الأحد 5 مايو 2024

عن «محفوظ عبدالرحمن» وأولياء جيلنا الصالحين..!

24-8-2017 | 22:06

بقلم –  أحمد النجمى

بينما كنت أفكر فى كيفية إحياء ذكرى «الأربعين» لأستاذى وأبى الروحى الكاتب والناقد والشاعر العظيم «أسامة عفيفى»، التى تحل بعد غد الجمعة.. جاءنى نعى أب روحى آخر هو المثقف الكبير والفنان المبدع والسيناريست صاحب المدرسة «محفوظ عبدالرحمن».. آلمنى رحيله ألمًا عميقًا، أصابنى فى مقتل..! جرح روحى! أخافنى خوفًا أكبر من الحزن الذى ضرب قلبى!

مرة ثانية.. أجدنى مقصرًا.. فمثلما قال لى عمنا الراحل أسامة عفيفى قبل وفاته بنحو أسبوعين (مش ح أشوفك يا واد) وتواعدنا، وأبطأت الخطى- من باب حسن الظن بالزمن- فأسرعت إليه خطى الموت، تتكرر القصة بتفاصيلها: قبل نحو ثلاثة أشهر دار الحوار بينى وبين عمنا الراحل أيضًا- فقد اكتسب اللقب الموجع- محفوظ عبدالرحمن.. وقبل نحو ٣٥ يومًا من كتابة هذه السطور جاءتنى أخبار مرضه ودخوله العناية المركزة، وتواصلت مع زوج ابنته- د. خالد- عدة مرات، واطمأننت إلى أن حالته صارت أفضل قليلًا.. ثم تدهورت الحالة، وبينما كنت أفكر فى زيارته تفكيرًا جديًا، جاءنى نعيه!

يا للفرص الضائعة ياعم محفوظ.. الرجل الذى تعرفت إليه قبل عشر سنوات، فوقعت فى غرام شخصيته، كان محفوظ عبدالرحمن إذا أحب أحدًا، أشعره بأنه ابنه، لا مبالغة فى الوصف، ولا مبالغة فى خيالك- عزيزى القارئ- إذا تخيلت تفاصيل هذه الصفة.. صفة الابن، كلما ألمت بى أزمة فاصلة فى حياتى، لا يعلم عنها أحد شيئًا، وجدت العم- أو الأب- محفوظ عبدالرحمن يتصل بى، يسألنى: عامل إيه ياابنى؟ كأنه مطلع على حالى، كأنه يعيش معى، وسرعان ما ينفتح حضن واسع باتساع الدنيا، يطلب منى تفاصيل الأزمة، ثم يعطينى الرأى الصواب، أو يتدخل للحل.. يقول لى: المهم عندى أن تتفرغ لمهمتك! الأزمة انتهت، تفرغ أرجوك!

الموهوبون

ولن أطيل حيرتك أيها القارئ الكريم.. فالمهمة التى كان يطالبنى عمنا محفوظ عبدالرحمن بالتفرغ لها.. كانت (كتابة السيناريو)، وسأختصر لكم الحكاية فى قليل من الكلمات.. فأنا أمارس كتابة السيناريو منذ ٣٠ عامًا، منذ المراهقة، ولم أتقدم بسيناريو واحد مما كتبت إلى أية جهة إنتاج.. كان هناك اثنان يعلمان هذا الأمر ويدفعاننى إلى التقدم بأحد هذه السيناريوهات إلى جهات الإنتاج التليفزيونية، حينما كان التليفزيون لايزال ينتج روائع درامية، قبل ١٥ عامًا تقريبًا، كان الراحل الكبير شيخ الدراما المصرية أسامة أنور عكاشة يقترح علىّ إعادة صياغة هذه الأعمال بعد أن صارت لى تجارب فى الحياة، وكان محفوظ عبدالرحمن يقترح علىّ أن أكتب أعمالًا جديدة.. من الصفر!

شغلتنى الحياة والتهمت آلة الصحافة الجهنمية الوقت والجهد، ومرت السنوات.. ورحل أسامة أنور عكاشة -عليه رحمة الله- وبقى عم محفوظ.. وبعد رحيل عكاشة بعامين تقريبًا.. وذات اتصال رمضانى بينى وبين عم محفوظ.. إذ به يقول لى: انزل دلوقت روح مكتبة مدبولى، اشترى رواية اسمها «الطربوش»!

