فبهم فاقةُ إلى معناكا
 يحشروا العاشقون تحت لوائى وجميع الملاح تحت لواكا
ذلك الرجل الذي ولد بالقاهرة في ذى القعدة 576 - ١١٨١ م ... لأسرة تنتمي إلى حلب بالشام، لوالد إمام فقيه، كان يعمل فارضاً ينظم عمل المواريث، ويقضي بها ويعلمها الناس ... ويحيا علي جانب كبير من العبادة والزهد والورع. رافضاً كل منصب يعرضه عليه الحكام، ذلكم هو أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموى، الذي ولد وتربي في ظل ذلك الكنف الشريف ... فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه واللغة والشريعة والمواريث، وتمرس بالرياضات البدنية من سباحة وسياحة وفروسية ، والرياضة الروحية من زهد وعبادة وانقطاع وذكر وخلوة، إلي ما فطر عليه من رقة طبع، وجمال ولين، وحسن و وضاءة ... وما انطبعت عليه روحه من سمو وصدق، وشوق وعرفان حسي ومعنوي
علينا أن نعلم أن الله قد جمع له محاسن المقامات، بالفطرة والنشأة، ومحاسن السلوك بالتربية والبيئة، فتحقق بالعبادات، وترقى بالواردات، واستشرف بالسائحات والمشاهدات.
وهو رجل اختلفت فيه الأقوال ما بين مصدق ومزندق.
فعلى الرغم من أنه تلقى العلم من فم لأذن عن أبيه الذى رباه ونماه، و أدبه ورعاه، .... وتلقى التصوف عن شيوخه بالممارسة والمدارسة.. فضلاً عن ذلك المشرب فقد تلقى الحديث عن ابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق ) إلى الحد الذي استوى فيه إلى أن يقول ابن حجر واصفاً إياه: (كان له صورة كبيرة عند الناس).
فك الالتباس
إلا أن الإمام الذهبي قد قال فيه: " صاحب الاتحاد الذي ملأ به التائية ( ٧٥٠ بيتاً من بحر الطويل ) .... فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده ... فما فى العالم زندقة ولا ضلال".
ورماه ابن تيمية بقوله : " من أهل الإلحاد القائلين بالحلول، والاتحاد ووحدة الوجود " 
 ولعلماء الحديث قولهم من الجرح والتعديل، بخصوص علم الحديث النبوى الشريف، يقدرون الرجال، ويضعون معايير أوزانهم، ودرجات ترجيحهم، ومن ذلك قول ابن تيمية في ابن الفارض: أشعاره (حيات وأفاعي ) 
 و للنقاد والعارفين، والفلاسفة والمتكلمين، والعشاق والمحبين، قولهم كذلك.  
فهذا شيخ أساتذة الفلسفة الإسلامية، الدرعمي الكبير الدكتور مصطفى حلمي يقول: (نلاحظ هنا.. أن النزعة إلى الزهد في جاه المنصب الذى رفضه أبوه من قبل الملك العزيز ، لا بد أن يكون له آثاره في حياة ابن الفارض نفسه، وأن يكون أبوه هو الذي ألقى ببذوره في قلبه، وغرس هذا الزهد والترغيب، فأينع في شخص عمر، وكان له ثمره الذى تناثر في كل أمور حياته).
ورٱه شارح ديوانه، مهدى ناصر الدين المتحصل على الماجستير فى شعر ابن الفارض، وكذلك الباحثة طاهرة كيريا سفرو شاه من جامعة آزاد الإسلامية ... يرونه : (فحلاً من الفحول، استطاع الجمع بين الحقيقة والخيال ) 
فالحقيقة عنده هي الصورة الروحية، وأما الخيال فهو الصورة الحسية،التي ارتقى بها إلى المعنويات.
