الأحد 28 ابريل 2024

نقاد منسيون.. الشاعر والناقد الإنجليزي «وليم هازلت»

حاتم السروي

ثقافة11-2-2023 | 21:45

حاتم السروي

في عددها الصادر بتاريخ سبتمبر 1934م قدمت لنا مجلة أبولو الأدبية – وهي لسان حال جمعية أبولو للشعراء الرومانتيكيين- مقالة عن الناقد الإنجليزي "وليم هازلت" المولود عام 1778 والمتوفى سنة 1830م بقلم الشاعر "نظمي خليل" الذي كان أحد رواد مدرسة أبولو الرومانسية وقد تخصص في الأدب الإنجليزي، وفيها يصفه بأنه أحد أفذاذ الإنجليز الذين ظهروا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، والذين لعبوا دورًا هامًا في تهذيب الأدب الإنجليزي والسموِّ به إلى درجة قلَّما نجد لها مثيلاً في سائر عصور الأدب الإنجليزي.

ونعرف من نظمي خليل أن وليم هازلت كان فنانًا نابغًا وناقدًا نافذ البصيرة في وقتٍ واحد، وهنا لفتة لابد لنا من الوقوف عليها، فالنقد ولا شك جزء من الفن، غير أن الشائع عند أهل الثقافة أن يجعلوهما نِدَّيْن، ولا يمكن القول إن هذا الأمر خطأ، كما لا يمكن قبوله من ضمن الصواب، ففي الأمر تفصيلٌ وشرح، وذلك أن الناقد لو أحسن النقد وكتبه بأسلوبٍ ممتعٍ جذاب فيه شمول وعمق وجمالية؛ فهو بهذا يكتب إبداعًا موازيًا، وهذا ما فعله "وليم هازلت" الذي كان أيضًا كما يراه نظمي خليل كاتبًا من أرقى طراز، وصحافيًّا لا يُشَقُّ له غبار، كما يصفه بالوطنية المتحمسة، والصدق في الإصلاح، وأن الحرية قد امتزجت بدمه فأيَّد "جان جاك روسو" وأحب "نابليون بونابرت" وهو بالجملة شخصية عظيمة متشعبة المجالات.

ويلاحظ "خليل" أنه رغم وقوف "هازلت" بملكته القوية الفعالة على أسرار الفن العميقة والدالة على فهمه لأنواع الجمال وإحاطته بها، غير أنه مثل سائر الكُتَّاب الرومانتيكيين قد اهتم قليلاً وربما لم يهتم مطلقًا بالتفسير الفلسفي للفنون، والذي نراه بوضوح فيما كتب أنه كان أمينًا مع نفسه، ولم تنقصه الشجاعة ليعبر بصدق عن رؤاه ومشاعره.

ويوضح "خليل" أن "هازلت" لم يتعدَّ في كل ما كتب تجاربه الشعورية الخاصة، فقد تحدث عمَّا أحبه من صور الجمال، لا لأنه رآها في معرض الجمال، بل لأنه أحبها، فلم يكن يكتب إلا ما يراه ويشعر به فحسب، وقد عشق المسرح فنسمعه يقول عنه: " نحن نحب المسرح لأننا نحب أن نتحدث عن أنفسنا، ونحن لا نحب شخصًا لا يحب الروايات التمثيلية".

 

وقد خالف النقاد الذين أتوا من بعد "هازلت" مسلكه؛ إذ جاءوا بنظرياتٍ ثابتة في النقد متأثرين بالفلسفة التجريبية ونظريات التطور العلمي الحديث التي أثرت على كل أنواع العلوم حتى العلوم الإنسانية كالاجتماع والتأريخ وعلم النفس، ولم تترك الأدب دون أن يصيبه بعضٌ من شررها، وكان من تأثير ذلك أن اهتم النقاد بتحديد البيئة وإظهار مدى تأثيرها في الشاعر أو الكاتب، على أن "هازلت" لم يعدم حاسة التمييز الدقيقة وهو فيها وبها يتفوق على بعض من كانوا قبله، وبعض من أتوا بعده، وهي سمة ربما كانت أولى صفات الناقد الحاذق.

 

وميزة "هازلت" الكبرى وفق "خليل" أنه كان يحب الشعراء والأدباء حبًا حقيقيًا وعميقًا، وانكبَّ على دراسة مؤلفاتهم حتى أضحت عباراتهم مألوفةً لديه، فهي تجري على لسانه كما تجري آيات الكتاب على لسان الواعظ، هكذا يصفه خليل، ثم يضيف أنه قد يؤخذ عليه إسرافه في هذا الحب الذي ربما أبعده قليلاً عن الوقوف على نقائص الشاعر أو الكاتب المنقود.

ومن غير اليسير أن نفصل ذات الناقد "هازلت" عمَّا يكتبه، ففي كل نقد له يخبرنا عن حبه لهذا الشاعر وكراهيته لذاك، وهو يوقفنا على إعجابه الشخصي بالشاعر الذي يحبه سواءً كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر.

 

ثم يعرض لنا "خليل" محاضرة كان "هازلت" قد ألقاها عن الشعر، معناه وماهيته، وهي ضمينة بأن تقف بنا على رأي هازلت في هذا الفن الذي كان كل حياته، وقد أفاض في موضوع "ماهية الشعر" وكان الذين تكلموا عنه قبله لم يحيطوا به كما يرى "خليل" ولأن "هازلت" كان رجلاً شاعريًّا فإنه لم يرض أبدًا أن يخضع الشعر لقوانين العلم أو ما ذكره العلماء عن صور الكلام، فالشعر إبداع وعاطفة وخيال، والعلم لا يتقابل معه ولا يختلط به بل هو مجالٌ آخر.