لم أنتظر، ذهبت من توى إلى «مدبولى» واشتريت (الطربوش)، رواية فخمة الشكل، تقع فى نحو ٤٠٠ صفحة، كتبها «روبير سوليه» وهو لمن لا يعلمه مثقف فرنسى ذو أصول شرقية، وكان مديرًا للمركز الثقافى الفرنسى فى مصر فى التسعينيات.. كانت الرواية صادرة عن دار نشر فى سوريا الشقيقة.. المهم اتصلت بعمنا الراحل، قلت له: اشتريتها.. قال: اقرأها.. وحولها إلى مسلسل تليفزيونى، وأعدك بأننى سأساعدك فى تسويقه! قرأت الرواية - خطيرة الشأن- فوجدتها غنية للغاية بالتفاصيل التى تتيح تحويلها إلى مسلسل، وليس هذا مقام ذكر تفاصيلها.. ثم.. لم أحولها إلى سيناريو.. شغلتنى الحياة كالعادة وانطفأت حماستى لكتابة السيناريو مرة آخرى، وفى الفترة التى تلت ذلك، اتصلت بعم محفوظ فإذا به يقول لى: ما تكلمنيش تانى، ح تفضل كسول لحد إمتى؟ مع الأيام، اكتشفت أن محفوظ عبدالرحمن كان يكتشف الموهوبين ويحرضهم على الكتابة، قدم أجيالًا من كتاب السيناريو، والرواية، والقصة القصيرة والمسرح فى مصر والعالم العربى، بل لا أبالغ إذا قلت أن محفوظ عبدالرحمن كان مدرسة لتخريج الموهوبين طوال الوقت.. لا يبخل عليهم بالنصيحة، ولا التوجيه، ولا التدخل المباشر لهم لكى تنفتح أمامهم الأبواب..!

الغرفة الخاصة

فى فيلا محفوظ عبدالرحمن بحى الندى فى «الشيخ زايد»، وفى أحد حواراتنا الصحفية - تحديدًا على هامش الحوار- سألته: لماذا لا نجلس فى «غرفتك السرية»! كان قد أخبرنى فى جلسة سابقة بأن له غرفة يكتب فيها ولا يدخلها غيره، «مكركبة» بالوثائق والمراجع وأشياء نادرة.. قال لى: تعالى أوريهالك يا واد! ودخلت الغرفة لأجدها -فعلًا- جبلًا من الوثائق، والأوراق، والكتب، والأعمال الفنية المتناثرة هنا وهناك، قال لى: هنا كتبت «ناصر ٥٦» و»أم كلثوم» و»حليم».. وبينما كان يحدثنى لفتت نظرى أوراق بخط يده على المكتب.. سألته: أظن أن هذه معلومات تاريخية، ستستخرج منها «سيناريو» قريبًا.. ضحك وقال: أيوه.. ده «أحمد عرابى»!

وأخذنا نتصفح الأوراق، ورجوته أن نضم هذا الجزء إلى الحوار الذى سننشره «فى المصور» - نشر فى أواخر ٢٠٠٩- وأصبح مسلسل (عرابى) هذا حلمًا للمشاهدين لكنهم لم يشاهدوه وظل حلمًا.. كان محفوظ عبدالرحمن فى هذه الغرفة الخاصة التى لا يدخلها سوى أحبائه يعتصر نفسه وثقافته ولحمه وعظامه فى أوراق، تمثل المادة التاريخية لأى عمل ينوى كتابته، حتى وإن أنفق فى هذا سنوات! حكى لى كيف أن أحمد زكى- العبقرى رحمة الله عليه- ظل يلح عليه لسنوات فى كتابة سيناريو (حليم)، لدرجة أنه قبل دخوله المستشفى ليتداوى من سرطان الرئة، صنع (بوستر) كبيرا لحليم ووضعه أمام بيت محفوظ عبدالرحمن، وذات صباح فتح محفوظ النافذة ليجد البوستر.. ارتبك، واتصل بأحمد زكى فقال له: أعمل إيه.. حبيت أشغل آلة الإبداع اللى جواك!.. وبالفعل أسرع محفوظ فى إنهاء السيناريو، الذى كان آخر أفلام أحمد زكى!

