الجمعة 27 سبتمبر 2024

إنسان حلايب وشلاتين

23-8-2017 | 18:38

تحقيق ميداني: محمد شلبى أمين

هذه الرحلة مُرهقة مُمتعة. "الهلال" كانت هناك في جنوب الجنوب. في مثلث حلايب وشلاتين المصرية: أرض الذهب والسمك والشمس والأساطير. الناس هناك يتحدثون باللغة البجاوية غير المكتوبة إلى جانب العربية. الناس هناك تحافظ على الطقوس المتوارثة، وتحفظ الحكايات والأساطير، وتمارس فعل الحياة والإبداع مع طلعة كل صبح. مشاهد الرحلة فكرة ومشهد وجواب من إنسان حلايب وشلاتين ، المدينتين اللتين يأتي ذكرهما فقط كحدّوتة حدودية في نشرات الأخبار. 

ناس المثلث

غالبية السكان في حلايب وشلاتين من إثنية البجاة، الذين يقطنون سواحل البحرالأحمر بجميع الدول الإفريقية،وهم من أقدم شعوب سكان إفريقيا، وخرج من رحمها قبيلة البشارية، والتى تفرع منها: حمدأواب، وشنيتراب،وعامرآب،وعلياب، ويمثلون 70% من سكان المثلث إضافة إلى قبيلة العبابدة والبشارية وهم حماة الجنوب، حيث ساهمت خبرتهم ومعرفتهم المتقنة للدروب الصحراوية الوعرة في اختيارهم لسلاح الهجانة، أحد أفرع سلاح حرس الحدود المصري، والذي أنشئ عام ١٨٨٧م لحماية الحدود المصرية من المخاطر. وتعد قبيلة الرشايدة ،التى تقطن منطقة السوق بالشلاتين،أقل عددا بالنسبه للبشارية والعبابدة.

الحياة اليومية

اللغة التى يتحدثها أبناء قبيلة البشارية إلى جانب العربية،هى البجاوية،وتعد الأكثرانتشارا بالمنطقة، وهى مثل النوبية تنطق ولا تكتب، فعندما يكون بينهم أجنبى من خارج منطقتهم يتحدثون فيما بينهم بها، وهناك عدد كبير من أبناء البشارية لا يجيدون العربية من قاطنى الأودية الجبلية. ومعظم السكان، وخاصة الذين يقطنون الأودية الجبلية يعتمدون فى حياتهم على رعى الإبل، والماعز، والضأن ولايعرفون الزراعة، إلا فى حالات نادرة حينما يزرعون الشعير والذرة،والبطيخ، وبعض الصوب مزروع فيها الخياروالطماطم، رغم أن الشلاتين تضم مليون فدان من أخصب الأراضى الموجودة بالمنطقة، وتتميزبأنها مسطحة، وتعتمد فى ريها على المياه الجوفية،(على بعد 30مترا)،ومياه الأمطار، ومياه الندى،ولا تحتاج إلى مجهودات لزراعتها.

* ولغنى المثلث بالثروة السمكية، يوجد فى كل مدنه مايسمى بقرية الصيادين، يعمل معظم أهلها بصيد الأسماك ويكون مصدر دخلهم، منها الناجل، والمحسن، والشعور، والكشر، والشرفان والقليل منهم يعمل بالتجارة، وخاصة تجارة الأعشاب،والفحم والإبل والضأن.

كما تعتمد الشلاتين بشكل كبيرعلى تربية وتجارة الثروة الحيوانية، حيث تنطلق"الدبوكة" قطيع الجمال الذى يبلغ تعداده حوالى 1000 جمل، حاملة أرقاماً تسلسلية معلقة فى آذانها،فى رحلة شاقة مسيرة 40 يوماً فى قلب الصحراء،التى لا يعرف أسرارها سوى الخبراء من الأدلاء، قادمة من السودان إلى بوابة مصرالجنوبية (معبر رأس حدربة ) فى حلايب، لتسير أياماً أخرى فى الصحراء،إلى أن تحط رحالها فى تبة الجمال، بالسوق الدولى.

فى الجهة الغربية لمدينة الشلاتين، والممتد على مساحة 80 ألف متر مربع، أهم وأبرز أسواق الجمال فى العالم،حيث يوفرحسب آخر الإحصائيات 90% من احتياجات مصر من الجمال،وبوصول الجمال إلى السوق، يتم إدخالها إلى الحجر البيطرى،للتأكد من خلوها من الأمراض، واستبعاد المريض منها حتى يتم شفاؤه،وتخضع هذه العملية لإجراءات صارمة،يتم فيها سحب عينات دم من الجمال وتحليلها فى غضون يومين كالمعتاد،لتحمل بعدها "ختم الجودة" ليس فقط لأنها جمال سودانية، تنتمى للبلد الذى يصنف الثانى عالميًا من حيث امتلاك الجمال ويعتبرها من أهم موارد ثروته الحيوانية، وإنما أيضًا وصولها يعنى أنها من الجمال القوية السليمة التى نجحت فى تحمل هذه الرحلة الشاقة الممتدة لأربعين يومًا فى الصحراء.

