الخميس 27 يونيو 2024

صفحة مجهولة من حياة (العميد)

23-8-2017 | 16:23

صلاح حسن رشيد - باحث وأديب مصري

"مَن أراد رؤية الحرم المقدس، ومطالعة أنوار مكة المكرمة العطرة، ومناجاة لآلئ المدينة المنورة الشريفة، والسياحة الروحية الجميلة المؤمنة داخل أجواء المشاعر الدينية المتوضئة؛ فليُطالِع ما خطّه قلم طه حسين؛ بحبٍّ، وإخلاص، وصدق، وإيمان؛ عن هذه الأماكن الجليلة الغالية على كل نفس في دنيا الله"! (العلامة/ حسين مجيب المصري- عميد الأدب الإسلامي المقارن).

*   *   *

    في عام 1955م ذهب الدكتور/ طه حسين- لأداء فريضة الحج، وقد استغرقت رحلته تسعة عشر يوماً، وكان لهذه الرحلة صدىً واسعاً في كل مكان، وقد كان استقباله هناك استقبالاً مهيباً، وعرساً لا مثيل له! فكان في استقباله جلالة الملك سعود، والأمراء والأعيان والوجهاء والأدباء والإعلاميون، واحتفتْ به جميع المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية.

  كما استقبلته هناك بعثة الأزهر الشريف، وكان من بينهم الشيخ/ محمد متولي الشعراوي؛ حيث كان يعمل أستاذاً بكلية الشريعة- فلمْ يقف (الشيخ) موقفاً سلبياً مجاراة لخصومة الأزهريين المعروفة –آنذاك- لطه حسين، بلْ على العكس؛ رحّبَ به -الشعراوي- ترحيباً كبيراً، وحيَّاه، وألقى قصيدة طويلة احتفاءً به، قال فيها:

يا فريد الأسلوب قد صغتَه من

لك في العلم مبدأٌ (طَحْسَنيٌّ)

يا عميد البيان أنت زعيم

(هامش السيرة) الحبيبة فيه

رَكْبُ طه؛ حيّاكَ في بلد الله

يا عميد البيان لا تحرِم الأزهر

                نغمٍ ساحرٍ شجيِّ الغناءِ

سار في العالمين مسرى ذُكاءِ

بالأماناتِ، أريحيُّ الأداء

تتغنَّى سماحة الأنبياء

جلالٌ للكعبة الشمّاء

عوناً بصائب الآراء!

    وقد تعجب (طه حسين) من تلك الحفاوة الكبيرة، وهذا الاستقبال الرسمي والشعبي المهيب، فقال: "معذرة إليك يا صاحب السمو؛ ومعذرة إلى الذين تفضلوا فاستجابوا لهذه الدعوة من الزملاء والزائرين، معذرة عن هؤلاء المواطنين الذين أخطأوا موضع التكريم، ووجهوه إلى غير من كان ينبغي أن يوجّه إليه! فقد أكثروا واشتطوا وأسرفوا على أنفسهم وعلى الناس ... وأقول لهم: دعوا أخاكم هذا الضعيف، وما قدّم إليكم من خير قليل، واصنعوا خيراً مما صنع، وأخطر مما صنع، وأريحوه من إطالة الثناء؛ لأنها تخجله وتشعره بأنه يسمع ما ليس له الحق فيه! وأؤكد أنهم قالوا فأسرفوا عليَّ وعلى أنفسكم، ولكن نيَّتهم كانت خالصة، وقد قال نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى). وهؤلاء قد نووا خيراً، وقالوا خيراً، فليعفُ صاحب السمو، فهم قد أخطأوا، فوجّهوا الثناء إلى غير مذهبه، وقالوا المديح في غير أهله. وليذكروا أنهم هنا في هذه البلاد يمثلون وطنهم، وأن يقدّروا أن إخلاصهم في حب هذا الوطن وجهدهم في خدمته، وفناءهم في ترقيته والمشاركة فيه مخلصين، إنما هو إخلاص لله قبل كل شيء، فهي أرض الله، في أشرق نور الله، ومنها انبعث هذا النور، فهدى أوطاننا جميعاً إلى الحق، وسلك بها سبيل الخير".

"طه حسين" في مهبط الوحي                                      

وقد أعرب (طه حسين) عن سعادته بهذه الرحلة الإيمانية إلى الحجاز، فقال: لقد تركتْ زيارتي للحجاز آثاراً قوية رائعة في نفسي، لا يمكن أن تصور في حديث أوْ أحاديث. وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قُطراً من أقطار الأرض أثَّرَ في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثَّرتْ هذه البلاد، وكما أثّرَ الحجاز فيها بنوع خاص.

 وحول مشاعره نحو "مكة" و"المدينة" قال طه حسين: هما المدينتان المقدستان اللتان تهوي إليهما أفئدة المسلمين: من زارهما منهم، ومن لمْ يزرهما. ولم أكن إلاَّ واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يزورون مكة والمدينة منذ شرع الله الدين الحنيف للناس.

 وبعد زيارته لمدينة رسول اللهصلى الله عليه وسلم، والمسجد النبوي- حاول رجال الصحافة وأعيان المدينة المنورة أن يستمعوا للدكتور طه حسين- ببيانه الساحر، ومنطقه الرائع، وأن يظفروا بما ظفر به الجمهور في مكة وجدة. ولكنه أمسك عن القول، برغم الإلحاح الشديد والمحاولات المتكررة، معتذراً عن عدم الكلام بقوله: ما كان لي أن أتكلم بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما كان لي أن أرفع صوتي، وقد قال الله تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ)!