لم يمهل القدر محفوظ ليصنع دراما (عرابى) ولا دراما (سعد زغلول).. كان يتمنى لو صنعهما، حدثنى عن تفاصيل فى حياة عرابى لم أسمعها قط.. عن محاكمته وحياته فى المنفى، وعن حياته البائسة بعد عودته من المنفى.. ما أذهلنى حقًا أننى وأنا من قراء التاريخ وأزعم أننى أعرفه بالتفصيل الدقيق، لم أسمع هذه التفاصيل من قبل.. ما أذهلنى- أكثر- أن يصل كاتب سيناريو فى عمق ثقافته وعمق أمانته التاريخية إلى درجة لا يصل إليها بعض عتاة المؤرخين..!

المثقف الوطنى

كان لمحفوظ عبدالرحمن انتماؤه الفكرى، والسياسى.. هو واحد من أبناء العصر الناصرى والمتحمسين بشدة لمشروع خالد الذكر الزعيم جمال عبدالناصر.. كان وفيًا مخلصًا للتوجه الناصرى.. مخلصًا لفكرة (العروبة) ولاتجاه القومية العربية، وللفكر الاشتراكى، ولجميع الثوابت الناصرية.. كان محفوظ رجلًا وطنيًا، تحمس بشدة لثورتى يناير ويونيه، وبقدر ما كانت صحته محدودة فى السنوات العشر الأخيرة، كان محفوظ عبدالرحمن يشارك فى الثورات قدر استطاعته.. ولو بقلبه!

كانت مكتبته تضم مئات المراجع التى تلزم من يمكن أن نسميه (المثقف الوطنى).. أى الذى يوظف ثقافته فى المشروع العام للوطن: يحلم به (لقمة) حلالًا للفقراء، مدرسة جميلة وعظيمة للأبناء، مصنعًا ومزرعة.. خيراتهما لكل الناس.. تقدمًا علمياً وفكرياً يخدم الإنسان المصرى فى كفاحه الذى لا يزال مستمرًا ضد الجهل والفقر والمرض.

من هنا امتلأت مكتبته بكل المراجع السياسية والفلسفية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والفنية والنقدية، سواء باللغة العربية أو لغات أجنبية.. تدهش حين ترى هذه المكتبة ثم تطالع وجه صاحبها فتجده ذا ابتسامة بسيطة ووجه بشوش وتواضع جم.. تزداد دهشتك حين تتكلم معه.. فإذا أغرقت فى نقاش سياسى أو ثقافى مع محفوظ عبدالرحمن فعليك أن تتأكد من أنك تستطيع مواصلة هذا الحوار أو أنك تملك من الثقافة ما يؤهلك لهذا..!

أولياء صالحون

لجيلنا أولياء صالحون، ربما نكون آخر الأجيال الذين أسعدتهم الأيام بهؤلاء.. هم أولياء صالحون ليس بالمعنى التقليدى، لكنهم فى هذا الزمن الصعب، خالفوا كل «المواصفات» التى يحيا بها كثيرون ويعلو شأنهم فى الفن والأدب والثقافة: يفسد غيرهم.. وهم صالحون! يجهل غيرهم.. وهم يعلمون، يضل غيرهم.. وهم ثابتون.. يبيع غيرهم.. وهم يشترون!

ذكرت عنهما أسامة عفيفى فى أول المقال أعيد ذكره فى هذا المقام، فهو واحد من هؤلاء الأولياء الصالحين ولاشك، ومحفوظ عبدالرحمن هو واحد منهم ولاشك.. وأسامة أنور عكاشة واحد منهم ولاشك.. والأسماء ليست قليلة فى العدد ولا فى القيمة.. لاتزال مصر عامرة بأوليائها الصالحين يضيئون للمثقف المصرى طريقه.. وإن ضل الطريق!

.. ياعم محفوظ، سلام عليك حيث مقامك الراهن، أزعم أنك لا تزال حيًا وستبقى حيًا.. بأعمالك التى شكلت -وستبقى تشكل- وعى أجيال متعاقبة!