والشلاتين سوق مفتوح للتجارة الحرة بين مصر والسودان، فتزدهر مع تجارة الجمال،تجارة الأغنام والماعز،كما تعبر الحدود سيارات نقل البضائع السودانية بأعداد كبيرة جدا، فتأتى محملة بالكثير من البضائع السودانية ،مثل النباتات الطبية، والعطرية،والجلود الشاى،والتوابل،والصمغ العربى،والكركديه،والفاصوليا،واللبان، والسيوف ومن المهن التى يتميزبها أبناء المنطقة، أدلاء الطرق،ومقتفو الأثر،يمارسها حتى الأطفال، الذين يستطيعون أن يميزوا حافر الضأن من الماعز،فى عبقرية شديدة.

وتنتشر الصناعات والحرف اليدوية، مثل صناعة سرج الجمل، وزينته، ويستخدم فيه الجلد،والصوف والودع وصناعة جراب السيف، ،وصناعة الأحجبة، وصناعة جراب حفظ السهام، وجراب حفظ الأغراض الشخصية، يستخدم فيها المشغولات الجلدية، وصناعة الحصير،والبرش من سعف النخيل،وصناعة بعض الأدوات الموسيقية.

الجَبّنَة

الجَبّنَة هى المشروب الرسمي الخاص بقبائل البجا في مثلث حلايب وشلاتين، وهى عبارة عن خليط من البن الأخضر، يحمص جيدا، ويدق فى الهون، يضاف إليه القليل من الجنزبيل، والحبهان، وبعض الأعشاب؛ تختلف في طريقتها عن القهوة العادية في بعض التفاصيل،تغلى،وتقدم للضيف المرغوب فيه كأهم طقوس الضيافة ،أماغير المرغوب فيه،سلام وفقط ،دون جَبّنَة.يشربونها في كل وقت، فى فناجيل صغيرة ،أعداد فردية،أقلها ثلاثة،ويتشاءمون من شرب فنجال واحد. ارتبط ذلك عندهم بالكثير من المعتقدات.

وتؤكد الروايات أن البجا عرفوا الجَبّنَة في القرن الثامن الميلادي أثناء حكمهم لبلاد الحبشة،و يعززهذا أن البن الحبشي والجنزبيل الأثيوبي هما ركائزها حتى يومنا هذا.انتشرت الجَبّنَة من خلال البجا في كل البلاد التي سكنوا فيها حتى أصبحت المشروب الرسمى في جنوب مصروشرق السودان.ولو خيروا بينها وبين الطعام لاختاروها.

 

الطعام والملبس والطقوس

عام الغداء غالبا يكون "عصيدة"، وهى دقيق وماء ساخن يضاف إليهما العسل أوالملوخية الجافة، والخبزالبدوى ويسمى "الجبورى"، وهو قرص من عجينة الدقيق والملح يتم دفنه بالرمال الساخنة لمدة 10 دقائق. ومن أشهر الأكلات "السلات"، وهى عبارة عن لحم الضأن أو الماعز الذى يشوى على أحجار البازلت،والتى دائما ما يتم تجهيزها فى أغلب المناسبات وفى شهر رمضان.

الزى الرسمى هناك هو" السواكنى، والقميص أو الداخلى، يشبه الجلباب،  ويعلوه السديرى كما يطلق عليه" البجا "، يرتديه غالبية أبناء الشلاتين الذين يتميزون بالشعر الكثيف الأسود، ويرتدون الملابس الخفيفة من قماش الدمور،للتكيف مع البيئة لأنه يصنع من القطن،لترطيب الجسم،إضافة إلى لونه الأبيض الذى يعكس أشعة الشمس  ولايمتصها، ويستعملون الطيب فى كثير من طقوسهم،وحياتهم اليومية.