 

ويوضح نظمي خليل: أن محاضرة "الشعر" لهازلت ليست تأريخًا لهذا الفن؛ ولكنها تحليل لعناصره الجوهرية، ومحاولة للكشف عن أسراره الخفية، والوقوف على ما فيه من روعةٍ وجمال، فهي محاضرة تعالج عنصرًا هامًّا من عناصر وجودنا، والحقيقة أن الشعر هو كل عناصر وجودنا، فوجودنا شاعر وحياتنا شاعرة.

 

والقارئ لمحاضرة "هازلت" قد يخفى عليه المعنى في كلماتها أحياناً، وقد يلمس دقة التعبير إلى حدٍ يصعب على القارئ العادي، وهذا راجعٌ دون شك إلى سمو الفكرة، فكلما اتسعة الرؤية ضاقت العبارة، ثم إن "هازلت" أورد تعبيرات واستخدم تشبيهات يألفها القارئ الإنجليزي ولم يتعود عليها القارئ العربي.

وفي محاضرته يعرف لنا "وليم هازلت" الشعر فيقول: " إن أصدق تعريف يمكن أن أُعَرِّف به الشعر هو أنه:" الصورة الطبيعية لأي غرض أو حادثة، فإن قوته تُوَلِّد في الخيال والعاطفة حركة غير إرادية وتبعث رخامة في الأصوات المُعَبِّرة عنها.. وفي معالجة هذا الموضوع "الشعر" سأتكلم عن موضوعه أولاً، وعن صور الإفصاح التي يبعثها ثانيًا، وعن ارتباطه بموسيقى الصوت بعد ذلك: فالشعر لغة الخيال والعواطف، فهو يتصل بكل شيءٍ يبعث لذّةً أو ألمًا في الإنسان، وهو يستقر في صدور الناس وأعمالهم؛ لأنه ما من شيء يستقر فيها في أعم وأوضح صورة إلا ذلك الذي يمكن أن يكون موضوعًا للشعر، والشعر هو اللغة العالمية التي تصل القلب بالطبيعة.

 

ثم يهاجم "وليم هازلت" أولئك الذين يهملون الشعر؛ فالذي لا يُقَدِّر هذا الفن هو في حقيقة الأمر لا يُقَدِّر الجمال والحقيقة؛ لأن الشعر ليس عملاً تافهًا أو نوعًا من التسلية الزهيدة لبعض القراء في ساعات الفراغ، ولكنه دراسة للإنسان وبهجته في سائر العصور.

 

 

ويصحح "هازلت" لمعظم الناس مفاهيمهم عن الشعر؛ فهم يظنون أنه يوجد في الكتب فقط، في تلك السطور الموزونة المُقَفَّاة، والحقيقة أنه حيثما توجد حاسة الجمال أو القوة أو الموسيقى، كما في حركة موج البحر أو في نمو الزهرة التي تنشر أوراقها العطرية في الهواء وتكرِّس جمالها للشمس، يوجد الشعر؛ فالشعر ليس فرعاً من فروع التأليف ولكنه المادة التي تكونت فيها حياتنا، وما سوى الشعر خطابٌ مدفون وشيءٌ منسي؛ لأن كل شيء في الحياة يسمو بمقدار ما فيه من شعر. الخوف شعر، والأمل شعر، والحب شعر، والكراهية شعر، الإرادة/الحقد/تأنيب الضمير/الإعجاب/الجلال/الرحمة/اليأس/الجنون، كل هذا محله الشعر، فالشعر هو أدق ما في أجزائنا الداخلية، وهو الذي يوسع وجداننا ويرققه ويهذبه ويسمو به.

 

 

وبدون الشعر تصبح حياة الإنسان تَعِسة كحياة الحيوان الأعجم، "وليم هازلت" يقول لكم: الإنسان حيوان شاعر، وحتى الذين لا يعرفون قواعد الشعر ونظرياته نراهم يسيرون عليها في جميع شئون حياتهم، والطفل شاعر في الحقيقة عندما يبدأ في لعبة الاختفاء والبحث "الاستغماية" أو يستعيد قصة "أمنا الغولة" والراعي شاعر عندما يشرع للمرة الأولى في تتويج محبوبته بإكليل الزهور، والفلاح عندما يشاهد قوس قزح، والحرفي الكادح عندما يتأمل في الثري العظيم، حتى البخيل عندما يحضن أمواله، والوثني الذي يلطخ معبوده بدم الأضحية، والمعجب بنفسه والمتكبر والطموح، وذاك الذي يغضب سريعًا، البطل والجبان، كل الناس شعراء بشكلٍ أو بآخر، لأنهم يعيشون في دنيا من تصوراتهم وخيالاتهم، والشاعر ليس له عمل أكثر من أن يفصح عن أفكار الآخرين وأعمالهم، ولو كان الشعر حلمًا لكانت الحياة أكبر حلم، ولو كان خيالاً جاء من رغباتنا، فلا توجد هناك حقيقة أفضل وأصدق منه.

Dr.Randa
Dr.Radwa