 وقد كتب الصحفي الكبير/ علي حافظ- يقول: شُوهِد طه حسين أثناء وقوفه عند (الحديبية) وهو يأخذ حفنة من التراب ويُقبّلها .. وعندما سئل عن ذلك، قال: "لعلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وطئَ هنا."

دعوة الخليل إبراهيم                          

 وقد ألقى (طه حسين) كلمة في إذاعة (صوت مكة المكرمة) قال فيها: ما وقفتُ مثل هذا الموقف قط؛ إلاَّ تذكرتُ دعوة أبينا إبراهيم رَبَّه (واجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). وما أروعَ التعبير بـ(أفئدة من الناس) في هذا الموضع الكريم، فالفؤاد في الإنسان خلاصة نفسه وروحه .. وأفئدة الناس –كرامهم وكبارهم وعظماؤهم- وإذا كان التبعيض والتقليل في كل شيء كريهاً إلى الناس، لأنهم يحبون الإسراف والوفرة والإسهاب في كل شيء .. فما أروعَ التبعيض في هذا الموضع، ثم عطف على الدعوة الأولى، الدعوة بالثمرات، وفي هذا ما يفيد ثمار هذه الأفئدة من إنتاجهم واجتماعهم، وفي هذا ما يحقق المعنى الكريم الذي قصده الإسلام بفريضة الحج، وسُنّة العُمرة، والاجتماع على الخير، والائتمار عليه. وهذا هو سبيل الإنسانية إلى الخير، وهذا هو ما يجعل هذه الفئة التي اختارها الله لجوار حرمه قادرة على أن تؤدي واجبها كما فرضه الله عليها، وبذلك اختتمتْ الدعوة بـ(لعلهم يشكرون). حين يكونون بهذا أقدر على الشكر، وعلى حسن الجوار، وأداء واجبهم نحو الإنسانية والعروبة والإسلام.

لا يحب شيئاً من مؤلفاته!

المؤسف؛ أنه لم يتوقف الكُتَّاب والباحثون عند هذه الرحلة وأحداثها، ربما لأنه لم يسجّلها في مؤلفاته، أوْ لأنها ظلتْ حبيسة بطون الصحف السعودية دون أن يجمعها أحد، إلى أن نجح –مؤخراً-الأديب السعودي/ محمد القشعمي- في جمعها في كتابه "طه حسين في المملكة"!

حوار نادر مع طه حسين

    ولعلنا لا نعجب عندما نعلم أنه في كل مكان ذهب إليه (طه حسين) في جزيرة العرب؛ وجد حفاوة بالغة، وترحيباً حاراً .. فقد كانت شهرته ملأتْ الآفاق، وانتشرت آراؤه ومؤلفاته في كل مكان! وهناك تعرّض لكثير من الأسئلة في مختلف القضايا ... ومن هذه الأسئلة التي طُرِحتْ عليه:

ما هي انطباعاتكم الروحية التي أحسستم بها عند قدومكم إلى هذه البلاد؟

فقال: ما أكثر ما ألقيَ عليَّ هذا السؤال، وكان جوابي دائماً واحداً، وهو أن أول ما شعرتُ به ومازلتُ أشعر به إلى الآن، هو هذا الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام.

وسئل الدكتور/ طه حسين: ما هو إحساسكم حين تجردتم في ملابس الإحرام؟ وبماذا دعوتم الله في المسجد الحرام؟

أجاب: أؤثر أن يترك الجواب على هذين السؤالين لِما بين الله وبيني من حساب، وإنه لعسير، أرجو أن يجعل الله من عسره يسرا.

   وسئل –أيضاً- عن شعوره نحو مهبط الوحي؟ فقال:

أمَّا رأيي فيها فهو رأي كل مسلم يقدِّر مهد الإسلام حق قدره، ويتمنى أن تكون مشرق النور في مستقبل أيامها كما كانت مشرق النور حين اختصها الله بكرامته، فابتعث فيها (مُحمَّداً) عليه الصلاة والسلام شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل عليه القرآن هُدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان.

تواضع طه حسين

وقيل له: بصفتك عميداً للأدب العربي .. كيف تنظر إلى مؤلفاتكم؟

فقال: لستُ عميداً للأدب العربي أولاً، وإنما هو كلام يقال. وأعتقد يقيناً وصدقاً وحقيقة، وبكل إخلاص، أنني لمْ أُوفَّق في تحقيق أمنيتي كما ينبغي، فقد قصّرتُ في كل كتاب، ولذلك لا أوثر من مؤلفاتي شيئاً.

وسئل عن أول مؤلفاته الإسلامية وآخرها؟

فقال: كتاب (على هامش السيرة) وآخرها (مرآة الإسلام).

وسئل أيضاً: ما هي أحب مؤلفاتك إليك؟

فقال: أمّا عن مؤلفاتي فلا أحب منها شيئاً.

كما سئل عن الشخصية التي استهوته؟

 فقال: أولاً؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثانياً: عمر بن الخطاب، وثالثاً: عليّ بن أبي طالب.

وقيل له: ما الذي تنصحون به رجال الثقافة في البلاد العربية والإسلامية؟

 لا أنصح لهم، لأني أهون من ذلك! وإنما أتمنى أن يرفعوا الثقافة والأدب والعلم والفن فوق منافع الحياة المادية وأغراضها، وأن يؤثروها على كل شيء، وأن يتخذوها غايات لا وسائل، وهم مطمئنون إلى أن الرجل المثقف أنفع لنفسه وللناس من الرجل الجاهل، وأن العقول التي يقومها العلم ويزكيها الفن هي وحدها التي تستطيع أن تنتج، وأن تملأ الدنيا خيراً.