ويحتفظ أهل المثلث بطقوسهم الخاصة، ففي الولادة مثلا تتناول المرأة التمرأوالبلح لتسهيل عملية الولادة، التى تسمى "توفرت"، ولا يمكن للنسيبة (الحماة)،الدخول أثناء الولادة،ومن العيب أن تصرخ المرأة أثناء الوضع مهما كان الألم، وإذا كان المولود ذكرا،تخرج النساء فى شكل زفة يغنين"ت امناى واروك اموم يك"،ثم يربط ما يسمى بالحبل السرى،أوالسرة فى الشجرة العالية،أوتدفن قرب المسجد للدلالة على رغبتهم فى أن يكون متدينا،أوترمى فى البحرإذا كان قريبا،حماية للمولود من الأرواح الشريرة،أما إذا كانت أنثى فتدفن خلف البيت دلالة على رغبتهم فى استقرارها فى البيت، وفى حالة الطوارئ يلجأون إلى المستشفى بالشلاتين، أو أسوان، أو الغردقة، وأكثر الأسماء شهرة: حسن،ومحمد،وفاطمة، وعائشة.

وتسمى عملية الختان "كشبو"وتتم للذكر فى شبه مهرجان،ويترك شعر الولد المختون لينمو فى كل مساحة الرأس، وكان الأولاد يختنون بعد سن البلوغ ،أما الآن يتم بعد السماوية،ومنهم من يختن فى سن الرابعة،والبنت تختنها القابلة على الطريقة الفرعونية.

 وإذا رغب شاب فى الزواج وضع مشطاً للشعر فى رأسه طوال الوقت، يسير به فى الشارع ،وفى عمله، وفى كل تحركاته، وعندما يتقدم للزواج من فتاة،غالبا تكون من أبناء عمومته، وهي عادة قديمة، الهدف منها، المحافظة على الهوية البجاوية، كما أن ابن العم هوالأولى حسب تقاليدالقبيلة،وبالرغم من هذا الميثاق القديم، يتقدم الشاب لطلب الفتاة من أهلها وأقاربها من الدرجة الأولى، ولا بد أن يقوم والدها باستشارة كبار القبيلة فى الموافقة عليه، وإذا زوجها بدون استشارتهم تتم مقاطعته.

ومهر العروس عند البجا محدد غالباً فى كل قبيلة، ويتفاوت من منطقة لمنطقة، وبين كل قبيلة وأخرى، ويكون5 نعجات، ومثلها ماعز، وجملاً واحداً، وملابس، أو ناقة فقط،وقد يتساهل فى ثمنها، فيقدر بأقل منه تيسيرا. وعقب الاتفاق ، يتم عزل العروس لمدة شهر داخل منزل والدها،لا يراها العريس حتى يشتاق لها.

ويتم دعوة الجميع للزفاف، وإرسال مندوب لدعوة قاطنى الأودية البعيدة، ويوضع أعلى المنزل الذى يتم فيه حفل الزفاف إشارة من القماش الأبيض، دليل على الفرح.

وتحمل السيدات عددا من الزعف "جريد النخل" يكون مربوطا بخيط من الصوف الأسود يسمى "السنكواب"، وعندما تقتربن من المكان تتعالى زغاريدهن،وتطوف والدة العريس حول منزل الزوجة وهى على بعيرها ومن معها يزغردن إعلاناً للفرح والابتهاج، ثم يحدد مكان إقامة المنزل، ويقوم العريس بإشهار سيفه، ويطوف حول المكان المحدد لإقامة المنزل معلنا حمايته لبيته ولزوجته،ويمسك العريس بالكرباج فى حفل زفافه ويضرب أصداقاءه، دليلاً على قوته،وكلما كان الصديق أقرب،كلما تحمل من الكرباج الأكثر.

الخلوة

 

رغم بناء المدارس وتوفير فرص التعلم ،إلا أن الخلوة كانت منافسا للمدرسة الحكومية، وبديلا عن المدرسة الخاصة في المثلث، فتنتشر في مدنه وقراه ، لتخدم قطاعا كبيرا من الأطفال تربية وتعليما، وتشبه فى رسالتها "الكتاتيب" التي تنتشر في قرى ونجوع مصر.

تبدأ الدراسة في الخلوة من بعد صلاة الفجر لصبية لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، مستغلة العطلة الصيفية للدراسة، وأول درس يتعلمه الصغارهو كيفية المحافظة على الصلوات في وقتها جماعة، يخرج الصغار من المسجد يتوجهون إلى الخلوة -الملاصقة للمسجد غالباً- ويحمل كل منهم لوحا خشبيا عليه آيات من القرآن الكريم،يرددها بالفصحى كما يسمعها من الخليفة ويراجعها معه،وتستمرالحصة حتى وقت الضحى، يعود الصبية إلى بيوتهم حاملين في صدورهم ارتباط الصباح بالصلاة والقرآن الكريم.

وفي الخلوة يكون الخليفة معلما ومربيا يقوم بتنشئة الصغار على التقوى وسبيل الرشاد.