 وهو في كل أشعاره يعبر عن نفسٕ أبيّة شريفة، كان لها تأثير في نفوس الناس إلى زمن غير قليل، ٠٠ بل أحيا بأشعاره أجواء التصوف وساحاته التي عقدت الحلقات فيها على اسمه، وتحت وجد أشعاره، وبها تغنى المحبون، وحوله يحلق العاشقون، ويخلق المتصوفة والسالكون٠
حب لا ينتهي
نعم إنه سلطان الوجدان وإمام العاشقين الذي شرقت أشعاره وغربت ... و تواكبت شروح ديوانه بالعربية والفارسية والتركية والهندية ٠٠٠، ذلك الشاعر العابد الزاهد العارف الإمام... رفيف النفس ... شفيف الحس ... صاحب وحدة الشهود ... والسير إلى الحق المعبود ... يقول : 
مالي سوى روحى وباذل نفسه/ في حب من يهواه ليس بمسرف
 فلئن رضيت بها، فقد أسعفتني/ ياخيبة المسعى إذا لم تسعف

 وحبه هو التوق والشوق .. والفرض والنافلة ... والأصل والشكل، يقول : 
أنتم فروضى ونفلى/ أنتم حديثي وشغلى 
يا قبلتي في صلاتي/ إذا وقفت أصلي 
جمالكم نصب عيني/ إليه وجهته كلي 
و سركم في ضميري/ والقلب طور التجلي 
ولعل قصيدته التي ما خلا منها لسان حال متصوف، ذاكرا شاكرا ...من بحر الكامل والتي يقول فيها : 
زدني بفرط الحب فيك تحيرا/ وأرحم حشى بلظى هواك تسعرا 
 إن الغرام هو الحياة فمت به/ صباً فحقك أن تموت وتعذرا 
قل للذين تقدموا قبلي ومن/ بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى 
عني خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا/ وتحدثوا بصبابتي بين الورا 
 والعاتبون علي ابن الفارض و علي أمثاله، ذلك الإسراف والانهماك في التغني بالجمال الحسي، ٠٠يغيب عنهم أن حسن تذوق الجمال الحسي، هو المدخل الطبيعي لحسن تذوق الجمال الروحي، ضاربين لذلك أروع الأمثلة بسيرة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين رأى القمر، فقال:(هذا ربى) ٠٠ ثم لما رأى الشمس بازغة قال :(هذا ربي هذا أكبر )
وعلى غرار (بانت سعاد) لزهير بن أبى سلمى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أنشدها أمامه فأقره عليها ولم يعتب عليه فيها شيئاً .. وقبلها وقبلها منه شافعة مشفعة ... 
 ذلك هو سلطان العاشقين الذى تواكب في زمانه سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضى الفاضل وابن سناء الملك، والعماد الأصفهانى ... وبرهان الدين بن الجعبرى.
 أما عن حياته فقد ولد بالقاهرة فى ٢٢ مارس ١١٨١م ثم عاش شطراً من حياته طالب علم ومريد على يد والده على مذهب أهل السنة والجماعة، الأشاعرة الشافعية، ثم لما استفاض أمره انقطع عن الناس في سفرة خلوية إلى جوار بيت الله الحرام لخمس عشرة سنة ... عابدا زاهدا منقطعا .. ثم عاد مشمولاً بالفيوضات والكمالات، من زهد وانقطاع، وقلة كلام، واشتغال بالذكر، والتدبر والفكر، ثم عاد إلى القاهرة مختليا بنفسه بقاعة الخطابه بالجامع الأزهر، متنسكاً سالكاً، ليكون لسانا شريفا صادقا، وعاشقا إلهيا ناطقا، بلسان الوجد المصري الشامي الححازى، إلى أن لقي ربه عام ١٢٣٤م، ودفن بالمقطم بمقامه المشهود.
بعد أن أفنى حياته ذائباً في معايشة الحقيقة المحمدية، متعلقا بالذات الإلهية، على حال من العشق والحب والوجد والشرف، متماهيا مع صفات الجمال والكمال والجلال، راقيا شاهدا من حال إلي حال.
 رحمة الله على ابن الفارض، وسلام على السالكين الصادقين.