يستريح الصغار من بعد الضحى، ثم يعودون للمسجد لتأدية صلاة الظهر،ويعودون للديار،ثم يعودون لخلوتهم وقت صلاة العصر، مكررين درس الصباح، ويستمرون حتى صلاة المغرب.

وتخدم هذه الخلوات عددا كبيرا من الأطفال المحرومين من دخول المدارس لعدم حصول آبائهم على أوراق ثبوتية، فتكون بديلا يعلمهم القراءة والكتابة، وتمنحهم شهادات تقدير في أحيان كثيرة.

الموت

بعد إعلان الوفاة من على قمم الجبال، تمشى النساء حافيات، ويجهزن قدحا كبيرا من نبات القرع الكبير، ويطرقن علية منتحبات، وينثرن التراب على رؤوسهن، ويعددن إيجابيات ومكانة المتوفى،ويضعن العيش والفحم رمزا للخير،وهذا اعتقاد وثنى.

تلبس قريباته ملابسه، وتسمى "هبل"، وترقص بالسيف،وتسمى"مستة"،وتخرج الجنازة بعد تجهيزها من الباب الخلفى،وتتبعها النادبات من بعيد.

وتستمر المراسم ثلاثة أيام،يقدم الطعام وبعده الجبنة،ولا تبرح الأرملة بيتها لمدة أربعين يوما،وقد ترتدى ثوبا أبيض وحذاء قديما،ولا تتطيب،ولا تستحم إلا بعد الأربعين،ويحلق بعضهن شعورهن،والبعض الآخر يصففن شعورهن فى ضفائر غليظة،تسمى"كيدوب". ولا يبكون ولا يفرشون على من مات مقتولا،حتى يقتل قاتله.ويهدمون بيت المتوفى ويعيدون بناءه بعد الأربعين،ثم تذهب النساء بمن مات زوجها إلى البحر،بعدأن تتم فترة العدة لدفع الشر،ولا يجوز أن يقابلها فى الطريق رجل.

الإبداع

 هناك "ثقافة" وحياة لا يقوى عليها غيرأهل المنطقة، فالمرأة تشتهر في منطقة مثلث حلايب وساحل البحر الأحمر بالعمل اليدوي وصناعة المشغولات الجلدية، ساهمت البيئة في تعزيز هذه الصناعة ، فمن شاطئ البحر يجمعن الصدف، ومن جلود الأغنام وصوفها تصنع النساء عدة مشغولات جلدية، كان الأصل منها في البدايات صناعة ما يحتاجه المنزل بأدوات بسيطة.

في حلايب مُبدعون مثل الفنان ضياء عبدالرازق، مدير ثقافة الشلاتين. الرجل ينظم ورش عمل فنية لرسم وتلوين جداريات على القماش باستخدام خامات مختلفة من الجبس والألوان المائية والغراء الأبيض، لرسم مناظر وأشكال من البيئة الطبيعية بالشلاتين، وتنفيذ هذه الورش مع طلبة وطالبات المدارس الابتدائية والإعدادية بالشلاتين، لتدريبهم على تنمية مهارات الإبداع واكتشاف مواهبهم وتنشئة جيل جديد مبدع.

ولا يُذكر الإبداع فى الشلاتين إلا بذكر أقطابه: الفنان محمد نعيم جامع، مؤسس فرقة سفن أب للتراث الشلاتينى والفنان عوض الله كرارعوض الله، مدرب فرقة الفنون الشعبية بمنطقة المثلث والفنان التشكيلى فاضل خالد، مدير ومؤسس مدرسة أبورماد الابتدائية، الذى تزين لوحاته،وإبداعاته اليدوية، جدران المدرسة وقصر الثقافة.

نماذج إبداعية

* ياتورير

من التراث الشلاتينى

غناء..الفنان محمد نعيم جامع

المحبوبة راعية غنم

أنا غير رأيتك ماعملت

لم أفعل سوى أن رأتك عينى

مشيتك تجذب أنظار الناس

وأرجوا حينما نموت أن ندفن معا

وأن ندخل الجنة معا

فالفرحة الكبرى فى قربك.

أغنية هدوبة..تعنى..الفرحة باللغة البجاوية

 غناء..الفنان..عوض الله كرارعوض الله.

مدرب فلكلور

هدوبة..الفرحة باللغة البجاوية

هدوبا يين عقبى العريس والعرس

بنرهانة بادواته ..أرجوكم ماتناموش النهارده

أورين آلام حواد..ليلة الحنة

اورقللاى كيكا..الولد ليس لوحده

حمدآب سناييبوا..معه أصحاب وإخوان

معدول اوبوى كامير..سيفه البتار

حمدآيت بت لعبيب..لايرفع السيف لأصحابه

ولكن يرفع السيف لأعدائه.